وأبدأ مع بديع حقي (1922 ـ 2000) في روايته “أحلام الرصيف المجروح” (1973)، حيث الشخصية المحورية هي محمد ماسح الأحذية الفلسطيني الأرمل المتعلق بزوجته فاطمة الراحلة، وبابنته المشلولة زينب. وفضاء الرواية هو حارة قولي الدمشقية العتيقة. وكما توقّع للرواية نقراتُ الفرشاة على ظهر صندوق (البويا) توقّع وصية فاطمة لمحمد وهي تحتضر بأن ينقل عظامها إلى المقبرة في المحلة الشرقية في حيفا.
إذا كانت “أحلام الرصيف المجروح” تؤكد التجربة الفنية المميزة لبديع حقي في الريادة المبكرة لموسيقية الرواية، فهذه الرواية ليست إلا واحدة مما كان لفلسطين في كتابات وكتب صاحبها الذي أبدع في القصة القصيرة مجموعة “التراب الحزين” (1960)، وجرى تدريسها في المدارس السورية سنوات، وكان لي من ذلك نصيب في بداية عملي مدرّسًا في مدينة الرقة. ولست أنسى منها قصة “يوميات خيمة”. كما ترك لنا بديع حقي كتاب “فلسطينيات بديع حقي”، وكتاب “حين يورق الحجر”، وهو مقالات عن أطفال الانتفاضة.
في سنة صدور رواية بديع حقي هذه صدرت رواية “الزمن الموحش” لحيدر حيدر (1936 ـ 2023)، التي تعجّ بالشخصيات المعطوبة روحيًا، والمهجوسة بالجنس، والمسكونة بأحلام وأفكار التمرد والتغيير، ومزاوجة الماركسية بالفرويدية، وهذا كله يتصادى في رواية هاني الراهب “شرخ في تاريخ طويل”، و”ألف ليلة وليلتان”، مع ملاحظة أن أغلب الشخصيات في روايات حيدر والراهب هذه منتمية إلى حزب البعث.
من الشخصيات المحورية في “الزمن الموحش”، منى، التي حاولت الرواية أن تجعل منها رمزًا للحب والثورة، ورمزًا للانتصار على الصهيونية. أما الشخصية الفلسطينية فقد بدت مثل سائر الشخصيات السورية معطوبة، فكما يموت سامر البدوي قتلًا، ووائل الأسدي ضابط المخابرات السادي في حادث سيارة، يقتل مسرور زوجته ديانا التي مارس الجنس معها الراوي شبلي عبد الله، صديق زوجها…
أما في رواية “شموس الغجر” (2000) فيختلف الحضور الفلسطيني الذي يتجسد في شخصية ماجد زهوان اليساري زميل الراوية راوية في الجامعة، والذي يفجر نفسه داخل السفارة الإسرائيلية في نيقوسيا، في الذكرى الثالثة عشرة لاغتيال ماجد أبو شرار. وكان قد كتب لحبيبته راوية أنه محبط وهالك وعابر في أزمنة التسفيل العربية، وأنه هامشي ولاجئ وبلا أمل مهزوم وثقته بنفسه مفقودة، وهو بذلك يذكّر بالسمات الكبرى لشخصيات “الزمن الموحش” التي زلزلتها هزيمة 1967.
مع رواية “البرتقال المر” (1974) لسلمى الحفار الكزبري (1923 ـ 2006) ننتقل في سورية إلى حرب 1973، وفيها يتساءل عصام عما إن كانت ابنة عمته الفلسطينية منى، وهي التي تركها تكمل دراستها في أميركا، تفكر مثله “بأننا وضعنا في حربنا هذه حجر الأساس لمخطط عربي صحيح لا أثر فيه للارتجال والنفاق، وأنه بحجم طموحنا وحجم المستقبل الذي نريده لأولادنا”.
