يستهلُّ الكاتب محمد برادة رواية “رسائل من امرأة مختفية” (المتوسط، 2019) بتوطئة فنية مُبتكرة على لسان “الكاتب الضمني”، الذي يشبه ما صار يُعرف بالكاتب الشبح، لكنه هنا مُعلنٌ في ميثاق أخلاقي مع القارئ يفتح له شهيةَ القراءة، ويستحثُّ لديه أفقَ التلقي، فهذه الاستعانة بميثاق الكاتب الضمني تخلق الأُلفة، وتضمن الصُّحبة مع القارئ، كما أنها أعانت الكاتب في تبرير الرؤية السردية وملُاءمَتها، بحيث أن المُستعير “هيمان السبتي” اقتصادي يُصرّح أن لا خبرة له بالأدب، فكيف له أن يروي روايةً بهذا الزخم الفني تغطي عقودًا ثلاثة ونيّف. إننا نُوغل في رواية مكتوبة بلُغة تأمُّلية عالية الحساسية، شفافة وهشة، تنقُلُنا إلى نقطة من النفس البشرية، وقد هدأت، وتشرّبت تجربتَها الدنيوية، مُقتَعِدة أرضيةَ التأمل، ومُستغرقَة في حالةٍ استرجاعية وئيدة.
الحفر في القيم والمواجهة مع الكتابة
كما هي غوايةُ وهوايةٌ الكاتب محمد برادة في الإتيان بالبِدع السردية، فهو يحتفي هنا بتعدّد السُّراد عبر سيمفونيةٍ فذة، لكنه هذه المرة، وأساسًا، راهن على شحذ مُقوماتِه ليواجه فعل الكتابة، ويجعلَها حسب ما نفترض العاملَ الأول في التبئير، وكان ذلك منذ البدء في العتبة التوجيهية الأولى، حيث الكاتب الضمني يعلن عن نفسه، وحيث رغبة صاحب الحكاية المرجعية في تدوين قصته عبر هذه الاستعارة الجمالية. إنها كما قُلنا كتابةٌ تنهض على شواغل الكتابة نفسها، تؤكدها أكثرُ من علامة، نذكر من بينها عديد التناصات والميتناصات السافرة والكامنة المرتبطة بعالم الكُتاب والكتابة، نُمثّل لذلك بأعلام مثل فيكتور هوغو، أبو حيان التوحيدي، ألبير كامو، جون بول سارتر، فرانز فانون…، إلى جانب ذلك، فالنص حافلٌ بصيغ متداخلة مُرَكّبة لإنتاج الخطاب على مستويات السرد والعرض: رسائل، مقتطفات رسائل، تعاليق، توطئات، مكالمات هاتفية، قصاصات أنباء، أحلام، أطياف…، وهي صيغ تجري على ألسنة سُرّاد كُثر احتفاء بالمنظورات المتعددة والرؤيات الفردية المُتباينة في انتصار جليٍّ لمبدأ الحرية، وتوافُق نادر بين البناء الروائي وأسئلة الكتابة.
كما سلف القول، فاختفاء “جاذبية” فتح الاحتمالات، وعدّد الأصوات، وأسّس ترسيمةً مُدهشة لا مُتوَقعة لبوليفونية العدالة بين الأصوات السردية التي أُوجِدت لها كلُّ الأسباب الفنية الخليقة بحضور يتداخل ويتراكب، حتى يغدو لَعبًا بالكتابة ومُطارَحة وتحدِّيًا جنونيًا لها، فكلما تراصّ بناؤها وتَحدّد مسارُها، إلا وفكّكه، وأعاد تركيبَه هازئًا به، حتى إن الكاتبَ الضمني يَجهر بما سماه “انعطاف السرد المؤطر للرواية”، ص 129، وهو انعطافٌ كثيرًا ما يُودي بالنص والقارئ، مثل المنعطف الذي اجترَحَته “هاديا” في كشف مصير صديقتها المُختفية “جاذبية”، فهو ملحقٌ سردي يُفضي إلى ملحق أو يشقُّ منعطفًا، عبر سراديب للحكاية تلتقي عند بؤرة الاختفاء، وقد مهّد له الكاتبُ الضمني بأن بسَط قُبالَتنا خارطة علاقات “جاذبية”. إن هذا المنعطف الفرعي الملحق يغدو مركزًا في البناء الروائي، لأنه كشف غيبَة الاختفاء، مما نفهم منه أن التفصيل الصغير قد يكون عمقًا للتشييد، لكن بتوالي الوقائع، نكتشف أن تخييل “هاديا” الذي كان مركزًا سرديًا، يتفرع عنه تخييلٌ فرعي آخر تحت مُسمى “هيمان يتأمل ويحلم”، وهو ما يغدو مَركزًا ينقل مُجمل الرواية إلى الجنوب المغربي/ الهامش، حيث يتخيل السارد أن هاديا اختارت جاذبية العيش مع أسرة مغربية فقيرة، مقابل تعليم القراءة والكتابة لأطفال القرية.
