ملخص
الرئيس الأميركي لم يشرح نظريته ولم يقل كيف سيقنع الرئيس الروسي بالسلام عدا تكهنه بأن أوكرانيا كلها قد تصبح روسية، لكنه سار في عملية تقارب ومصالحة مع موسكو تتعدى بنودها الوضع الأوكراني إلى العلاقات الثنائية ورؤية الطرفين لأحداث العالم. وكانت تلك المصالحة التي تمت في الرياض نقطة تحول بارزة في صورة العالم، لكن مشهد البيضاوي أعاد طرح الشكوك والأسئلة الأوروبية والأميركية ليس حول نوايا بوتين وإنما إزاء حقيقة ما يريده ترمب.
كشف اللقاء العاصف في البيت الأبيض بين الرئيس الأميركي ونائبه جي دي فانس من جهة والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي من جهة أخرى المدى الذي يمكن أن يذهب إليه دونالد ترمب في سلوكه الشخصي لفرض آرائه ورؤيته على الآخرين، أصدقاء أو خصوماً من ناحية، وأطاح من ناحية ثانية بركائز قامت عليها المواجهة بين روسيا والولايات المتحدة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، وكان بطلها في الجانب الآخر فلاديمير بوتين الذي يواصل حكم بلاده منذ مطلع القرن مواكباً خمسة رؤساء، ديمقراطيين وجمهوريين، توالوا على الإقامة في البيت الأبيض.
في الأسلوب اعتبر كل من شاهد المشادة الدائرة على الهواء مباشرة داخر المكتب البيضاوي حدثاً فريداً واستثنائياً، لا سابقة له في البيت الأبيض أو في أي مقر رئاسي آخر حول العالم. فأن يأتي الرئيس الأميركي برئيس يستضيفه ويضعه أمامه في محاكمة علنية عليه خلالها أن يعترف بخطئه في القتال ضد روسيا ومواجهة هجومها على بلاده، ويعرب عن امتنانه لسخاء ترمب قبل أن يختم بالثناء على إرادته في تحقيق سلام ثمنه الفعلي الاعتراف بسيطرة روسيا على ثلث بلاده، يليها تقاسم أميركي- روسي للثروات المعدنية الأوكرانية و40 في المئة منها هو الآن في مناطق تحتلها روسيا، وأن يحصل كل ذلك أمام كاميرات العالم فيه كثير من دوس الأعراف السياسية والدبلوماسية وكثير من تحقير الآخرين ومحوهم فعلياً، مما قاومه الرئيس الأوكراني حتى النهاية على رغم حاجته إلى تفهم أميركا ورئيسها وإلى دعمهما في معركة الخروج من الحرب بأثمان مقبولة.
ترمب في فعلته “البيضاوية” مع زيلينسكي لم يخرج عن سياق أسلوبه المعتمد أخيراً في التعبير عن سياساته وطموحاته، فهو قبل الصفقة التي طرحها على كييف هدد كندا بضمها وجعلها الولاية الأميركية الـ51 وأبدى رغبته في الاستحواذ على جزيرة غرينلاند الدنماركية واستعادة قناة بنما، وفي ما يخص المشرق العربي فاجأ الفلسطينيين والعرب والعالم بعرضه شراء قطاع غزة وتهجير سكانه لبناء “ريفييرا” أميركية عليه.
عرض ترمب موقفه من كل هذه المواضيع بلهجة غير معتادة، غير أنه لم يواجه أياً من قادة البلدان المعنية بطروحاته، عدا لقائه على الحافة الملك الأردني عبدالله الثاني. أما لقاؤه مع زيلينسكي فسار منذ البداية نحو صدام محتم أو تنازل علني مهين من جانب الرئيس الأوكراني الذي قرر المواجهة، خصوصاً مع مشاركة نائب الرئيس دي فانس في الحديث وطلبه المباشر منه، كما لو أنه يتوجه إلى طفل مشاغب “قُل كلمة شكر للرئيس الذي يحاول أن ينقذ بلدكم”، لكن هذا الطلب من نائب الرئيس لم يكُن شيئاً إزاء جواب زيلينسكي على قول ترمب له “لو لم نعطِكم معدات عسكرية لكانت هذه الحرب انتهت في أسبوعين”، وأجاب زيلينسكي “بل في ثلاثة أيام. لقد سمعتها من بوتين”.