ويؤكد عصام من بعد لمنى أنه وصحبه بانتظارها لتنفيذ مخطط جديد وعمل منظم من أجل العودة إلى فلسطين. لكن العاقبة أسرعت بنقيض ذلك كله ابتداءً بكامب ديفيد. وكانت عمة عصام قد تزوجت وجيهًا فلسطينيًا يملك مزرعة سنة 1945. وبفعل “النكبة” كان النزوح إلى دمشق، حيث عمل الزوج خبيرًا زراعيًا ومشرفًا على عدد من المزارع، وعملت العمة في التطريز، وفي حياكة الصوف. وقد رضعت منى مع عصام فحرمت عليه. وفي روما، حرمت منى عصير البرتقال بعدما قرأت على برتقالة (يافا ـ إسرائيل). وكانت تنتقد ما تسميه احتلال اليهود لأميركا، وتخشى أن تكون القضية الفلسطينية قد قتلت بالكلام والغناء. أما عصام فيرى أن القضية الفلسطينية هي سبب كل ما في بلاد العرب من تخلف واضطراب. وفي رسالة من عصام إلى نزار المنتسب لحزب البعث يؤكد أنه ما إن يعود إلى البلاد حتى يعمل كي يستقطب مع نزار ومع الآخرين طاقات الشبيبة لدعم العدالة والمصالحة الوطنية و”الحركة التصحيحية”، التي قام بها حافظ الأسد في 16/ 11/ 1970. أما نزار فقد كتب لعصام بعد الحركة منتقدًا العسف والانحراف اللذين كانا للحاكمين قبلها. ويعلن نزار أننا صرنا في بلد مفتوح على العالم، وأننا في حاجة إلى التضامن والتآلف، كادحين وميسورين، فما تهدم في سبع سنوات ـ والإشارة هنا هي إلى ما بين 1963 و1970- لا يمكن بناؤه في بضع سنين.
إلى ما نتأ في رواية “البرتقال المر” من القراءة القاصرة لزمنها ـ سبعينيات القرن الماضي ـ نتأ فيها أيضًا الإهاب الفني المتواضع الذي يذكّر برواية “ثوار من بلادي” ـ 1950 لصلاح مزهر (1915 ـ 1989)، وفيها يمضي أحد أبطالها إلى فلسطين بعد فشل الثورة السورية الكبرى. وفي فلسطين ينخرط هذا السوري في ثورة الشيخ عز الدين القسام. كما تذكر روايتا الكزبري ومزهر في تواضعهما فنيًا برواية “الجائع إلى الإنسان” (1974) لكاتبها ع. آل شلبي (1922 ـ 1992)، حيث تكون من شخصياتها المحورية عائدة على صلة وثقى بالفدائيين. وبعد خراب علاقتها بزوجها تبلغ به الحال أن يتجسس لصالح الصهاينة.
ومن هذه الأرومة الفنية هي رواية “أزاهير تشرين المدماة” (1977) لعبد السلام العجيلي (1918 ـ 2006)، بخلاف العهد برواياته المتألقة كلاسيكيًا. ففي هذه الرواية المتعلقة أيضًا بحرب 1973 تتميز شخصية الممرضة الفلسطينية ياسمين، من الطيرة شرقي حيفا، والتي نزحت إلى طولكرم، ثم إلى دمشق. وهي مطلقة محمود الفلسطيني الذي كان مع الملازم المجند السوري سامي. وقد خاطبت ياسمين سامي بأن ليس لكم علينا جميل، أنتم السوريون ونحن أبناء فلسطين، فإذا حاربتم إسرائيل، فأنتم تدافعون عن أرضكم وأنفسكم، لا عنّا، فرد سامي أنه ما من أحد يحارب عن أحد “نحن شعب واحد”. أما محمود المعقد من العسكر والهزائم، فقد كانت ياسمين تتهمه بالجبن والتشاؤم. وبعد الطلاق هاجر إلى الخليج، ثم عاد إلى سورية، وتطوع في الجيش، وقضى في حرب 1973.
بالوصول إلى روايات خيري الذهبي (1946 ـ 2022) يبلغ الحضور الفلسطيني روائيًا مبلغًا متقدمًا في سورية، مما تلامح في رواية “طائر الأيام العجيبة” (1977)، وإن يكن الحضور هنا ثانويًا، عبر تذكر سعيد شعبان لصديقيه اللذين التحقا بالعمل الفدائي بعدما شاركاه القيادة الطلابية والإضراب والاعتصام في الجامعة التي تضرر من رفعها للأقساط فقط الفلسطينيون والفقراء.
