…
فشلت الأنظمة الشمولية التي نغّصت عيشنا في المئة سنة الأخيرة، في بناء دول حديثة ومجتمعات متماسكة. أبعد من ذلك، قادتنا إلى حروب بينيّة وأهليّة لا عدّ لها ولا حصر. فلِم لا نجرّب اللامركزية الإدارية مترافقةً مع مركزية أمنيّة ـ عسكريّة؟
اللامركزية حديث الأحاديث في العالم العربي. الباعث على الخوض فيها ما يجري في سوريا من توتّرات أمنيّة تتنقّل من منطقة إلى أخرى في الوطن الواحد. وإذا كانت المطالبة بها حكراً على فئة من اللبنانيين تاريخياً، هي المسيحيون عموماً والموارنة خصوصاً، فهي اليوم مطلب لغالبيّة الأقليّات في هذا الشرق. وإن كانت تاريخياً مطلباً لبنانياً تخشاه الأنظمة التي كانت محيطة بنا، فهي اليوم بضاعة تصدّرها إلينا الأنظمة التي حلّت محلّها اليوم، خاصّةً في العراق وأخيراً سوريا.
ما يجري هناك لا يمكن أن يظلّ هناك، وألّا ينتقل إلى لبنان، لأسباب عديدة أبرزها أنّ المكوّنات الموجودة هناك موجودة هنا، وبينها وشائج وصلات قربى. فهناك دروز وهنا أيضاً، وكذلك الأمر مع المسيحيين والعلويين والشيعة والأكراد وحتّى السنّة، وإن تفاوتت الأعداد واختلفت النسب.
تطبيق اللامركزية الإدارية هناك يستدعي تطبيقها هنا. فهل تكون اللامركزية الإدارية مصحوبةً بمركزية أمنيّة وعسكريّة في هذه الدول، سبيلاً إلى بناء دول حديثة تحترم خصوصيّة مكوّناتها المتعدّدة والمتنوّعة، وسبيلاً إلى الاستقرار؟ وهل يحمي هذا النموذج في الحكم الفسيفساء الاجتماعية لهذا الشرق ولهذه البقعة الجغرافيّة؟
قرن كامل من الانقلابات العسكرية وحكم الطواغيت وعسكرة المجتمعات والأنظمة من أجل لا شيء
معادلة البقاء والاستقرار
في ظلّ التحوّلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية العميقة التي شهدتها سوريا أخيراً، برزت حاجة ماسّة إلى إعادة النظر في هيكلية الدولة ودورها. وتظهر اللامركزية الإدارية خياراً إصلاحيّاً جوهريّاً. فاللامركزية الإدارية تتيح للمناطق إدارة شؤونها بما يتلاءم مع خصوصيّاتها، مساهمةً في الحدّ من النزعات الانفصالية.
لكن بالموازاة مع هذه اللامركزية الإدارية، تبرز حاجة إلى مركزيّة أمنيّة ـ عسكريّة تكون ضمانة أساسية للحفاظ على وحدة الدولة وهيبتها، وضبط السلاح ومنع الانقسامات الداخلية. غياب سلطة أمنيّة موحّدة وفاعلة يفتح الباب أمام التفلّت الأمنيّ وعودة منطق الميليشيات، وهو ما أثبتت التجارب أنّه يهدّد وجود الدولة نفسها. وعليه، يشكّل دمج اللامركزية الإدارية بالمركزية الأمنيّة صيغة توازن دقيقة بين تعزيز الديمقراطية المحلّية وحماية الأمن القومي.
اللامركزية
هذه الثنائية ليست خياراً إداريّاً، بل هي استراتيجية لبقاء الدولتين اللبنانية والسورية: اللامركزية تمنح الناس الشعور بالمشاركة والعدالة وتحرِّك عجلة التنمية، بينما المركزية الأمنيّة ـ العسكريّة تصون السلم الأهليّ وتضمن استمرارية المؤسّسات الوطنية.
نيران لا تنطفئ
لا تنطفئ الحروب في الشرق الأوسط. تخمد نيرانها ردحاً من الزمن لكنّها سرعان ما تشتعل، حارقةً في طريقها الأخضر واليابس. لا تكاد تنطفئ واحدة حتّى تشتعل أخرى. من الساحل السوري إلى السويداء، ومن شمال العراق إلى جنوبه، وفي لبنان مع صغر مساحته.
