يصدر كتاب “مذكرات فاروق الشرع… الجزء الثاني 2000 – 2015” عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. ويغطي فترةً من رئاسة بشّار الأسد (2005 – 2015) استمرّ فيها الشرع في منصبه وزيراً للخارجية، ثمّ في منصب نائب رئيس الجمهورية، قبل أن يضطرّ إلى الاعتكاف بمنزله في 2013، وإصدار الأسد تعليمات بعدم التواصل معه. وبينما اعتُبر الجزء الأول من الكتاب شهادةً تاريخيةً مهمةً على مسار من الأحداث التي شهدتها سورية في تفاعلاتها الإقليمية والدولية، خصوصاً ما يتعلّق بالمفاوضات السورية – الإسرائيلية، في عهد حافظ الأسد، يقدّم الشرع في الكتاب شهادته على أحداث لا تقلّ أهميةً في عهد بشّار، منها اغتيال رفيق الحريري واتهامات مسؤولين سوريين بالتورّط في اغتياله، ما أسهم في دفع الخروج السوري من لبنان، وأحداث عصفت بسورية مع اندلاع الثورة السورية (2011). وتنشر “العربي الجديد” فصولاً من الكتاب. وهنا حلقة سادسة تتناول انطلاق الثورة السورية ومساراتها الدموية، بعد إصرار بشار الأسد على الحل الأمني رافضاً مقترحات الحل السياسي محلياً وإقليمياً ودولياً.
انتشر مصطلح الربيع العربي وتغلغل بقلوب الناس وعقولهم، واستمدّوا منه شحنة كبيرة من التفاؤل بأن أحوالهم سوف تتحسن، وفرص العمل ستتوفّر، والأسعار ستنخفض، والعدالة ستأخذ مجراها خلال هذا الربيع ولن تنتظر الربيع القادم. ومن جهة أخرى، استنفرت هذه الأفكار الافتراضية أصحاب السلطة الرسمية والأجهزة الأمنية في سورية التي رأت فيها مؤامرة “صهيو- أميركية” تستهدف النظام وتهدّد الأمن والاستقرار في ربوع الوطن. وهذه السلطة هي التي تمثل الشرعية الدستورية التي تقدم الخدمات والوظائف إلى الشعب، وتحفظ الأمن في البلاد، وتطبق القانون على جميع المواطنين بالتساوي.
لكن هل كان القانون مطبّقاً على جميع المواطنين منذ بداية الأحداث؟ فكلنا يذكر الروايات حول عاطف نجيب، رئيس فرع الأمن السياسي في درعا، ومحافظ درعا الدكتور فيصل كلثوم، ومصير لجان التحقيق العديدة التي شكلت لمعالجة أحداث حمص وبانياس واللاذقية وحماة وغيرها الكثير، وفشلها في الوصول إلى نهاياتها المنشودة، وخاصة ما تعلق منها بإطلاق الرصاص “المجهول المصدر” في درعا، والسلاح والليرات السورية المسحوبة حديثاً (كما أشيع) من المصرف المركزي، حيث وجدت فجأة داخل ردهات الجامع العمري في درعا من دون أن يُعرف من أدخلها حتى الآن!
تجاهل الرئيس اقتراحي في 2012 الاجتماع بوزيري خارجية إيران وروسيا، لأخذ رأيهما في حل سياسي، لعلمه أنهما قد يؤيدانه
ثمّة مثال آخر، إذ جرى حرمان سكان مدينة حماة من خدمات الدولة الضرورية والأساسية في يوليو/تمّوز 2011، ومُنعوا من استخدام عمّال النظافة واللجوء إلى دوائر الدولة لفضّ المشكلات والخلافات فيما بينهم، بأمرٍ من السلطات الحكومية العليا بعد احتجاجاتهم السلمية. كانت وقائع مظاهرة حماة تؤكّد أن السلطات لجأت إلى معاقبة أهل المدينة خلافاً للقانون والدستور، بعد أن خرجوا بمئات الآلاف سلميّاً من دون حمل سلاح. كان وجود السفير الأميركي في المظاهرة حركة انتهازية منه، وتمّت بموافقة شبه رسمية من الدولة منحتها وزارة الدفاع. لقد عوقب أهل حماة جماعيّاً بقسوة شديدة، فسقط عشرات الشباب قتلى بالرصاص، كما عوقب غيرهم من المواطنين في المحافظات الأخرى من دون وجود سفراء في استقبالهم، واعتُقل بعضهم في دمشق وفي غوطتي دمشق الشرقية والغربية، وعذّبوا منذ بداية الأحداث، وقُتل عدد منهم ولم يكن بأيديهم سلاح.
استعانت السلطة الرسمية في سورية، مع اشتداد “الأزمة” في مطلع عام 2012، بمقاتلي حزب الله اللبناني المقاوم ضد العدو الإسرائيلي، لحماية القرى الحدودية اللبنانية – السورية والأضرحة “الشيعية” حول دمشق، مع ما يعنيه ذلك من إيقاظ الروح المذهبية الطائفية بصورة رسمية في سورية من دون تفكير بعواقبه الخطيرة. كما شرعت الجمهورية الإسلامية الإيرانية بعدئذ بدفع رواتب مجزية وصلت إلى عدة أضعاف عما يتقاضاه الجندي السوري لمليشيات مذهبية استقدمتها من بلدان مجاورة، فضلاً عن تجنيدها بعض المتطوعين السوريين الشباب في صفوفها، ووعود باحتمال إعفائهم من الخدمة العسكرية لاحقاً، لأنها أصبحت صاحبة سلطة في دمشق.
من جانب آخر، جرى تزويد مختلف فصائل المعارضة المسلحة من بعض الدول القريبة والبعيدة بسلاحٍ غير رادع لم يحسم الاقتتال، ولم يمنع الانتقام، فضلاً عن السلاح الذي صنعته بعض الفصائل المعارضة محليّاً، أو غنمته خلال المعارك مع الجيش العربي السوري. يضاف إلى ذلك ما سمحت تركيا بتهريبه بعد فشلها بإيجاد حل سياسي عن طريق وزير الخارجية أحمد داود أوغلو في مساعيه لإقناع الرئيس بشار، الذي فاوضه ارتجاليّاً طوال صيف 2011. ولم تُختتم تلك المفاوضات بتصريحات لتنوير الرأي العام السوري بما جرى خلالها.