وبتفريعٍ عن تفريع ننتقل إلى أصقاع أفريقيا جنوب الصحراء، ويكون التفريع الأخيرُ احتمالات مُتفرّعة مفتوحة على أفق بلا ضفاف، بما يؤكد أن الكاتب يُقوّض فعلَ الكتابة، يُطارحُها كما تُطارحُه، ويُطَوِّح بها إلى المجهول، مُصَرّحًا أنه “لا يجب الاعتقاد أن الكاتب هو وحده من يكتب، بل يجب استحضار القارئ والشخصيات الساردة ومخيلة لاوعي الكاتب لكي تكتمل مكونات الإبداع”، ص 153. وعلى عكس ما افترضَه الكاتب الضمني المستعار حول “هيمان” بعد أن بدأ “ينتابه شعور بأنه أخذ يتحول إلى بطل روائي”، ص 131. ومن باب الحق الممنوح للقارئ، نفترض أن “جاذبية” هي الشخصية التراجيدية، والأجدر باعتبارها بطلةً روائية أكثر من “هيمان”، بل إن هذا الأخير لم يكن إلا تفرُّعًا في مسارها هي، ولم يكن سوى رافد من روافدها المتعددة.
مع شخصيةِ “جاذبية”، ينْشَدُّ الروائي أكثر إلى جاذبية المعركة مع الكتابة، فقد تخلّقتْ علاقتُهما في رحم الكلمة، إذ هي كاتبةُ عمود صحافي وأديبة، مُحبَطة لكون “الأدب عندنا لا يمتلك وضعًا اعتباريًا يسعف على إعطائه وجودًا ملموسًا يجعله في بانوراما المؤثرات التي تصنع وعي الفرد وتصححه لتمتد جسور الحوار عبر تلك الحرية المتفردة التي يمنحها الكاتب للقارئ فيقبل أو يرفض”، ص 48، ولذلك نسمع أنينَها “قادتني حيرتي آخر الأمر إلى أن أتخذ من الكتابة وسيلة لممارسة حريتي ولو في حيز ضيق، ضمن المتاح”، ص 50، ثم تُضيف “أعرف أن ما أتحدث عنه لن يتحقق قبل مرور عقود طويلة من المواظبة على دق أبواب القراء المحتملين المحاصرين داخل جدران من المواعظ والتراتيل والفتاوى الحاجبة عنهم تلك الكلمات المضيئة المتفاعلة مع الحياة في جمالها وتناقضاتها ورعبها”، ص 48، مما يطرح السؤال: ماذا تحقق بعد قرابة نصف قرن من رهان جاذبيةِ الكتابة وكتابةِ جاذبية؟، وهل لذلك تُطالعُنا هذه الحسرة “أدرك أننا سنظل لأمد طويل نكتب من موقع الهواية والمغامرة الفردية، المحبوس صداها في نطاق القراء الشغوفين بأن يشيدوا ذواتهم عبر الحوار”، ص 48، بحيث يصير الأدبُ منطقةً افتراضية وموقعًا هو ثالثُ اثنين الكاتب والمتلقي من أجل الحوار والتفاوض. أما الكاتب “حميد زيدان” وقد تسلّم شاهدَ السرد ارتباطًا باختفاء زوجته جاذبية، فنسمَعه يقول “قضيت سنوات وأنا أحاول أن أحدد علاقتي بالكتابة الأدبية وبالأغراض التي أتغيّاها من خلالها. كنت أظن أن الكتابة ستخلصني من عذاب الوحدة واضطراب العواطف، فوجدت أسئلتها تقض مضجعي وتضاعف من حيرتي”، ص 152، بل يهزُّه الشكُّ المُضني حول جدوى