كانت هذه بمثابة تهمة قاسية من رئيس تتعرض بلاده لهجوم روسي منذ ثلاثة أعوام، فهو يتهم ترمب بتكرار كلام فلاديمير بوتين وهي التهمة التي يلصقها خصوم الرئيس الأميركي من الديمقراطيين به بوصفه يقدم إلى الرئيس الروسي ما لم يحلم به في أي يوم.
والمسألة تتعدى الأسلوب إلى جوهر الأمور، فهل هناك تغيير في الموقف الأميركي من روسيا يقوده ترمب؟
بعيداً من أسلوب ترمب واستعجاله “صنع السلام” كما يقول، فإن ما يعرضه على أوكرانيا هو في جوهره نقيض لكل السياسات الأميركية السابقة في أوروبا منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وتبنٍّ لتفسيرات بوتين لهذه السياسات التي هدفت، برأيه، إلى محاصرة روسيا عبر توسيع الحلف الأطلسي شرقاً، مما يناقض الاتفاقات “غير المكتوبة” بين القادة السوفيات والأميركيين في أعقاب توحيد ألمانيا.
يستند بوتين إلى وقائع توسع “الأطلسي” شرقاً بقيادة أميركا وموافقتها، نقيضاً لوعود لم يتم الالتزام بها، ويحرص على التذكير بمستشار الأمن القومي لدى الديمقراطيين زبغنيو بريجنسكي (مثله مثل كيسنجر لدى الجمهوريين) الذي اقترح عام 1997 مشروع توسيع الحلف الأطلسي في كتابه “المسرح السياسي الكبير” ضمن رؤية مفادها بأن “الوصول إلى أوروبا موحدة أمر يصعب تصوره من دون ميثاق مشترك مع الولايات المتحدة. وينتج من ذلك أن الدول مدعوة إلى إجراء مناقشات كي تدخل في الاتحاد الأوروبي وعليها أن تضع نفسها آلياً تحت حماية الحلف الأطلسي”.
خلال التسعينيات بدأ تطبيق هذا التصور، في ظل قيادتي بيل كلينتون الديمقراطي وخلفه الجمهوري جورج دبليو بوش ثم الديمقراطي باراك أوباما. ويقول بريجنسكي في كتابه في ما يشبه التنبؤ “سيباشر الاتحاد الأوروبي مفاوضات الانضمام بين جمهوريات البلطيق وحلف الأطلسي، قبول رومانيا يجب أن يكون قد تحقق عام 2005، وما بين 2005 و2010 يجب أن تكون أوكرانيا نضجت كي تدخل في مفاوضات جدية، إما مع الاتحاد الأوروبي أو مع حلف شمال الأطلسي، خصوصاً أن هذا البلد أظهر تقدماً في إصلاحاته السياسية وتموضع بوضوح ليصبح دولة أوروبية مركزية”.
سارت أوكرانيا في اتجاه أوروبا وأميركا مبتعدة من حضنها الروسي التاريخي، مستجيبة لإغراءات أوروبا وأميركا. ولم يبخل بوتين في توجيه التحذيرات المبكرة. منذ خطابه أمام البرلمان الألماني عام 2001 إلى مؤتمر ميونيخ للأمن في 2007 هيمنت على تفكيره مقولة إن الغرب لا يحترم روسيا “كشريك”، وهو قال لاحقاً “اتخذت قرارات من دون أن يستشيرنا أحد، يطلب منا بإلحاح أن نصدق عليها”.
ترمب يطرد زيلينسكي و”العمال الكردستاني” يعلن وقف النار
ولا تتصل القرارات المقصودة بمسألة توسيع الأطلسي شرقاً فقط، فبوتين يتهم الأميركيين بالتدخل في الشأن الروسي خلال الانتخابات الروسية كما في الجمهوريات السوفياتية السابقة. وفي نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2012 بدأ تنفيذ قانون المنظمات غير الحكومية (NGO) التي عليها أن تتسجل رسمياً وتعلن مصادر تمويلها، ووضع بوتين حداً لنشاط الوكالات الأميركية بما فيها الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID)ومعها عشرات المنظمات التي تهتم بتعميم الديمقراطية وحقوق الإنسان. كان ذلك مؤشراً إلى الصراع المتنامي بين روسيا وأميركا على خلفية صد النفوذ الأميركي عن بلد متعب هو روسيا. وقبل سنوات قليلة، عام 2008، قامت حرب أوسيتيا وأبخازيا في جورجيا الجمهورية السوفياتية السابقة. واتهمت موسكو جورجيا ببدء الحرب بدفع من الأميركيين في محاولة تقرب من الغرب، إذ إن بوتين اعتبرها محاولة لتقويض استقرار بلاده ورأى أن أميركا تقف وراءها تمهيداً لضم جورجيا إلى حلف الأطلسي. وذهب رئيس جورجيا ميخائيل ساكاشفيلي الذي يحمل الجنسية الأميركية إلى واشنطن وطلب الانضمام إلى الحلف فأيده الرئيس الجمهوري بوش والسيناتور المتشدد جون ماكين.
