المؤتمر الذي عقد في الأمم المتحدة برعاية سعوديّة فرنسيّة ومقاطعة أميركية إسرائيلية في 27 و 28 تموز من أجل حلّ الدّولتين، تحوّل إلى محطة سياسية مهمة على مسار الاعتراف بالدولة الفلسطينية. استعاد الأمير محمد بن سلمان المبادرة في توقيت تتحوّل فيه المملكة إلى مركز الثقل الجيوسياسي في تقرير مصير المنطقة. فإلى أين يتجه هذا المسار الأخذ بالتوسّع بين الدول الأوروبية؟ وما هي القراءة الإسرائيلية لهذا الحدث الجيوسياسي الكبير؟ وكيف تستعد إسرائيل لعرقلته وإفشاله؟
أدرك ولي عهد المملكة العربية السعودية الأمير محمد بن سلمان نقاط الضعف التي رافقت المبادرة العربية التي أقرت في قمّة بيروت عام 2002. إذ افتقدت هذه المبادرة إلى الأسنان الدبلوماسيّة القوية، في الوقت الذي تمكنت فيه طهران من الإمساك بورقة المقاومة التي تحوّلت إلى مشروع سياسي يهدف إلى تعزيز النفوذ الإيراني واستخدام القضية الفلسطينية شماعة في خدمة هذا المشروع. وأدرك بن سلمان أيضاً التداعيات الكبيرة لعملية طوفان الأقصى وفشل الكفاح المسلّح في تحقيق الدولة الفلسطينية. والتوقيت الذي اختاره للتقارب مع فرنسا ودفع حلّ الدّولتين إلى الامام كان مدروساً وذكياً. إذ أتى في لحظة دوليّة تنهار فيها صورة إسرائيل على المستوى الدولي، وتزداد عزلتها على خلفية تحوّل حرب غزّة إلى إبادة جماعية للفلسطينيين الذين يعيشون بين خيار الهجرة أو الموت قتلاً أو جوعاً.
بن سلمان نحو القيادة الاقليمية
الدبلوماسيّة الإسرائيلية في وضع لا تحسد عليه، وعلى عكس العديد من التوقعات، فإنّ الخشيّة الإسرائيلية من تدحرج مسار الاعترافات كبيرة جداً، خصوصاً بعد التحوّل الذي شهده الموقف البريطاني وعدد من الدول الأوروبية وغيرها من دول مجموعة السبع. وفي مقالة بعنوان: “وعد وخطر الاعتراف بفلسطين” …. في مجلة “فورين افيرز”، أكّد الكاتبان مارك لينش وشبلي تلهمي، “أنّ الاعتراف سيكون أيضاً إنجازاً لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. إنّ ربط الاعتراف بدولة فلسطينية بمبادرة السلام العربية لعام 2002 من شأنه أن يعطي محمد بن سلمان مطالبة قوية بالقيادة الإقليمية”.
مسار الاعتراف بدولة فلسطين انطلق ولن يتوقف وهو يشبه انتشار بقعة الزيت على وجه المياه، لكن تبقى المعضلة في الخطوات العملية
ويؤكّد الكاتبان، “بأنّ الاعتراف بفلسطين من قبل الدول الأوروبية، على وجه الخصوص، سيمثل نكسة كبيرة للدبلوماسية الإسرائيلية…” ويضيفا “إذا انضمت الدول الأوروبية الغنية والمؤثرة إلى قائمة الدول التي تعترف بفلسطين، فإنّ ذلك سيشير إلى انهيار جدار الحماية الإسرائيلي بوجه الضغط الدولي، ويتركها أكثر اعتماداً على الولايات المتحدة التي لا يمكن التنبؤ بها”. “وإذا اعترفت موجة جديدة كبيرة من الدول بدولة فلسطين، فستكون بمثابة رمزيّة قوية للإحباط الدولي المتزايد من طمس إسرائيل لغزة والهيمنة الشبيهة بالفصل العنصري على الضفة الغربية. وسيرحب جزء كبير من العالم ببديل للدافع الذي لا هوادة فيه على ما يبدو نحو الإبادة والضمّ”.
