شهدت الدولة العثمانية أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ظهور مدارس وأنظمة تعليمية جديدة. كان الهدف من هذه المدارس تشكيل نخب جديدة تُسهم في تسيير شؤون الدولة من جهة، وتُظهر ولاءً أكبر للسلطة من جهة أخرى، واللافت أن أثر خريجي هذه المدارس لم يقتصر على الحقبة العثمانية فحسب، بل امتد إلى ما بعدها.
لفت المؤرخ الأمريكي مايكل بروفنس، في كتابه عن الجيل العثماني الأخير، إلى أن معظم النخب العربية التي شاركت في إدارة الحكم في النصف الأول من القرن العشرين، كانت من خريجي المدارس العثمانية، سواء في العراق أو سوريا أو ليبيا. وربما لأهمية هذا الجانب، ازداد اهتمام الباحثين في السنوات الأخيرة بدراسة دور المدارس العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر، وتتبع تطورها. من أبرز ما كُتب، العمل الموسوعي للمؤرخ العراقي فاضل بيات حول المدارس العثمانية في المشرق العربي، الذي تميّز بتوفيره معلومات دقيقة عن كل مدرسة آنذاك ومناهجها الدراسية. ومن بين المدارس التي تركت أثراً واضحا في تلك الفترة، برزت «مدرسة العشائر» التي خُصصت لتعليم أبناء القبائل العربية وبعض العشائر الكردية والألبانية. وتُعد دراسة يوجين روغان (1993) من أوائل الدراسات التي تناولت هذه المدرسة، متتبعة ظروف تأسيسها وحياتها الداخلية والأهداف الكامنة وراء إنشائها. لاحظ روغان أن السلطان عبد الحميد الثاني، وفي إطار سعيه لمدّ شبكات السلطة إلى الأطراف، بالتوازي مع إنشاء خطوط التلغراف والسكك الحديدية، حاول نسج علاقة جديدة مع القبائل من خلال تعليم أبنائهم في مدرسة داخلية، بهدف كسب ولائهم لاحقا، وتحويلهم إلى نخب موالية للدولة والسلطان. وقد بقيت دراسة روغان، المعتمدة على الأرشيف العثماني، مرجعا رئيسيا في هذا المجال، ونُشرت لاحقا باللغة العربية، دون أن تتوفّر دراسات أوسع عنها لفترة طويلة.
إلا أن هذا الوضع تغيّر مؤخراً مع صدور كتاب المؤرخ التركي محمد علي نيزي «مدرسة العشائر الإمبراطورية: تعليم النخب الإقليمية أواخر الدولة العثمانية» الصادر عن دار بلومزبري. يقدم الكتاب معالجة موسعة لظروف إنشاء المدرسة عام 1892 في إسطنبول، مع تسليط الضوء على الحياة اليومية فيها، ومصائر طلابها لاحقا، في ضوء تأثر المؤلف برؤية مايكل بروفنس حول الدور اللاحق لهؤلاء في حقبة ما بعد العثمانية.
استند نيزي إلى أرشيف المدرسة، وعدد من المجلات والصحف العثمانية، وكذلك العربية، التي كانت تنقل أخبار المدرسة، مثل مجلة «ترجمان الحقائق» الصادرة باللغة العثمانية، التي أفردت عام 1895 تقريراً عن عراك نشب بين الطلاب العرب والأكراد داخل المدرسة. خُصصت المدرسة في بداياتها لأبناء العشائر العربية، إلا أن بعض أبناء العشائر الكردية، خاصة المنضوين في الفيالق الحميدية، طالبوا بتخصيص مقاعد لأبنائهم، كما خصصت لاحقا أماكن لأبناء بعض العشائر الألبانية. ويلاحظ المؤرخ أن بعض القبائل، كقبائل بغداد، امتنعت عن إرسال أبنائها، في حين أبدى شيوخ العشائر السورية والليبية حماسة أكبر للمبادرة، انطلاقا من رغبتهم في إشراك أبنائهم في المؤسسات العثمانية. وقد تنافس بعض هؤلاء الشيوخ على حجز مقاعد لأبنائهم في المدرسة، وأرسلوا رسائل بهذا الخصوص. يُحسب للكتاب تصحيحه للأرقام الواردة في دراسة يوجين روغان؛ إذ قدر روغان عدد طلاب المدرسة بـ210 طلاب، بينما يرى نيازي أن العدد تجاوز350 طالبا. كما أورد قائمة بأسماء الطلاب والعشائر التي ينتمون إليها.