مظاهرة ضد النظام عقب صلاة الجمعة في مدينة حماة (29/7/2011/فرانس برس)
سوريون يتظاهرون ضد نظام الأسد عقب صلاة الجمعة في حماة (29/7/2011 فرانس برس)
مال وفير وسلاح لا يصلح للردع
رغم كل السلاح الوارد عبر الحدود المفتوحة رسميّاً من دون رقيب خلال سنوات الحرب على سورية، والمال الوفير القادم من بعض الدول الخليجية من دون حسيب، لم يُسمح للمعارضات المسلحة، بمختلف أشكالها، مواجهة الصواريخ المجنحة والطائرات الحربية والبراميل المتفجرة، التي لا تملك المعارضة أيّاً منها، فقد تعهدت كل الدول الداعمة للمعارضة السورية الامتناع عن تزويدها بصواريخ ضد الطائرات الحربية (كالتي استخدمت في أفغانستان لإسقاط المقاتلات السوفياتية في ثمانينيات القرن الماضي)، ومن ثمّ لا يمكن أن يصدّق إنسان في العالم أن كل هذا الدمار الهائل في المدن السورية كان بفعل أسلحة فصائل المعارضة السورية البسيطة.
الخطأ الذي وقعت فيه المعارضة يكمن في عدم اتحادها، أو على الأقل توافق جبهة واحدة بين فصائلها المختلفة، على برنامج سياسي موحد لبرامجها السياسية. ولعل السبب يعود أساساً إلى تبعيتها لمموّليها غير الموحّدين أصلاً، إذ تبيّن ذلك حين لم ينجح الملك عبد الله بن عبد العزيز في تحويل مجلس التعاون إلى اتحاد خليجي.
تظلّ شرعية السلطات الرسمية ومؤسساتها الحكومية، بإيجابياتها وسلبياتها، مستمدّة من الشعب الذي يحتمي بها، كما ورد في آخر دستور سوري معمول به لعام 1973 أو وفق الدستور الجديد الذي صدر في عام 2012. لكن الحكومة السورية نفسها تعرضت للتشكيك بشرعيتها، ليس لأن معظم دول جامعة الدول العربية قاطعتها منذ نهاية عام 2011، ولا لأن “أصدقاء سورية” المفترضين من الدول الأوروبية شكّكوا بشرعية النظام في دمشق، وإنما لأن الحكومة السورية نفسها لم تلتزم بتطبيق كامل بنود دستورها، فبارك بعض أجنحتها الاعتقال التعسفي والقتل خارج إطار القانون والدستور، وبقيت الأحكام العرفية من الناحية الفعلية على حالها وبصورة أسوأ مما كانت عليه سابقاً، رغم جميع المحاولات الرسمية لإلغائها.
هل يُعقل أن تصبح مئات من الدول في الأمم المتحدة التي كانت تاريخيّاً مؤيدةً المطلب السوري المشروع في تحرير الجولان المحتل فجأة متآمرة على سورية؟ وإذا كان الأمر فعلاً كذلك نتيجة “للتآمر الكوني”، ألا يستحقّ هذا الموضوع الخطير الدراسة والتفكير لحظة وإعادة النظر في مواقفنا غير المقنعة للسوريين أنفسهم؟ أم إن التصدّي للإمبريالية العالمية مقتصر على سورية وحدها؟ أما حلفاؤها الكبار الإقليميون والدوليون، من إيرانيين وروس، فمسموحٌ لهم التفاوض مع الإمبريالية الأميركية في ذروة سنوات الأزمة السورية: إيران حول الملف النووي الذي تواصل التفاوض بشأنه خلال الأزمة السورية ما بين عامي 2011 و2015، وروسيا تفاوض حول أوكرانيا.
حُرست مداخل ساحة العباسيين بكتيبة سورية منذ أصبح ميدان التحرير في القاهرة مكاناً لتجمّع المتظاهرين
كنتُ في الماضي القريب أو البعيد ألوم الرفاق الذين تخلوا سابقاً عن مسؤولياتهم لأسبابٍ كنت أراها بسيطة، وكانوا هم لا يرونها كذلك. ألا يتحتّم عليّ أن أبادر في ظل هذه الأزمة التي نعيشها، وهي غير مسبوقة في تاريخ سورية الحديث باعتراف الصديق والعدو، ولا بتاريخ حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم؟ أم تُترك الأمور على غاربها ويستمرّ الحط من الحل السياسي، ما سيكون له عواقب كارثية على سورية، وسيدفع كل السوريين الثمن وحدهم، أينما كانوا في الداخل أو في الخارج؟
ولعل هذا الأمر بالذات هو الذي شجّعني، بعد أن أجهضت كل المحاولات العربية والدولية، وفي أعقاب الاجتماعات مع وزير خارجية روسيا، سيرغي لافروف، في زيارته الرسمية إلى دمشق في 7 فبراير/شباط، أن أقترح على الرئيس عام 2012 دعوة وزيري خارجية إيران وروسيا، بوصفهما بلديْن صديقين لسورية، والاجتماع بهما في القصر الجمهوري، لأخذ رأيهما في حل سياسي شامل، قد يساعد سورية على الخروج من أزمتها الراهنة.
بشار الأسد (يساراً) يستقبل وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في القصر الرئاسي في دمشق (7/2/2012/فرانس برس)
بشار الأسد (يساراً) يستقبل وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في القصر الرئاسي في دمشق (7/2/2012 فرانس برس)
تجاهل الرئيس إعطاء أي جوابٍ على اقتراحي رغم تكراره، ربما لأنه كان يعرف حينها أن هاتين الدولتين قد تؤيدان الحل السلمي، كما صدر عنهما في بداية الأحداث، وليس الحلّ العسكري، خاصة إذا كان صاحب الاقتراح هو الرئيس بشّار قائد الجيش وآمر فرقه. لقد تأكّد لي جواب الرئيس الحقيقي على هذا الاقتراح، عندما عقدت القيادة القُطرية صيف 2012 اجتماعاً برئاسته قال فيه إنه من الآن فصاعداً “سيقود منفرداً السياسة الخارجية من تحت الطاولة”، وأشار بيده إلى تحت طاولة الاجتماع الرئاسية، موحياً بأن المشكلة لا علاقة لها ألبتّة ببنية الحكم أو بموقفه الفردي الذي يتخذه رئيساً للبلاد في هذه الأزمة.