في رواية “حسيبة” (1987)، يتأكد امتيازها الفني، وبخاصة في بناء شخصية حسيبة التي رافقت طفلةً أباها صياح أثناء الثورة السورية الكبرى في عشرينيات القرن الماضي. ولما أراد الأب أن يخرج من عباءة هزيمة تلك الثورة، ويلبي نداء سعيد العاص في فلسطين، حاولت حسيبة الشابة منعه، وخبأت سلاحه، وحاولت تزويجه، لكنه مضى إلى فلسطين، حيث سيلقى حتفه في الهجوم على كيبوتز هاشوفيت، في السياق الذي هيأ لثورة القسام 1936. ومن بعد، سيحذو فياض الشيزري الذي أحبته حسيبة، لكنه فرّ من إسارها، حذو صياح، ويلبي نداء فلسطين عام 1948. ولما عاد مهزومًا اعتكف في دمشق خزيان.
أخيرًا، نصل إلى رواية “أعدائي” (2000) لممدوح عدوان (1941 ـ 2004)، والتي عادت إلى مطلع القرن العشرين وبدايات المشروع الصهيوني في فلسطين. وتقوم الرواية على مطاردة عارف الإبراهيم الجواسيس اليهود، فتلك معركته الدائمة من بيروت إلى دمشق إلى القدس. وقد ظفر الرجل في بيروت بالجاسوس اليهودي ألتر ليفي، لكن جمال باشا السفاح عاقب الصياد بنقله إلى القدس، وكان أن ظفر الصياد ثانية بطريدته في القدس. لكن ليفي فرّ من السجن، فتجددت المطاردة أثناء احتلال الجنرال اللنبي للقدس. وقاد عارف الإبراهيم صيده إلى الشام التي بلغها اللنبي والأمير فيصل، وثمة يخسر الصياد معركته الأخيرة، ويفلت الجاسوس. تحفل الرواية بالأحداث التي وسمتها بالبوليسية كما تحفل بالجواسيس: الألمانية آنا ليستر اليهودية القادمة من روسيا: ليديا، وهي التي حوّلها عاشقها ألتر ليفي إلى مناضلة بين المستوطنين العجائز في زخرون يعقوف. وإذا كانت رواية “أعدائي” تخاطب في افتتاحيات فصولها تغريدة بني هلال، فقد ناءت في مواقع عديدة تحت وطأة المعلومة في الوقفات السردية التلخيصية الطويلة والعديدة، سواء في مطالع الفصول، أم في ثنايا السرد. على أن الحوار هو الحامل الأكبر للرواية، وعبره جرى استرجاع حيوات شخصيات هامة وكثيرة، كما في قصة سارة وزوجها حاييم، وعشق أفشالوم لسارة، وعصبة التجسس (منظمة نيلي).
على الطريق من القدس إلى دمشق، يخاطب ألتر ليفي من ظفر به عارف الإبراهيم بأن اليهود يسعون إلى تأسيس وطن، بينما العرب يسعون إلى استعادة وطن، والزمن هو بعيد الحرب العالمية الأولى. وسيترجَّع من ذلك الزمن في زماننا قول ألتر ليفي: “سيكون عليكم التخلص من الإنكليز والفرنسيين، ثم من تخلفكم، ثم من حكامكم الذين سيورثكم إياهم الإنكليز، ولن يصعب علينا شراؤهم (…) خلال ذلك سنكون قد حققنا ما نريد”. وإلى هذا القول يخاطب عارف الإبراهيم عدوه بما يترجّع أيضًا في زماننا “عندكم المال والعلم، ونحن عندنا الأرض، لماذا لا نتعاون؟”.
تلك هي صور خاطفة فيما كان للحضور الفلسطيني في سورية في روايات عدد من الكتّاب الراحلين، فكيف توالى هذا الحضور في روايات من لا يزال عطاؤهم يتدفق ويتألق؟