في الفصل الثاني، يتوقف المؤلف عند تفاصيل الحياة داخل المدرسة، معرفا بأسماء المشرفين عليها، وعلى رأسهم المدير الثاني للمدرسة: علي ناظم بك. ووفقا لسيرته الذاتية، وُلد في إسطنبول عام1861 كان جده عارف، من أوائل خريجي كلية الطب، وأُرسل إلى فيينا لإتمام دراسته، بينما أصبح والده أحمد سرفيت طبيبا وجمع بين العمل الطبي والمناصب الإدارية، وتولى لاحقا منصب حاكم منطقة، كما كان من مؤسسي جمعية الهلال الأحمر العثماني. درس علي في مدرسة غلطة سراي، وكان يجيد الفرنسية، ومطّلعا على اللغتين العربية والفارسية. ألّف كتابا عن التمارين البدنية، أشار فيه إلى غياب كتب مدرسية تُعنى بالرياضة، رغم كثرة الكتب المنشورة في عهد السلطان عبد الحميد، معتبراً الرياضة ضرورية لنمو الأجيال، لكن الكتاب مُنع عام 1896 بسبب صور على غلافه اعتُبرت مخالفة للمبادئ الإسلامية. وفي كتاب آخر بعنوان «حديقة للأطفال» شدّد على أهمية القاعات الواسعة المضاءة، وعلى وجود خرائط وصور، واستخدام اللوح، وتخصيص حدائق لتعليم الأطفال الزراعة. كما أصدر لاحقا كتاب «انظر وتعلّم»، تضمن650 صورة لتعليم العلوم الأساسية.
في عامها الأول، حاولت المدرسة تدريس الطلاب باللغة العربية، نظراً لانحدارهم من مناطق ريفية عربية، إلى جانب تعليمهم اللغتين العثمانية والفرنسية. وفّرت المدرسة احتياجات الطلاب كافة، بما في ذلك راتب شهري قدره30 قرشا، وتغطية نفقات السفر السنوية. ومع ذلك، لم تخلُ الحياة فيها من المشاكل، إذ سُجّلت حادثة اشتباك بين الطالب رمضان شلاش، من دير الزور، وحرس المدرسة. كما يبدو أن الانضباط الصارم دفع ببعض الطلاب إلى مغادرتها والعودة إلى حياتهم القبلية.
رسائل الولاء
في 16 سبتمبر/أيلول1897 دعا المدير اللاحق للمدرسة عبد المحسن بك، الطلاب إلى اجتماع قبيل مغادرتهم لقضاء عطلتهم. ألقى أحمد جميل، وهو خريج سابق، كلمة أمام الحاضرين، عكست بوضوح ما غُرس فيه خلال سنوات الدراسة: «إخواني الأعزاء، أبناء القبائل النبيلة، أنتم تعلمون الآن أن طريق الثروة والسعادة للأمة يعتمد على التعليم فقط. من خلال العلم والتكنولوجيا تُخلق كل هذه الأعمال الرائعة والمتميزة. في الماضي، سعت كل أمة إلى المجد والقوة من خلال إبادة الآخرين. أما اليوم، فتُظهر قواعد الاقتصاد أن ثروة الأمم وازدهارها مترابطان، وأن الحروب مدمرة للجميع. العالم اليوم ساحة واحدة، والرفقة هي الفضيلة الأسمى… يجب أن نتذكر أن آمال وأعين آلاف القبائل المخلصة متجهة إلينا الآن.. شجعوا الناس على التعلم. ذكّروهم بأن الحياة ليست مجرد أكل وشرب. حفظ الله خليفتنا المبارك، ولنصلِّ من أجله معا.
تُظهر هذه الرسالة نقطتين أساسيتين: الأولى أنها تنسجم مع خطاب الدولة العثمانية الساعي إلى تشكيل نخب جديدة، والثانية أنها تعكس تبنّي ووعي أحد خريجي المدرسة لهذه الرسالة، بوصف التعليم شرطاً ضروريا لنهوض الأمة. في الفصل الأخير، يتتبع المؤلف مسارات الطلاب بعد مغادرتهم المدرسة وانتهاء الحرب العالمية الأولى، متوقفا عند شخصيات بارزة مثل، رمضان شلاش من دير الزور، الذي قاتل عام 1925 إلى جانب زميله في المدرسة علي الأطرش في الثورة السورية الكبرى. والمفارقة أن أبناء المدينتين، دير الزور والسويداء، الذين توحدوا قبل قرن، وجدوا أنفسهم بعد مئة عام في صراع مرير (أحداث السويداء الأخيرة) كما تناول المؤلف سيرة عائلة المرعبي من عكار في لبنان، التي أرسلت تسعة من أبنائها إلى المدرسة، ما يعكس أهميتها واعتبارها بوابة للاندماج في مؤسسات الدولة. أُغلقت المدرسة عام1907 إذ رأت الدولة أن لا حاجة لبقائها بعد افتتاح عشرات المدارس الحكومية في الولايات العربية. تحولت لاحقا إلى «مدرسة كابتاش للبنين» إلا أن أثرها ظل حاضراً حتى خمسينيات وستينيات القرن العشرين، مع وفاة خريجيها الذين شغلوا مواقع مهمة في عدد من الدول العربية.
كاتب سوري