لقد علمتُ مباشرة من السفيرين الإيراني والروسي اللذين اجتمعت بهما في عام 2012 ذاته، أن بلديهما كانا يؤيدان حلًا سياسياً في بداية الأزمة، حتى إن السفير الإيراني أخبرني حينها أن طهران استقبلت وفدأً من المعارضة الإسلامية السورية لهذا الغرض، منتقداً خلال هذا اللقاء كثرة الحواجز العسكرية في دمشق ومعلقّاً عما يقوله الناس بأن المسؤولين السوريين يختبئون خلف هذه الحواجز. وأبلغني السفير الروسي بدمشق نقاطاً محددة حول الحل السياسي في سورية شبيهة بالنقاط الست التي وردت في خطة كوفي عنان المدعومة عربيّاً ودوليّاً.
كان عنان قد قدم في 10 مارس/ آذار 2012 إلى الرئيس خطّته ذات النقاط الست، وأبرز ما نصت عليه: التوصل بشكل عاجل إلى وقف فعال للعنف المسلح بكل أشكاله من كل الأطراف تحت إشراف الأمم المتحدة لحماية المدنيين وتحقيق الاستقرار في البلاد، وسحب الوحدات العسكرية السورية من داخل التجمعات السكانية وما حولها، والحصول على التزامات من المعارضة بوقف القتال، وصولًا إلى وقف دائم للعنف المسلح بكل أشكاله من كل الأطراف، وتكثيف وتائر الإفراج عن المحتجزين تعسفيّاً، وضمان حرية حركة الصحافيين في أنحاء البلاد وانتهاج سياسةٍ لا تنطوي على التمييز بينهم فيما يتعلق بمنح تأشيرات الدخول، واحترام حرية التجمع وحق التظاهر سلمياً كما يكفل القانون. وعد الرئيس بشار كوفي عنان بالتجاوب مع نقاطه الست. ونشر ذلك على الملأ. لكن المواجهات الشرسة استمرت في بصر الحرير بدرعا والرستن، كما استمرت مداهمات المدن التي كان فيها نشطاء مسلحون كثر، ولم تتوقّف دورة العنف قط.
سوريين يخرجون من الجامع الأموي بدمشق ويتوجهون في مظاهرة تجوب سوق الحميدية (25?3/2011/فرانس برس)
متظاهرون في دمشق ضد نظام الأسد يخرجون من الجامع الأموي باتجاه سوق الحميدية (25/3/2011 فرانس برس)
الرصاص الحي في درعا
أطلق على درعا مصطلح “مهد الثورة” في سورية، لأنها كانت المدينة السورية الأولى التي أطلق الرصاص الحي فيها، وسقط من بين أهلها شهداء، مع أن المظاهرات وبعض الاحتجاجات والتجمعات حدثت في محافظات سورية أخرى أيضاً، وربما بصورة متزامنة، لكن من دون سقوط شهداء وضحايا. حدثت تجمعات وتجمهرات في دمشق أمام مجلس الشعب ووزارة الداخلية وحول الجامع الأموي وفي سوق الحريقة، وفي حي الميدان وأحياء أخرى، وكذلك في اللاذقية، وبانياس وحمص والرستن، وفي الغوطة الشرقية في دوما وجوبر وحرستا، والغوطة الغربية في داريا والزبداني والمعضمية على التوالي، وفي قرى أخرى بعيدة عن العين والكاميرات.
أما ساحة العباسيين التي تستوعب عشرات الآلاف في دمشق، فلقد جرت حراسة مداخلها بكتيبة سورية؛ لأسباب أمنية، منذ أن أصبح ميدان التحرير في القاهرة مكاناً لتجمع المتظاهرين في مصر. كانت الرسالة واضحة لا سيما للدمشقيين وأبناء غوطتهم بأن التظاهر السلمي ممنوعٌ إلا إذا نظّمته الدولة، كما حدث مع المسيرة الموالية المنظمّة في 29 مارس 2011، التي كانت الأولى، وربما الأخيرة، بهذا الحجم في العاصمة دمشق.
ترافقت مع أحداث درعا عدة أحداث في عموم البلاد ولها دلالاتها؛ أبرزها في 15 مارس/ آذار 2011، فبدأ التظاهر بجمهرة صغيرة في سوق الحريقة بدمشق إثر خلاف بين شرطة المرور وأحد تجار السوق. تطوّر الحدث فجأة، بعد أن تضامن مئات غدوا بسرعة ألوفاً من الأهالي ضد شرطة المرور، وهم يهتفون “حاميها حراميها”، ما استدعى تدخّل عددٍ من رجال الشرطة والأمن. ثم كبر الموضوع وكاد أن يخرج عن السيطرة؛ ما استدعى حضور كبار ضبّاط الشرطة، ثم حضور وزير الداخلية اللواء سعيد سمّور بنفسه لمعالجة المشكلة المستعصية.
أطلق على المظاهرة في 18 مارس “ثورة الغضب”؛ لأنها تحولت بعد تشييع ثلاثة شهداء ودفنهم في مقبرة البلدة في درعا إلى تظاهرة كبرى
تمكّن وزير الداخلية، بحسن تصرّفه، من إنهاء الخلاف بصورة مرضية للجميع، حتى إن بعضهم في الجمهرة العفوية أخذ يهتف باسم الرئيس، بينما آخرون كانوا يردّدون بصوت مرتفع “الشعب السوري ما بينذل”. اعتبرت بعض الأجهزة الأمنية أن ذلك بمنزلة تمرد لا يجوز التعامل معه بهذه الطريقة، مع أنه لا تناقض بين الموقفين؛ فالرئيس الطبيعي لأي دولة لا يقبل الذل لشعبه بأي حال من الأحوال. لكن في صباح اليوم التالي، في أثناء اجتماع القيادة، تساءل عضو القيادة القُطرية ووزير الدفاع العماد علي حبيب عن حادثة الأمس بسوق الحريقة وتداعياتها المحتملة في هذه الأجواء، فجاءه الجواب من أحد الأعضاء: سورية ليست كمصر وتونس، وأن تصرّف وزير الداخلية قلل من “هيبة الوزارة”. وعند أول تغيير وزاري، فقد سعيد سمّور منصبه، وجرى تعيين وزير جديد ليعيد للوزارة “هيبتها” المفقودة.
