القرن الـ20 يعود ويؤكد أن الصلات بين تحفتي الموسيقيين محدودة
ملخص
ثمة في تاريخ الموسيقى عمل يطلق عليه اسم “سيمفونية بيتهوفن العاشرة”، ولكنها ليست بأية حال من تلحين بيتهوفن، بل أبدعها مواطنه يوهان برامز، أحد آخر العمالقة الكبار في الموسيقى الألمانية
نعرف طبعاً أن لودفيغ فون بيتهوفن لم يكتب سوى تسع سيمفونيات، آخرها التاسعة، تلك التي أوصل فيها الموسيقى إلى ذروة تعبيرية ما بعدها من ذروة. ونعرف أن كثراً من الموسيقيين سيقولون ويكررون خلال أزمنة تالية أنهم “وبكل صراحة” وجدوا أنفسهم عاجزين بعدما سمعوا ذلك العمل الاستثنائي، عن الزعم أن في إمكان أي منهم مضاهاته.
ومن هنا يبدو الأمر في نهاية المطاف، وكأن من شأن السيمفونية التاسعة لبيتهوفن أن تشكل حاجزاً نهائياً، وقد تدفن الفن السيمفوني الجدي إلى الأبد انطلاقاً من ذلك الواقع. ومع هذا ثمة في تاريخ الموسيقى عمل يطلق عليه اسم “سيمفونية بيتهوفن العاشرة”. ولكن لا بد لنا هنا أن نسارع منعاً لكل التباس، إلى التأكيد أن هذه السيمفونية ليست بأية حال من تلحين بيتهوفن، بل أبدعها مواطنه برامز، يوهان برامز، أحد آخر العمالقة الكبار في الموسيقى الألمانية. ولم يكن برامز من أعطى سيمفونيته، وكانت الأولى بين أربع تحمل توقيعه، ذلك اللقب، بل هانز فون بيلو. الذي من بعده سادت الفكرة وترسخت، حتى جاء الناقد ومؤرخ الموسيقى الكبير ألفريد آينشتين خلال القرن الـ20 لينقض الفكرة من أساسها في كتابه “الموسيقى في العصر الرومانطيقي”، إذ قال إن كلمات فون بيلو هذه غير موفقة، لأن هذه السيمفونية “لا تربطها ببيتهوفن إلا صلات محدودة”. وكانت الخاصية التي جعلتها تقف في صف واحد إلى جانب المؤلفات الكلاسيكية الأصلية، وتحديداً تجعلها تعد امتداداً لسيمفونيات بيتهوفن، في رأي آينشتين “ما فيها من تركيز في البناء وإتقان ورسوخ”.
وفي يقيننا أن هذه العناصر وحدها كانت هي ما جعل هواة الموسيقى وعلى رغم اعتراض آينشتين، يواصلون مقارنة سيمفونية برامز الأولى بأعمال بيتهوفن.
عندما وافق برامز
ومهما يكن من أمر، فإن برامز نفسه لم ينكر أبداً هذا الانتماء. وهو لئن كان لم يبدأ خوض الكتابة السيمفونية إلا في وقت متأخر إذ كان بلغ الـ44 من عمره حين كتب سيمفونيته الأولى، فإنه لم يخف أبداً على خاصته في الأقل، أنه إنما كان قبل ذلك خائفاً، لا يجرؤ على الدنو من عالم إذا كان بيتهوفن سيده، فإنه يجدر ببيتهوفن نفسه أن يكون خاتمته. ولكن حدث بعدما كتب برامز قطعته الرائعة “تنويعات على فكرة لهايدن” أوائل سبعينيات القرن الذي عاش فيه، ولقيت تلك القطعة ما لقيت من نجاح جعل نقاداً كثراً يتساءلون: إلام سيظل كاتب هذه القطعة مجفلاً من دون خوض الكتابة السيمفونية؟ حدث أن قرر برامز، وإن في تردد، تجربة حظه، فكتب الحركة الأولى من سيمفونيته العتيدة خلال عام 1873 وأسمعها لعشيقته كلارا شومان. وكان رد فعل كلارا مذهلاً، لقد أعجبت كلارا الموسيقية وأرملة شومان بالحركة، ولم تكف منذ تلك اللحظة عن مطالبة عشيقها بأن يكمل. فأكمل ولكن ببطء. هكذا، ولدت خلال عام 1877 تلك السيمفونية التي أتبعها برامز خلال الأعوام الـ10 التالية بثلاث سيمفونيات أخرى، ثم توقف إذ شعر بأن مهمته كمكمل لبيتهوفن، في كتابة السيمفونية في الأقل اكتملت.
بيتهوفن: حاجز يستحيل عبوره (غيتي)
لماذا تردد المؤرخون؟
مهما يكن من أمر فإن كثراً من النقاد والمؤرخين يترددون تردداً كبيراً قبل أن ينظروا إلى “السيمفونية الأولى” بوصفها أهم عمل كتبه برامز في هذا السياق، بل لعل إلحاقها -مجازاً- بأعمال بيتهوفن لم يكن أكثر من تعبير عن تلك النظرة إليها. فهذه السيمفونية حفلت بمشاعر عنيفة، درامية وبطولية، تذكر إلى حد كبير ببعض أجمل مقاطع “تاسعة” بيتهوفن. وهو تعبير لن يعود إليه برامز، في الثلاث التالية، إلا في الخاتمات التي راح يتعمد، في لعبة “ميز آن سين” ذكية، أن تكون شديدة القوة والتعبير، حتى وإن كان سياق السيمفونيات نفسها هادئاً.
وفي وقفة هنا عند سيمفونية برامز الأولى، وهي من مقام “دو صغير”، نلاحظ أنها تتألف من أربع حركات أولاها تتسم بعاطفة مشبوبة، تكاد تكون درامية خالصة، فيما تتسم الحركة الثانية بانفعالية فصيحة، قبل أن يهدأ الانفعال في الحركة الثالثة، التي بعد انسياب هادئ مغرق في الرومانطيقية تترك المجال واسعاً في الخاتمة، لحركة “أليغرو نون تروبو” لا تخلو من “صخب” وتذكر إلى حد كبير، في موضوعاتها الرئيسة على أية حال، بـ”نشيد إلى الفرح” الذي إذ يموسق فيه بيتهوفن لذلك الكورال الختامي الجيب قصيدة شيلر التي باتت منذ بدايات القرن الـ21 نشيداً لأوروبا الموحدة كما بتنا نعرف، يختتم به تقريباً سيمفونيته التاسعة. ولعل ما يميز هذه الخاتمة ويجعلها بيتهوفنية الطابع إلى هذا الحد، هو استخدام لحن يؤديه عازفو آلة “الكور”، ويذكر بالنداء المعهود في غياهب الجبال، من طريق “كور” الرعاة. واللافت أن برامز سرعان ما يحل أصوات “الترومبيت” بعدد مدهش، محل صوت “الكور”، مستبدلاً إياها بعد ذلك بنغم رائع عذب تؤديه الكمانات، في انسياب رومانطيقي يقطع على المستمع أنفاسه. ومن الواضح أن هذه النقلة المفاجئة، والتي قلما أقدم موسيقي على كتابتها قبل أن يجرؤ بيتهوفن على ذلك، إضافة إلى روح “نشيد إلى الفرح” التي تهيمن على الخاتمة، كانا ما دفعا فون بيلو إلى ذكر بيتهوفن في هذا السياق.
برامز في حديث وهمي مع مجلة باريسية: ألحن أعمالي وأنا ألمع حذائي!
“بروميثيوس” على طريقة بيتهوفن عمل موسيقي ضيعه مبدعه أم ضاع حقا؟
هدم حاجز الخوف
من ناحية تاريخية وفي سياق مسار برامز الموسيقي، قد لا تكتسب هذه السيمفونية الأولى أهميتها من تفوقها الفني الخاص -مع أنها لا تخلو من ذلك- بل تحديداً من كونها هدمت حاجز الخوف لدى مؤلفها. فهي أثبتت لصاحبها أنه لئن كان من “المستحيل” تجاوز بيتهوفن، يمكن مجاراته في الأقل. وبقي أن نذكر هنا أن برامز، قدم سيمفونيته تلك في لندن، حين اصطحب صديقه جواكيم معه نوطاتها إلى العاصمة البريطانية، خلال وقت كان برامز دعي إلى جامعة كامبريدج ليمنح دكتوراه فخرية، لكنه آثر أن يرسل جواكيم بدلاً منه. والمهم في هذا أن السيمفونية قدمت ونالت إعجاباً. وأحدث ذلك تبديلاً جذرياً في حياة برامز، إذ إنه عكف طوال الأعوام الـ10 التالية (أعوامه السيمفونية) على كتابة بقية سيمفونياته، و”الثانية” (من مقام “ري” كبير) وأتت ناعمة هادئة تفادى فيها برامز المناخ الانفعالي الدرامي والبطولي الذي سيطر على الأولى، و”الثالثة” (من مقام “فا” كبير) التي كتبها ستة أعوام بعد “الثانية”، وجعلها هادئة في الأقل في حركتها الأولى، ثم راح يصعد حتى “الخاتمة” التي صور فيها، على طريق شبهه كثر بأسلوب فاغنر لاحقاً، صراع عناصر الطبيعة الصاخب في ما بينها. وبعد هذه “الثالثة” بعام كتب برامز سيمفونيته الرابعة والأخيرة، والتي سيقال إنه كتبها مستوحياً قراءته تراجيديات سوفوكلس الإغريقية القديمة التي كان منهمكاً في قراءتها خلال ذلك الحين. وهنا أيضاً تبدو “الخاتمة” أقوى ما في هذه السيمفونية، إذ من الواضح أن برامز صاغها انطلاقاً في جملة موسيقية فتنته في “كانتاتا” باخ التي تحمل الرقم 150، ثم طورها مكرراً إياها في 31 تنويعة متصاعدة حتى النهاية.
في شباك كلارا
ولد يوهان برامز عام 1833 لأب كان عازفاً في هامبورغ. ومنذ السادسة من عمره بدأت تظهر عليه ملامح العبقرية الموسيقية. وفي العاشرة بدأ يعزف البيانو أمام الجمهور وينال إعجاباً. وفي سن المراهقة بدأ يكتب مقطوعات صغيرة. وخلال عام 1853 قدمه صديقه جواكيم إلى ليست، ثم قدمه إلى شومان في داسلدورف، فاستضافه هذا في بيته. وكانت النتيجة أن أغرم الموسيقي الشاب بزوجة الأستاذ الكهل، كلارا. ودام غرامهما طويلاً، لا سيما حين مات شومان وترملت كلارا، غير أنهما لم يتزوجا. وخلال عام 1863 انتقل برامز إلى فيينا، وكانت أعماله ولا سيما “كونشرتو البيانو” و”القداسات” و”التنويعات”، بدأت تعرف على نطاق واسع. أما عمله الأكبر قبل خوضه السيمفونيات فكان “الجناز الألماني” (1868) الذي يعد واحداً من أعظم الإبداعات في هذا النوع ويضاهي بعض إنتاجات باخ الكبرى في هذا المجال. أما بعد مرحلته السيمفونية، فإنه انصرف إلى كتابة التنويعات. ومات خلال عام 1897 متأثراً بمرض أصابه ودفن وسط جنازة مهيبة إلى جانب بيتهوفن وشوبرت.