معركة جورجيا أسفرت عن انتصار آخر لبوتين بعد معركة الشيشان، وهذا الانتصار سيسجل في خانة المواجهة مع أميركا التي شجعت أنصارها في تبليسي ثم انكفأت إلى بيانات الاستنكار. ولم تتدخل واشنطن عندما اجتاحت روسيا جورجيا واكتفى بوش الابن بالتحذير من أن “روسيا تجازف بخسارة مكانتها”، مضيفاً أنه سيرسل طائرتين من الأغذية والحرامات الصوفية إلى متضرري المعارك.
كانت تلك أول مواجهة صريحة لبوتين مع ما اعتبره مشروع التوسع الأميركي شرقاً ونجح فيها قبل أن يجري امتحانه الثاني في ضم القرم الأوكرانية بعد ستة أعوام.
وفي نظر الروس فإن زيلينسكي يكرر منذ توليه الحكم تجربة ميخائيل ساكاشفيلي في جورجيا وبوعود أميركية هي نفسها الذي تلقاها نظيره الجورجي. وفي مسار الأمور ما يثبت ذلك، فخلال قمة الأطلسي عام 2015 “حيا الحلف الجهود التي بذلتها أوكرانيا وجورجيا من أجل التقارب مع التحالف الأطلسي. وقررنا (أعضاء الحلف) حالياً أن هذين البلدين سيصبحان عضوين في الحلف”. وجاء رد بوتين حاسماً “ليس لدينا حق الفيتو (على قراركم)، نريد دائماً أن تعرفوا جميعكم أن لنا أيضاً مصالحنا الخاصة. ففي أوكرانيا يعيش حالياً 17 مليون روسي”، وفعلاً أوكرانيا هي أهم من أي بقعة سوفياتية سابقة بالنسبة إلى روسيا والمعادن لا يبحث عنها ترمب وحده، فروسيا بوتين تحتاج إليها أيضاً.
قادت سياسات التصادم إلى قرار الهجوم الروسي على أوكرانيا قبل ثلاثة أعوام. وقام رد فعل أوروبي- أميركي قوي، والموقف الدولي والصمود الأوكراني جعلا الحرب تراوح على رغم سيطرة الروس على أجزاء كبيرة في شرق البلاد وجنوبها. ووسط هذه المراوحة أطل ترمب ليقول أمرين، الأول أن الحرب ما كانت لتحصل لو كان في موقع الرئاسة والثاني أنه سيحقق السلام بالاتفاق مع بوتين.
الرئيس الأميركي لم يشرح نظريته ولم يقُل كيف سيقنع الرئيس الروسي بالسلام عدا تكهنه بأن أوكرانيا كلها من المحتمل أن تصبح روسية، لكنه سار في عملية تقارب ومصالحة مع موسكو تتعدى بنودها الوضع الأوكراني إلى العلاقات الثنائية ورؤية الطرفين لأحداث العالم. وكانت تلك المصالحة التي تمت في الرياض نقطة تحول بارزة في صورة العالم، لكن مشهد البيضاوي أعاد طرح الشكوك والأسئلة الأوروبية والأميركية، ليس حول نوايا بوتين وإنما إزاء حقيقة ما يريده ترمب.
وانتظرت ماريا زاخاروفا متشفية أن ينتهي اللقاء بصفعة من ترمب لزيلينسكي، ويحق للروس أن يمارسوا هذا التشفي، فبطريقة طريقة ما، اعترف ترمب بكل الرواية الروسية لجذور الصراع والصدام والحروب والمشاريع التي حاصرت روسيا خلال العقود الأخيرة، وبات عليه الآن وهو يفعل ذلك شطب الإرث الأميركي- الأوروبي من تاريخ محاصرة روسيا الاتحادية والحرب الباردة الجديدة معها، والانصراف إلى الصفقات الأسرع ربحاً بمعزل عن كلفتها البشرية والإنسانية في أوكرانيا كما في الشرق الأوسط أو أي منطقة في العالم.