نقطة تفتيش للجيش السور في شارع برعا بعدإطلاق قوات الأمن النار على تظاهرين قرب جامع العمري (23/3/2011/فرانس برس)
نقطة تفتيش للجيش السوري في شارع في درعا بعد إطلاق نار على متظاهرين قرب الجامع العمري (23/3/2011 فرانس برس)
قصة أطفال درعا
أما القصة الأخرى التي تستحقّ سرد تفاصيلها، فقد غطّتها وسائل إعلام عالمية وتعاملت معها مواقع التواصل الاجتماعي بكثافة غير مسبوقة، في حين تجاهلها الإعلام السوري الرسمي. كانت القصّة تتعلق بخمسة عشر مراهقاً في الإعدادية والثانوية كتبوا على حيطان المدرسة في فبراير/ شباط 2011، “إجاك [أتاك] الدور يا دكتور”. اعتقل هؤلاء الفتية من بيوتهم ومدارسهم إثر ذلك. لم تنشر وسائل الإعلام السورية الرسمية أي خبر يمتّ بأي صلة لما حدث معهم، لا في البداية ولا في النهاية، ولا صحّحت أي معلومة حولهم حتى لو جاء هذا التصحيح لمصلحة النظام.
زعمت التعليقات أن أظافر بعض أطفال درعا اقتُلعت في أثناء التعذيب، لكن اللواء هشام الاختيار رئيس مكتب الأمن القومي (الذي أصبح الوطني لاحقًا)، والذي سلّم فيما بعد التلاميذ إلى أهلهم باليد، أنه لم يلحظ أن أحداً من الفتيان قد اقتلعت أظافره. أما الإعلام السوري، فاعتبر ما جرى لتلاميذ درعا كأنه لا يمت بصلة لمواطني الدولة السورية وحقوقهم، ولا كان موضع متابعة حثيثة في وسائل الإعلام الأجنبية وضجّ بها العالم.
انشغل أهالي درعا أسابيع عديدة بقصة اعتقال التلاميذ، لا سيما آباؤهم الذين راجعوا كبير مسؤولي الأمن في درعا والمحافظ أكثر من مرّة، وأراقوا ماء وجوههم في كل مرّة. سرت شائعات وقصص شتى حولهم وحول دوائر القضاء في درعا، وفيما إن كانت هناك قوانين ومحاكم يلجأون إليها. انتشرت الشائعات واتسعت مثل بقعة زيت فوق سطح رقيق من الماء؛ لأن درعا مدينة صغيرة يعرف أهلها بعضهم. تلاميذ مراهقون قد تأثروا بما شاهدوه على التلفزيون في ميدان التحرير بالقاهرة، ومن منا لم يتأثر!
كتب الأطفال (التلاميذ) منذ أسابيع على جدران مدارسهم، وبعضهم ربما كتب على أحد حيطان البلدة القديمة في درعا أشياء كثيرة كان بينها “إجاك الدور يا دكتور” و”الشعب يريد إسقاط النظام”. علمتُ أن شبيهاً بهذه العبارات كُتب أيضاً على جدران مدن أخرى في المحافظات النائية، غير أن السلطات الأمنية هناك كانت تغضّ النظر وتمحو تلك العبارات، حتى لو أعيدت كتابتها في اليوم التالي.
إطارات مشتعلة خلال احتجاجات مناهضة لنظام الأسد في شارع بمدينة درعا (23/32011/فرانس برس)
إطارات مشتعلة خلال احتجاجات مناهضة لنظام الأسد في شارع في درعا (23/32011 فرانس برس)
لا دخان من دون نار
هزّت العبارات التي كتبت على الجدران العميد عاطف نجيب، رئيس فرع الأمن السياسي في درعا، لا سيما أنه يمتّ بقرابة لرئيس الجمهورية، وإلا – كما أشيع في حوران – لما تمّ تعيينه في هذا المكان الحساس المجاور للجولان السوري المحتل والأردن وإسرائيل. هكذا كان حديث الناس في حوران؛ فأهل التلاميذ يعرفون نصف الحقيقة، أما النصف الآخر فلا يعلمه الرأي العام السوري إلا من وسائل الاتصال الأجنبية. استخلص هذا الضابط من التقارير التي وردت إليه أن التعامل مع أناس تجرّأوا على المسّ بالذات الرئاسية لا يمكن غفرانه. كانت خطورة الجريمة المرتكبة في نظره أكبر بكثير من أن تعالج في درعا التي لا تمتلك – مثل دمشق العاصمة – كل المعلومات والأدوات اللازمة للتعامل مع هذا الموضوع الخطير.
كان لا بد إذًا من سوق التلاميذ إلى دمشق، حيث جرى إيداعهم في فرع فلسطين العسكري؛ لأن ذنبهم لا يمكن أن يكون إلا سياسيًا، كما أفادت تقارير نجيب لدمشق، وهذا الفرع كما يشاع عنه يتعامل مع المشبوهين بالتخابر أو العمالة. لكن الشائعات كبرت على مستوى العالم، وبلغت حدًا من الخطورة لعدم نشر أي خبر عما حصل؛ ما دفع إلى الانتفاضة في درعا التي اعتُبرت مهد الثورة.
كان قطع مهمة مشعل كما فكرت فيه بعد فترة قليلة مرتبطًاً في الحقيقة بالحل الأمني الذي عزم الرئيس سرّاً على الإقدام عليه
أطلق على المظاهرة في 18 مارس “ثورة الغضب”؛ لأنها تحوّلت بعد تشييع ثلاثة شهداء ودفنهم في مقبرة البلدة في درعا إلى تظاهرة كبرى، وخصوصًا حين انضم إليها آباء وأقارب “الأولاد” الذين كانوا مجهولي المصير. كان الجميع خلال المظاهرة، ساخطين وهائجين، وهم يحاولون اجتياز جسر وادي الزيدي – الذي يفصل بين درعا البلد ودرعا المحطة – بإيقاع سريع، حتى لا يغيب عن أعينهم سراي الحكومة، الذي كان ينظر إليه الأهالي على أنه مصدر المشاكل والمظالم.
اجتازت المظاهرة جسر الوادي إلى فضاء أرحب تضيع فيه أصوات الحناجر العالية، والتي لم يسمعوا مثيلًا لصداها في أزقة البلدة القديمة ذات البيوت الحجرية المكسوة بالطين. حطم المتظاهرون الهائجون كل ما وقعت عيونهم عليه، وعبثوا بموجودات سراي الحكومة، وبيت المحافظ في درعا وحتى مكاتب “سيريتل” (شركة الاتصالات التي يملكها رامي مخلوف ابن خال الرئيس). وحاول نفر من المتظاهرين الغاضبين إزالة تمثال للرئيس حافظ الأسد، لكنهم لم يتمكّنوا منه لضخامته؛ فمزقوا صورة كبيرة لبشار “الأمل”، الذي ظن بعضهم حتى ذلك الوقت أنه قد يكون مثلهم متمردًا على الظلم.
مبنى محكمة أُحرقه متظاهرون في مدينة درعا (21/3/2011/فرانس برس)
مبنى محكمة أُحرقه متظاهرون في مدينة درعا (21/3/2011/فرانس برس)
السلاح والمال داخل الجامع العمري
في المساء، لاذ بعض الأهالي بالجامع العمري وسط البلدة القديمة بدرعا، بعيدأً عن الأعين لتقبل التعازي وقراءة الفاتحة على أرواح الشهداء. سرت تمتماتٌ أن التلفزيون السوري بثّ صوراً لكميات كبيرة من الليرات السورية وقطعاً من السلاح عُثر عليها في الجامع العمري. ساد المكان صمتٌ في منتصف الليل قطعه إطلاق رصاص كزخّات المطر العاصف، سقط على إثره عدد آخر من الشهداء والضحايا حول الجامع من دون أن يعرف مصدر الرصاص. قالت عناصر من الأمن إنهم لم يتأكّدوا من أطلق النار في ليل ماطر حالك السواد، فلم تستطع قوات الأمن والشرطة السيطرة الكاملة على الموقف في درعا.
خرج الناس في موجة واحدة غاضبين، وتعاظمت الموجة واشتدّت الهتافات. لم تستطع قوات الأمن والشرطة المحلية السيطرة على الموقف، فاستدعت السلطة بعد ذلك عدة مروحيات. حطّت طائرة في الملعب البلدي في درعا ونزل منها جنود ملثمون يرتدون قمصاناً سوداء، ظنّ بعض الأهالي الذين لمحوهم عن بعد بأنهم إيرانيون، وظن آخرون بأنهم يمهّدون لزيارة الرئيس إلى درعا. كانت خيبة أملهم كبيرة لأن الزيارة لم تتم. أما قصة القمصان السوداء فتبين أنها مستوردة من إيران قبل مدة، كما أخبرني الرئيس نفسه في وقت لاحق عندما التقيته في القصر الجمهوري. وأما الجنود، فلقد كانوا، مع الأسف، سوريين جاؤوا لقمع المتظاهرين وليس مقدّمة لزيارة الرئيس.
خارج المدينة، هبّت القرى المجاورة مثل النعيمة وعتمان وغيرها، والتي لا تبعد عن درعا سوى بضعة كيلومترات، بالآلاف تضامناً. هبّوا سيراً على الأقدام، وبعضهم تسلق التراكتورات الزراعية. هرعت إلى مداخل المدينة إحدى كتائب الجيش المنتشرة في المنطقة، وتمكن وزير الدفاع علي حبيب أن يوقف إطلاق النار من الجنود، ونجح الضابط الذي اشتهر بشجاعته في معركة السلطان يعقوب والتي أوقفت الزحف الإسرائيلي في البقاع في أثناء غزو لبنان عام 1982 في تجنب مذبحة كبرى في محيط درعا، واستعادة البنادق التي انتزعها عدد من القرويين في أثناء عراكهم مع بعض الجنود عند المدخل الشمالي للمدينة. (أقال رئيس الجمهورية العماد علي حبيب من منصبه بعد أشهر من الحادثة).
كان قطع مهمة خالد مشعل كما فكرت فيه بعد فترة قليلة مرتبطًاً في الحقيقة بالحل الأمني الذي عزم الرئيس سرّاً على الإقدام عليه
شكّل الرئيس في اليوم التالي، في 20 مارس 2011، وفداً للتعزية برئاسة وزير الإدارة المحلية تامر الحجة. تمنّيت أن يكون الوفد برئاسته لأن وجوده في مقدّمة المعزين سيكون له وقع خاص، لا سيما أنه لم يزر درعا سابقاً، فابتسم معتبرأً كلامي إطراءً، ولكنه لم يقبل فكرة أن يذهب هو شخصيّاً للتعزية، وعقب قائلًا “ستتفاجأ بأن تامر الحجّة قد يصبح بعد عودته رئيساً لمجلس الوزراء”، وأعقبها بضحكة، ظانّاً بأني أشكك بقدراته على تعيين رئيس وزراء من دون استشارة القيادة القُطرية.
سبق تشكيل الوفد الرسمي سفر وفد أمني ضم عدة ضباط برئاسة اللواء هشام الاختيار رئيس مكتب الأمن الوطني، وأسامة عدي، عضوي القيادة القُطرية، والعميد رستم غزالي رئيس فرع ريف دمشق للمخابرات العسكرية وابن محافظة درعا، حيث أقاموا في فرع الحزب بدرعا عدة أيام. أعفي خلالها المحافظ فيصل كلثوم من منصبه، فيما نُقل العميد عاطف نجيب إلى موقع عسكري آخر.
اتصل اللواء علي مملوك بي هاتفيّاً، وكان يومها مديراً للمخابرات العامة، وقال لي إن السيد الرئيس طلب من خالد مشعل، رئيس حركة حماس، أن يذهب إلى درعا ليبذل جهوداً لتهدئة الأمور. رحبتُ بهذا التكليف، لأنه سيساعد في تهدئة الأوضاع هناك؛ إذ يتمتّع مشعل بسمعة طيبة في درعا. لكنني فوجئت بعد ساعات قليلة بأن الرئيس طلب من مملوك إعادة مشعل إلى مقرّه في دمشق ولو كان في منتصف الطريق؛ لأن مساعيه لن يُكتب لها النجاح المطلوب. كان قطع مهمّة مشعل كما فكرت فيه بعد فترة قليلة مرتبطًاً في الحقيقة بالحل الأمني الذي عزم الرئيس سرّاً على الإقدام عليه.
عاد الوفد الرسمي من درعا ورفع تقريره إلى الرئيس، الذي لم يطلع أيًاً من المؤسّسات عليه، لا مجلس الوزراء ولا الحزب ولا الجبهة الوطنية. علمتُ ببعض المعلومات عن مضمون التقرير إلى اللجنة السياسية التي يجتمع أعضاؤها دوريّاً في مكتبي، والتي شكلت منذ عدة سنوات برئاستي.
كان بعض أعضاء اللجنة يعرفون شيئاً عما جرى ولا يعرفون كل شيء. كان مفاجئاً لي ولأعضاء اللجنة مثلًا أن عدد البعثيين الذين واظبوا على التزامهم الحزبي في محافظة درعا في أثناء بداية الاضطرابات عام 2011 لم يعد يتجاوز 7% من المسجّلين في فرع درعا، وهو وضعٌ يستدعي التفكير في الانهيار الذي وصل إليه وضع الحزب الحاكم في سورية.
متظاهرون ضد نظام الأسد في شارع بمدينة درعا (23/3/2011/فرانس برس)
متظاهرون ضد نظام الأسد في درعا (23/3/2011 فرانس برس)
مطالب الأهالي في درعا
روى لنا فيصل المقداد، نائب وزير الخارجية وعضو اللجنة السياسية، الذي سنحت له فرصة التنقل في محافظة درعا عدة أيام بعد انتهاء اللجنة الحكومية من مهمتها في التعزية، أنه استمع لعدد كبير من مواطنين عاديين ووجهاء ونخب وحزبيين في محافظة درعا، فأجمعوا أن طريقة معالجة ما حدث، وخاصة اعتقال الأولاد وإرسالهم إلى دمشق واستهتار المحافظ وأجهزة الأمن بأهاليهم والمعاملة المذلة والمهينة التي استقبل بها آباؤهم وعدم إطلاق سراح أبنائهم، هو الذي أجج مشاعر الأهالي ودفعهم إلى الاعتداء وتحطيم كل ما وقع تحت أيديهم، بما في ذلك تحطيم سيارة المحافظ، الذي أنقذه في الوقت الحرج أحد المواطنين كان في المظاهرة.
كانت مطالب أهالي درعا تتلخص في التالي: أولاً، إطلاق سراح التلاميذ المعتقلين؛ ثانياً، اللجوء إلى الأهالي بدل الاستعانة بتعزيزات عسكرية من دمشق؛ ثالثاً، التحقق من أن أحد أجهزة الأمن هو الذي أدخل الأسلحة والأموال إلى الجامع العمري. طالب بعض الأهالي أن يزور الرئيس درعا ليطلع بنفسه على أحوال الأهالي، وأكّدوا أن زيادة الرواتب لا تحلّ مشكلة للذين يعملون بوظائف غير حكومية وخاصة بعد زيادة أسعار المازوت، التي تهم المزارعين أيضاً. تحدث المواطنون في درعا عن الآثار الكارثية للقرار الحكومي 49 المتعلق بالمناطق الحدودية الذي منعهم من التعامل مع عقاراتهم وممتلكاتهم إلا بموافقة السلطات الأمنية؛ ما يعني دفعهم رشى أو إرضاء بعض المسؤولين. كما أصر الجميع على المطالبة بإجراء تحقيق في الأحداث، وخاصة مع العميد عاطف نجيب، حيث اعتبروا أنه أساء للقوات المسلحة قبل أن يسيء إلى أهالي الأولاد في درعا؛ لأن رئيس الجمهورية باعتباره قائداً أعلى في الجيش والقوات المسلحة اكتفى بنقله إلى موقع آخر خارج المحافظة بدلًا من كف يده، كما حصل مع المحافظ فيصل كلثوم.
اخترعت بعض الأجهزة الأمنية سيناريو “المندس” في صفوف المعارضة، الذي لم يُقبض عليه أبداً
دُعينا إلى اجتماع القيادة القُطرية صباح 23 مارس 2011 في القصر الجمهوري، وترأسّه الرئيس. كنتُ وبقية أعضاء القيادة نتوقّع أن يضعنا في صورة ما وصل إليه من معلومات حول الأحداث الدامية في درعا، وتفاصيل ما جرى في الجامع العمري، وصحة الشائعة حول ما قيل إن الأسلحة والنقود التي وجدت لم تكن من فعل الأهالي، ومضمون ما سمعه من الوفود الرسمية الرئاسية التي عادت للتو من درعا. لكن الرئيس لم يوضح ما جرى، ولم يضعنا في أي تفصيل حول ما سمعه عن أحداث درعا. كان واضحاً لي، أن انزعاجه كان متمحوراً حول ما أصاب صورته من تشويه في درعا بالدرجة الأولى، فقال بصوت متهدج: “أنا لا يهمّني سوى الاعتداء على تمثال الرئيس حافظ الأسد ولا تهمّني صورتي الشخصية”، ملتفتاً إلى يمينه كأنه يوجّه غضبه المكتوم نحو محمد سعيد بخيتان الأمين القُطري المساعد لحزب البعث.
فهم بخيتان الرسالة، وحاول تهدئة الرئيس بقوله: “يا سيادة الرئيس، كل شيء سيعود كما كان التمثال والصور” وأي شيء تعرّض للتخريب. كانت سمات الغضب واضحة على وجه الرئيس، واستمر بالاستفسار من أعضاء القيادة القُطرية، وقال، في نهاية الاجتماع، لا بد من إصدار قرارات عن هذا الاجتماع للقيادة القُطرية، وتابع وهو يقرأ من ورقة أمامه: زيادة في الرواتب، ووضع آليات جديدة لمكافحة الفساد، والنظر في إلغاء الأحكام العرفية، وستبلغ بثينة شعبان وسائل الإعلام بكل هذه الأمور، منهياً الاجتماع بعد ذلك بالوقوف لترديد شعار الحزب.
لقطة شاشة لسوري يرفع صورة الطفل حمزة الخطيب خلال تشييع جثمانه (28/5/2011/Getty)
لقطة شاشة لسوري يرفع صورة الطفل حمزة الخطيب خلال تشييع جثمانه في درعا (28/5/2011 Getty)
مؤتمر شعبان والمؤامرة
لدى خروجنا من هذا الاجتماع المقتضب الذي لم يكن يتناسب مع فضول ما لدى أعضاء القيادة من أسئلةٍ واستفسارات، لم يترك الرئيس مجالاً لأحدٍ كي يتحدّث إليه، باستثناء بثينة شعبان، المستشارة الرئاسية للإعلام، والتي هرعت وراءه وهو يحدّثها بكلتا يديه عما هو مطلوب منها قوله. ظهرت شعبان بعد ذلك من وراء الميكرفون في القصر أمام حشد من الإعلاميين. حاضرت شعبان فيهم عن الأزمة والفتنة والمؤامرة التي تستهدف سورية والمنطقة. أما قرارات القيادة القُطرية التي كان يجب أن تصبح محور المؤتمر الصحفي، فقد مرّت عليها بعجالة إلى الحد الذي نسي الرأي العام السوري فيه القرارات التي اتخذها الرئيس والقيادة القُطرية لمعالجة الأزمة التي تمر بها البلاد.
يوم الجمعة، بعد يومين على المؤتمر الصحفي لبثينة شعبان، تفاقم الوضع مجدّداً في درعا، واتسعت المظاهرات لتشمل معظم الريف وتمتد خارج المحافظة إلى بعض المناطق في غوطتي دمشق الشرقية والغربية، وكذلك بانياس وحمص ومنطقة الصليبية باللاذقية. قرّر الرئيس عندها إلقاء خطاب في مجلس الشعب جرى تحديده في 30 مارس 2011. زرتُ الرئيس في مكتبه وأشعرتُه بضرورة أن يوضح أمام مجلس الشعب قرارات القيادة القُطرية المتخذة الأسبوع الماضي برئاسته، وخاصة النظر في إلغاء الأحكام العرفية، وضرورة التعبير عن أسفه البالغ لفقد سورية شهداء من المدنيين والعسكريين على حدّ سواء. فهزّ رأسه بالموافقة.
أدليتُ عندها بتصريح صحفي قلت فيه إن الشعب سيسمع من السيد الرئيس ما يسرّ الجميع، إلا أن الرئيس، مع الأسف، لم يفِ بما وعدني به وأغفله في خطابه في مجلس الشعب. وبدلأً من ذلك، أمر بإخراج مسيراتٍ ضخمةٍ مؤيدة له في دمشق وبعض المحافظات قبل الخطاب، ترافقت مع إقالة محمد ناجي العطري من رئاسة الوزارة التي شكّلها عام 2003، والتي لم تجرِ مناقشتها في القيادة القُطرية خلافًا للأعراف. كان معروفاً في الوسط السوري أن وزارة العطري كانت عنواناً ولسنين عديدة لعملية تحرير الاقتصاد السوري بقيادة نائب رئيس الوزراء عبد الله الدردري، وهي سياسةٌ ذات جرعاتٍ نيوليبرالية ثقيلة بالمعايير السورية، لم تكن تحظى بقبول واسع، نظراً إلى أبعادها السلبية على بعض قطاعات الشعب، ولا سيما على القطاعيْن الصناعي والزراعي. لذلك فسّر الإعفاء في سياق امتصاص بعض من جوانب النقمة الشعبية الحاصلة عبر التضحية بوزارته.
المستشارة الإعلامية للرئيس السوري بثينة شعبان خلال مؤتمر صحافي في قصر الشعب بدمشق (24/3/2011/فرانس برس)
المستشارة الإعلامية للرئيس السوري بثينة شعبان في مؤتمر صحافي في قصر الشعب بدمشق (24/3/2011 فرانس برس)
اعتبر أحد أعضاء القيادة أن لخروج مسيرات كبيرة في هذا الوقت بالذات دلالة على التأييد الشعبي للنظام، وليس على آمال الناس بسماع خطابٍ يرضي تطلعاتهم بعدما انهمكت أجهزة الإعلام السوري وفي مقدمتها التلفزيون السوري ببثّ مقابلات عن تلك التطلعات، ونشرت صحفٌ لبنانية قريبة من القيادة السورية عن سلسلة إجراءات إصلاحية عملية سيعلن عنها الرئيس. علقت حينها “قد لا نستطيع بعد عدة أشهر رغم وجودنا في السلطة إخراج نصف هذا العدد”. مع ذلك، كنتُ سعيداً بما توقعته بأن كلمته ستكون منحازة إلى الشعب أو أقرب إلى نبض الشارع بعد لقائي معه.
ظهر الرئيس بالصوت والصورة في 30 مارس 2011 في مجلس الشعب، وكان في استقباله رئيس المجلس محمود الأبرش خارج مبنى. كان منشرح الصدر منتشيّاً، وهو يدخل القاعة وسط عاصفة من التصفيق، لا سيّما أنها المرّة الأولى التي سيتكلم فيها منذ اندلاع الأحداث في سورية.
أشار في كلمته إلى درعا وإلى اللاذقية أيضاً، محمّلاً مسؤولية ما يجري من أحداث إلى المؤامرات الخارجية من دون أن يسمّي أية دولة متآمرة، وكرّر مصطلح الفتنة. لم يعلّق على ما جرى من لغط وإشاعات حول الجامع العمري والمال والسلاح الذي عثر عليهما في داخله، ولا عن قرارات القيادة القُطرية التي كان ينتظر أعضاء المجلس كي تتوثّق بحديثه. لكنه اكتفى بالثناء على أهل درعا وتضحياتهم، فاستجرّ من مجلس الشعب تصفيقاً مدويّاً.
قد أحبطني بشدة ما سمعته، خاصة أنه جاء مخالفاً لما اتفقنا عليه. لكنها ليست المرّة الأولى أو الأخيرة التي لا يعمل فيها الرئيس بالنصيحة التي أسديتُها إليه، رغم الموافقة الظاهرية عليها. في خضم استمرار هذه الأحداث الدامية، وعدم توفر أدوات سلمية في سورية لمنع تحول المظاهرات إلى أعمال شغب وفتنة، وضرورة استخدام خراطيم المياه والقنابل المسيّلة للدموع والرصاص المطاطي بدلًا من الرصاص الحي، نقلت للرئيس مباشرة هواجسي وهواجس اللجنة السياسية حول هذه الأمور. قلت له إنني رأيت تأثيرها الكبير في المظاهرات في أثينا باليونان قبل يومين، أجاب بأننا في سورية لا نملك هذه الأدوات.
مع الأسف، شاهد كثير من المواطنين خراطيم الدبّابات في المدن، ولكنهم لم يروا خراطيم المياه في مواجهة المتظاهرين!
تولّدت في درعا حلقة شيطانية دموية: تشييع إلى المقبرة، تليها مظاهرات غاضبة، فقُتل بالرصاص الحي، فتشييع فقتل، لتبدأ حلقة مرسومة بالدم، لم تنتهِ عند حدود المقبرة، ولا عند حدود المحافظة. هذه الحالة الراهنة لأحداث درعا أبلغناها للرئيس شفهيّاً وخطيّاً مرفقة بمحاضر اللجنة السياسية التي تضم كبار المسؤولين في الحزب والدولة، علّه يأمر بوقف إطلاق النار.
بعد مجزرة الصنمين أمر بشار بإخراج وسائل الإعلام العربية والأجنبية من سورية
صدرت توجيهات رئاسية في 21 إبريل/ نيسان 2011 بمراسيم جمهورية افتراضية، مثل رفع حالة الطوارئ في سورية، وتنظيم حقّ التظاهر السلمي. كما شكلت لجنة للتحقيق بأحداث درعا وأخرى في اللاذقية، ولجنة ثالثة لحل مشكلة إحصاء 1962 الاستثنائي في الحسكة، الذي صنف نحو 28% من سكّان الجزيرة السورية (محافظة الحسكة) باعتبارهم “أجانب” وأطلق عليهم في السجلات الرسمية اسم “أجانب تركيا”. وأضيف قرار لمكافحة الفساد. كان إبريل 2011 حافلًا بالتوجيهات الرئاسية التي لم تبصر النور ربما بسبب تدخل أيدٍ خفية غيرت من المراسيم المعلنة، ما عدا ما ورد منها بخصوص منح الجنسية لمواطنين أكراد وفق الإحصاء المذكور، وكان هذا الموضوع على طاولة الرئيس منذ عام 2004 بعد تقارير من عدة لجان حزبية وأمنية بمعرفته ولم يوافق على أي منها.
سعت القيادة القُطرية بشكل جادّ منذ بداية الأحداث إلى وضع الأسس القانونية للتظاهر السلمي، والآليات اللازمة لتطبيق إلغاء قانون الأحكام العرفية لأنه “أم المشاكل” في سورية بسبب اتصاله بحياة الناس وكرامتهم. وساهم في هذا الموضوع الأمين القطري المساعد محمد سعيد بخيتان ورئيس خلية الأزمة العماد حسن تركماني. ليس من المعقول مثلاً أن يعتقل مواطن من بيته في الفجر من دون إذنٍ من النيابة العامة، ويخضع للتحقيق لمدة غير محددة، وأن يتعرّض للتعذيب، وقد لا يُحال إلى القضاء.
أذكر أن اللواء هشام الاختيار بعد أن عاد من مدينة حماة بتكليف من القيادة، بعد مجزرة بشعة ومهولة بحقّ المتظاهرين ارتكبها فرع الأمن العسكري، روى أن سكان حماة شكوا بأنهم يحتاجون إلى أكثر من سبعين موافقة أمنية لتسيير شؤون حياتهم بشكل طبيعي، واتخذ الاختيار في الاجتماع مع أعيان حماة وشخصياتها قرارات عاجلة بإزالة عديد من المشكلات والمظالم التي حدَثت على خلفية أزمة الثمانينيات مع جماعة الإخوان المسلمين لكن لم ينفَّذ أي منها.
اخترعت بعض الأجهزة الأمنية سيناريو “المندسّ”، الذي لم يُلقَ القبض عليه أبداً لإقناع الناس بصحة وجوده في صفوف المعارضة. لقد تحول المندس بعد مدة من الزمن إلى تندر وسخرية بين الناس في سورية.
أذكر أنني قلت للرئيس في مكتبه: “لماذا يُطلقون النار بدلأً من اللجوء لتفتيش البيوت غرفة غرفة وسد مداخلها ومنافذها لإلقاء القبض على المندسّ كما نرى في دول أخرى؟ أفهم أنه ليس المطلوب من الجيش أن يؤيد المظاهرات، لكن واجبه أن يتصرف بحيادية وحكمة لا أكثر ولا أقلّ”. … تجاهل الرئيس ذلك كله، بل صدرت منه الأوامر حينها بإخراج وسائل الإعلام العربية والأجنبية من سورية، لا سيما بعد مجزرة الصنمين التي راح ضحيتها عشرات من المتظاهرين في 25 مارس 2011، من بينهم أطفال ونساء. … قليل من المهتمين بالسياسة وبالشأن العام يعرف أن قانون الأحكام العرفية موجود في القانون في سورية قبل حكم البعث عام 1963، وكانت آخر صياغة للقانون الذي عملت به حكومات البعث منذ 8 مارس 1963 قد ورثها الحزب عن عهد الانفصال. ومع ذلك، هل يجوز استمرار العمل به لأنه من صنع الذين قبلنا سواء أكانوا انقلابيين أم ديمقراطيين وبرلمانيين؟ وماذا يعني الإصلاح والتحديث إذا لم يشمل أيضًا الإصلاح السياسي في بلادنا؟ أم إن انتهاج الإصلاح الاقتصادي من دون إصلاح سياسي هدفه زيادة الغني غنىً والفقير فقراً من دون أن يكون له رأي سياسي آخر؟
سوريون يستمعون إلى خطاب الرئيس السوري بشار الأسد المتلفز في منزلهم بدمشق (3/6/2012/فرانس برس)
سوريون يستمعون إلى خطاب متلفز للرئيس السوري بشّار الأسد في منزلهم بدمشق (3/6/2012 فرانس برس)
حاول رئيس الوزراء الجديد الدكتور عادل سفر فور تسلّم منصبه في مايو/ أيار 2011، أن يضع آليات لتفعيل بعض القرارات الإصلاحية المتعلقة بالإعلام والأحزاب ومكافحة الفساد. لكن الزمن لم يسعفه، حيث أقيل من الحكومة بعد حوالى السنة.
أزيح عادل سفر عن منصبه، ربما لأنه لامس الخطوط الحمراء لبعض العقود الحكومية مع القطاع الخاص، والتي كانت شروطها مجحفةً بحق الدولة مثل أحد عقود الهاتف الخليوي مع شركة “سيريتل”، حيث ذكر في اجتماع القيادة القُطرية تحديداً الإجحاف في تلك العقود نظراً إلى قلة مداخيلها على الخزينة العامة بالمقارنة مع أرباح الشركة.
عُين رياض حجاب رئيساً للوزراء في يونيو/ حزيران 2012 بتوجيه وإشادة من الرئيس بالذات، ومن دون عرض اسمه على القيادة، لكنه غادر الحكومة إلى الخارج منشقّاً عن الدولة بعد شهرين فقط.