الكتابة وقدرة تأثيرها “في مناخ معاد لكل ما لا يدر ربحًا ملموسًا مباشرًا”، ص 152. عطفًا على ما تمت الإشارة إليه بخصوص الميتناصات وصيغ العرض، نُشير إلى توظيف الروائي لمُسوّدةِ روايةٍ بعنوان “قرية الحيران” يشتغل عليها الكاتب العصابي “حميد زيدان”، ويستدرجُنا المؤلفُ إلى بعضٍ من أجواء تلك الرواية الافتراضية وحبكتها حتى نَتُوه معه في رافدٍ آخر سردي من روافد هذا النص المُشتبك والمُتشابك. إنها كتابةٌ تتأمل كينونَتَها وتتساءل حول علاقتها بالعالم، مُركِّزة على الجوانب الاجتماعية الثقافية والسياسية لمغرب 60 سنة المنصرمة من دون زعمٍ بأي أجوبة، فالمُتسائل يعيش في الهشاشة، أي “يعيش دومًا في المؤقت والزائل”، ص 153.
ما يصدق على “جاذبية” يصدق على الرواية نفسها “كلما حُشرت في زاوية، بحثت عن هامش متاح يسمح لها بأن تستمر في العيش الكثيف”، ص 180، بل إن الأمر يلتبس علينا بين جاذبية ومسار الذات الكاتبة، فنفترض أحيانًا أن جاذبية هي تجلٍّ لجانبٍ من مسار أسئلةِ الكتابة لدى المؤلف، حيث بدأت ملامحُها في منتصف الخمسينيات مُتوثِّبة، حالمة، حمّالة قيم مُضادة للمنظومة. إنها ذلك الملاذُ الذي رانَتْ إليه الذاتُ المرجعية، تَواشَجَت معه، واختلط فيه الواقعي بالطيفي. أما وقد نضجَت الذاتُ بعد رحلة تدنو من 60 سنة، فها هي الآن تتأمل هذه العلاقة مع جاذبية الكتابة، وتَلْتاع من هذا الامتلاء المُبرح بالهشاشة، هذا الغمرُ الوجودي المُراوِح بين الحضور والغياب، بين التجلّي والاختفاء. بل إن حتى بنية كتابةِ هذا النص جاءت مُتقطّعة، مُتباعدة، مُرَكّبة جدًا، مُتَحيِّرة، تمامًا مثل العلاقة مع جاذبية المرأة، فالكاتبُ يأمل في كتابة تُعِينُه على تخطّي قلق السديم الأكبر الطالع إلى السماء، وتشُدّه أكثرَ إلى جاذبية الأرض. ولأن الكتابة بَزَغت في هذا الجانب من المسار رافضةً التفاوض حول المشترك مع المنظومة وأدركت أنها حمولة قيمية مُتحفِّزة جاءت قبل أوانها قياسًا إلى مسار المجتمع والوعي الجمعي، فإنها دخلت دائرةَ الاختفاء، الكمون، وصارت أطيافًا ورُؤى ومُراجعات، سواء في العلاقة مع المحيط المغربي الشرقي، أو المحيط الفرنسي الغربي.
ختامًا، نرى أن هذا الروائي الطاعن في الكتابة، صار يتأمَّلُها من قمة مسارِه الإبداعي، يَلعب وإياها، ويَهزأ من كل وهمٍ بالثبات، أو التراصِّ الخادع، لتَتَّخذ جاذبيةُ الكتابة معنى أنكيدو، ويظل الكاتبُ هيمانَ مثل أخيل في “اللحظات العارية” يُحاصرُه القلقُ الوجودي ويَعتصرُه حبرًا على “رسائل من امرأة مختفية”.