عندما يطرح السؤال في العالم العربي حول حل الصراع العربي الإسرائيلي، ولا سيما إيقاف حرب غزة تأتي الأجوبة من معسكرين. الأول من قبل “محورالممانعة” الإيراني الذي لا يعترف أساساً بما يصفه بـ “الكيان الصهيوني”، والحل الحمساوي ” ومن خلفه قوى المحور يتلخص “بقتال عسكري” لإنهاء الكيان من النهر إلى البحر وإقامة دولة فلسطينية إسلامية موحدة. هكذا موقف راديكالي لن يكون مقبولاً على الصعيد الدولي فضلاً عن كونه غير واقعي نظراً لموازين القوى على الأرض والسلاح الاستراتيجي الإسرائيلي. يبقى بالطبع الموقف الغربي والعربي، المعروف بالدولي والذي يرتكز بشكل عام على القرارات الدولية منذ عقود وعلى سلسلة من المعاهدات الدبلوماسية، بما فيها اتفاقيات السلام بين دول عربية، بما فيها السلطة الفلسطينية ودولة إسرائيل. أما الكتلة العربية بقيادة السعودية فتضيف إلى أجندة السلام المبادرة التي أطلقتها قمة الجامعة العربية في بيروت في 2002. وتقضي المبادرة تحت مبدأ حل الدولتين، بالاعتراف المتبادل بين إسرائيل والدولة الفلسطينية الممثلة بمنظمة التحرير التي تحولت إلى سلطة وطنية فلسطينية، وحيث إن مشروع حماس و “المحور الخميني” هو عملياً رفض الحل، فبالتالي ستتجه أنظار المجتمع الدولي إلى السعودية والسلطة الفلسطينية والتحالف العربي لمعرفة رأيهم وقدرتهم على إنتاج سلام جديد ينهى حرب  غزة ويبدأ مرحلة مستقرة تمنع حروب المستقبل.

أسس الحل العربي

منذ المبادرة العربية لحل الدولتين في 2022، والزمن يطور الموقف العربي الإقليمي تجاه الصراع التاريخي. بيان بيروت في 2022 أكد على مبدأ قيام دولتين. دولة قائمة وهي إسرائيل ودولة تنتظر قيامها وهي فلسطين، وقد وضعت حدود 1976 كأساس للصفقة، وكان من المنتظر أن يضع ياسر عرفات ثقله في الميزان لحسم الملف، لا سيما مع وجود الجيوش الأميركية من أفغانستان إلى العراق وضعف الموقف الإيراني حينها. إلا أن الموت غيّب القائد الفلسطيني في 2004، وشبت حماس لتسيطر على قطاع غزة في 2007 فارضة معادلة جديدة على الأرض. فبات هنالك عملياً، كما كتبنا سابقاً، كيانين فلسطينيين، واحد في الضفة، وآخر في القطاع تفصلهم الدولة العبرية. وبدا أن الحل العربي الأساسي كان يصبو إلى اعتراف بفلسطين موحدة وليس اثنتين، توقع على صلح مع إسرائيل لبناء مستقبل إقليمي مزدهر لشعوب المنطقة. ولكن مواجهات المنطقة خارج إسرائيل شلت الحل العربي المعتدل. فبينما مشت فلسطين عرفات في الضفة باتجاه التطبيع بموازاة التحالف العربي مشت “غزة حماس” باتجاه الرفض و”الحرب ضد الصهيونية” بتشجيع إيراني. مما أدى عملياً إلى انشطار فلسطيني بين دولتين، وسقوط حجة الدولتين بين العرب وإسرائيل.

ومرت السنوات بين الخيارين، عرب الاعتدال الذين اختاروا طريق إقامة الدولة الفلسطينية تحت أوسع أرض ممكنة عاصمتها في القدس. وقد تمكن التحالف العربي من إنجاز عدة معاهدات سلام وصلت في نهاية المطاف إلى شبه محاصرة إسرائيل بمصالح هائلة، كانت تمهد لمرحلة الضغط الأخير لاستخراج الصفقة الخاتمة للصراع وإطلاق الدولة الفلسطينية “بأراضيها”، في الضفة والقطاع. ولكن محور الممانعة انقض على آلية السلام، مستفيداً من سيطرة أنصاره على غزة. وحيث إن العرب والغرب متمسكون بصفقة مع “كل فلسطين” وليس جزءاً منها، بات من شبه المستحيل إنجاز الفصل الأخير من “صفقة القرن”.

واستفادت إسرائيل من الانقسام الفلسطيني، الذي يغذيه النظام الإيراني للحصول على اعترافات أميركية غير مسبوقة خلال رئاسة دونالد ترمب، من القدس إلى الجولان. وقد استعمل التحالف العربي “معاهدات أبراهام” لتثبيت مطالبته بحل الدولتين بشرعية السلطة الفلسطينية، ومن أهم خطوات التحالف العربي أنه أقنع، بمبادرة من الإمارات، الحكومة الإسرائيلية في صيف 2020 بأن لا تضم بعض الأراضي على حدود الضفة من الأردن، قبل تفاوض شامل مما أدى إلى تجميد الضم، مما يثبت أن عرب الاعتدال لهم مقدرة، لا سيما اقتصادية ودبلوماسية، أن يحصّلوا للفلسطينيين ما لن تتمكن أن تنتزعه إيران بالقوة. وهذا يفسر دفع الجمهورية الإسلامية لقيادة “حماس” لشن حرب 7 أكتوبر (تشرين الأول) التي أقحمت إسرائيل في اجتياح غزة.

 

حرب غزة والحل العربي

ما فعلته حرب غزة حتى الآن هو محاولة إضعاف حظوظ “المشروع العربي للحل”، أي عبر تأخير الحوار السعودي الإسرائيلي حول حل الدولتين، وإفهام الجميع في المنطقة والغرب أن الحل الوحيد للحرب والأزمة هو عبر طهران وذلك من خلال أجندة “حماس” الرافضة للدولتين، والرافضة للسلطة الفلسطينية. وكأن الميليشيات الإيرانية في فلسطين والمنطقة تقول إن المشروع العربي للسلام قد افترسه المشروع الإيراني. فإما أن تسيطر طهران على إدارته أو يعود المشروع إلى حضن التحالف العربي. وفلسطينياً، إما أن تخرج “حماس” منتصرة في تمثيلها للفلسطينيين، أو تعود السلطة الفلسطينية لتمثيل الشعب الفلسطيني في المفاوضات. نذكر أنه عندما أخرجت إسرائيل عرفات من بيروت ظلت آلته في مناطق أخرى بما فيها طرابلس، إلا أن من أخرج الورقة الفلسطينية من لبنان كان محور إيران عبر المنشق “أبو موسى” والاستخبارات السورية، وميليشيات “أمل” و”حزب الله” عبر حرب المخيمات. مما يعني أن طهران والأسد أخرجا الشرعية الفلسطينية من لبنان واستبدلاها ببعض الفصائل المنتمية لنظام الأسد وميليشيات الجمهورية الإسلامية. لكن ياسر عرفات وقياداته عادوا ليس فقط إلى أرض فلسطينية، ولكن إلى حكم ولو جزء من الضفة مما أغضب الملالي فشنوا انقلاباً على خليفة عرفات، محمود عباس، في غزة في 2007. وعادت ثنائية السلطة إلى الأراضي الفلسطينية، حتى محاولة إيران ومحورها من جديد لإسقاط المشروع العربي لفلسطين واستبداله بـ “المشروع الخميني”.

العرب والغرب

على ما هي الأوضاع عليه الآن، فالسباق عاد بين المشروعين مع “حماس” في الطليعة، ولكن حتى انتهاء حرب غزة. الموقف العربي حازم في أهدافه المعلنة: دولة موحدة بين الضفة والقطاع تحت قيادة السلطة الشرعية مع تنازلات إسرائيلية تحسم الاتفاق النهائي حول حجم الأرض والعاصمة. طهران تريد إنهاء مشروع التحالف العربي للفلسطينيين عبر استمرار الحرب والهدن، وقد تطول هذه المعادلة حتى الانتخابات الأميركية.

والسؤال الآن هو ما بإمكان العرب والغرب أن يقوموا به. إحدى الأفكار هي أن يقفز التحالف العربي فوق الأحداث ويدعو إلى قمة عربية يحضرها عباس، ويتم فيها إعلان مبدئي عن الدولة الفلسطينية بما هو قائم الآن أي بأجزاء من الضفة ورفض الحرب والإرهاب، ودعوة التحالف الدولي إلى مساعدة الدولة الجديدة على حماية نفسها، والدعوة إلى قمة عربية – غربية لمباركة الإعلان، يليها قمة لأعضاء “معاهدة أبراهام” لقبول السلطة الفلسطينية على أسس الدولتين ورفض الإرهاب. أما الحدود وملف القدس فيتحولان إلى ملف حوار دائم حتى حسمها بواسطة “الآلية الإبراهيمية”. وماذا يعني ذلك؟ أن يتم فصل المحور الإيراني عن استيلائه على الورقة الفلسطينية، وإقناع إسرائيل بأن أفضل حماية للسلام بالإضافة إلى قوتها هو شراكة عربية تحتوي الفلسطينيين وتحميهم من إيران.

ولكن هل ستساعد واشنطن على ذلك في ظل سعيها المتواصل للعودة إلى الاتفاق النووي؟ سنرى