يطالب الأكراد في سوريا والعراق بحكم ذاتي، وقد حقّقوا شيئاً منه في إربيل. كذلك يفعل الدروز في السويداء، والمسيحيون أو الموارنة في لبنان، ويبدو أنّ العلويين سائرون في هذا الاتّجاه، ولو بعد حين.
تسود مطالب الانفصال والحكم الذاتي الساحات السياسية في دول المشرق العربي أو ما بقي منها، والحبل على الجرّار. والحكم الذاتي أو النزعات الانفصالية لا تكون فجّةً عادةً، وتتنكّر في أزياء عدّة، أبرزها وأوضحها وأخفّها وطأةً اللامركزية.
تنافر عميم
إلى ذلك، تشهد غالبيّة البلدان العربية، خاصّةً دول المشرق العربي أو ما يُعرف ببلاد الشام تاريخيّاً، تنافراً مقيتاً بين مكوّناتها أو إثنياتها المتعدّدة وطوائفها المختلفة. يُترجم هذا التنافر حروباً ومطالب بالتقسيم أو بالحكم الذاتي في أكثر من جهة.
اللامركزية الإدارية تتيح للمناطق إدارة شؤونها بما يتلاءم مع خصوصيّاتها، مساهمةً في الحدّ من النزعات الانفصالية
حكاية هذا التنافر قديمة قِدم وجود هذه المكوّنات وعيش بعضها بجانب بعض، أو اضطرار بعضها إلى العيش بجانب بعض بحكم الجغرافيا وغيرها من العوامل السياسية والاقتصادية. لم تفلح غالبيّة نماذج الحكم والتقسيمات السياسية والإدارية في صهرها وجعلها بوتقةً واحدةً تعيش تحت ظلّ عقد اجتماعي لم تتوصّل إليه يوماً، أو تُجمع عليه. فما شهدته هذه المكوّنات منذ فجر التاريخ لا يعدو كونه حكماً من فوق، أو مشاريع حكم ودول وأنظمة فُرضت فرضاً على هذه البلاد.
قرن كامل من الانقلابات العسكرية وحكم الطواغيت وعسكرة المجتمعات والأنظمة من أجل لا شيء. عدنا قبائل وطوائف لا يجمع بينها جامع، إلّا هذه البقعة الجغرافيّة وضرورات العيش والاستمرار. الدول التي رسمت بينها حدوداً وأقامت في ما بينها علاقات دبلوماسية وغير دبلوماسية، فشلت في أبسط واجباتها: بناء علاقة أو علاقات سليمة بين أبنائها، فما كانت أوطاناً وما كان مَن فيها مواطنين. هذا ما فعله نظاما البعث في سوريا والعراق، والغلبات الطائفية في لبنان. جلّ ما فعلته أن فرضت نفسها فرضاً على سكّان هذه البلاد من دون أن تقدّم لهم شيئاً يُذكر اجتماعياً ولا اقتصادياً ولا سياسياً ولا حتّى ثقافياً. أكثر من ذلك، فرضت عليهم أن يقوموا بواجباتهم تجاهها، دون أن تقوم هي بأدنى واجباتها، والمواطنة واجبات وحقوق.
مركزيّة ولامركزيّة في آن معاً؟
فشلت الدول وأنظمة الحكم المركزية في بناء أوطان، والدليل ما يجري اليوم من أقصى شرق العراق إلى أقصى جنوب فلسطين. حاولنا بناء دول قومية، وانتهينا إلى فشل ذريع وعداوات لا تنتهي. وجرّبنا فرض أنظمة مركزية وشمولية على تلك المكوّنات وانتهينا إلى حروب واقتتالات أهليّة وبينيّة. جرّبنا بكلّ الوسائل الممكنة: بالديمقراطية كما في لبنان، وبالقمع والعسكر والفرض في سوريا (زمن آل الأسد) والعراق أيّام الرئيس الراحل صدّام حسين. فلماذا لا نجرّب المزاوجة بين اللامركزية الإدارية والمركزيّة الأمنيّة ـ العسكرية، بحيث تبقى هذه الأوطان من دون تجزئة، وتحيا فيها الأقلّيات “بكرامتها” و”خصوصيّاتها”؟