إسرائيل قلقة من التوافق الفرنسي – السعودي
الإسرائيليون قلقون من التحوّل الكبير في الموقف الفرنسي ومن المكانة التي تمثلها المملكة العربية السعودية في العالم الإسلامي ولدى ادارة ترامب. إذ يلتقي هذا الأخير مع رؤية محمد بن سلمان التي تهدف إلى استقرار المنطقة في الوقت الذي تظهر تباينات متعدّدة بينه وبين ورئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو. تطابق وجهات النظر بين ترامب وبن سلمان في الموقف من سوريا يشكل أحد الأمثلة التي تقلق إسرائيل وتفرمل طموحات نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة.
بن سلمان
الموقف الإسرائيلي من مسار الاعتراف بدولة فلسطين التي تقوده السعودية وفرنسا يمكن قراءته من خلال الصحف اليمينية في إسرائيل، حيث كتب إيلي كلوتشتاين في صحيفة “مكور ريشون”: “وبصرف النظر عن الدوافع التي حرّكت ماكرون، فإنّ اعترافاً رسمياً من فرنسا بدولة فلسطينية قد يشكل حدثاً سياسياً مقلقاً لإسرائيل. وبخلاف دول أُخرى سبق أن أعلنت اعترافاً مماثلاً، تُعتبر فرنسا قوة عظمى، ومن الدول المالكة للسلاح النوويّ، وإحدى الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، والتي تمتلك حق النقض (الفيتو). علاوةً على ذلك، كانت فرنسا في السابق تُعتبر دولة صديقة لإسرائيل.
استعاد الأمير محمد بن سلمان المبادرة في توقيت تتحوّل فيه المملكة إلى مركز الثقل الجيوسياسي في تقرير مصير المنطقة
يتابع الكاتب: “من المحتمل أن تترافق إجراءات الضغط الحالية مع جهود أُخرى تقودها فرنسا ودول أُخرى داخل الاتحاد الأوروبي، مثل محاولات إخراج إسرائيل من برامج الأبحاث العلمية، أو إلغاء اتفاق الشراكة (اتفاقية الشراكة الأوروبية –الإسرائيلية). وقد يشكل هذا المسار كلّه اختباراً لتطبيق خطوات أحادية إضافية، تهدف إلى التأثير في الوضع الميداني، أو في القدرات العسكرية لإسرائيل، في مجال تقييد إمدادات السلاح، على سبيل المثال”.
لم يبقَ لإسرائيل سوى أميركا للتهديد بها
يجادل الكاتب في مقالته في كيفية مواجهة الموقف الفرنسي، إذ يرى أنّ الدعم الأميركي لإسرائيل أساسي فيقول: “تقف الولايات المتحدة إلى جانب إسرائيل بشكل فاعل في الوقت الراهن، وحتى الدول الأوروبية تدرك أنّ لديها ما تخسره إذا أصرّت على المواجهة المباشرة، سواء بسبب خطوات قد تتّخذها إسرائيل ضدّها، أو ضدّ السلطة نفسها، أو بسبب التهديدات الأميركية التي طُرحت. ويكفي أن نشير إلى تردُّد الدول الأوروبية الذي ظهر، حتى بعد إعلان ماكرون، لتأكيد هذا الواقع”. ويراهن الكاتب أيضاً على “مواصلة الحوار والتنسيق مع الولايات المتحدة من أجل دفعها إلى الضغط على الرياض كي لا تشارك في محاولات فرض الإملاءات على إسرائيل”.
الخطوات العملية
مسار الاعتراف بدولة فلسطين انطلق ولن يتوقف وهو يشبه انتشار بقعة الزيت على وجه المياه، لكن تبقى المعضلة في الخطوات العملية. فهل يستفيد ترامب من هذا الواقع الجديد، ويجبر نتنياهو على وقف حرب غزّة كمقدّمة للصفقة الشاملة؟ وما هي الخطوات العملية إذا استمر القرار الإسرائيلي بفصل مسار غزّة عن الضفة الغربية؟ وما هو الموقف إذا ذهب نتنياهو وحكومته إلى إعلان سيادة إسرائيل على الضفة خصوصاً أنهم يخططون لتقسيمها إلى كانتونات صغيرة؟ فهل تتجرأ أوروبا وتفسخ الشراكة مع إسرائيل؟ وهل يُقدم محمد بن سلمان على تعطيل الممر الهندي الأوروبي الذي تراهن عليه إسرائيل كي تصبح جسراً بين آسيا وأوروبا؟
*استاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية.