نجاة عبدالصمد تروي الاصطدام بين الوقائع الراسخة والأحلام المنشودة والترددات الناجمة عنه
ملخص
بين مدينة السويداء السورية ومدينة زاباروجيا الأوكرانية تجري أحداث رواية “أيتام الجبال” للطبيبة والروائية السورية نجاة عبدالصمد، (منشورات ضفاف 2025). تشكل السويداء فضاء للأحداث المتذكّرة التي جرت بين منتصف الستينيات ومنتصف الثمانينيات من القرن الماضي، وتشكل زاباروجيا فضاء الأحداث المعيشة التي تجري بين عامي 1985 و1992.
بين هذين الفضاءين، يتحرك السرد في حركة مكوكية، تطول أو تقصر، بحسب مقتضى الحال الروائية. وتتمحور حول ساردة الرواية وبطلتها سبيل رافع، منذ نعومة أظافرها حتى تخرجها طبيبة متفوقة، وترصدها في سعيها الحثيث إلى تحقيق حلمها في التعلم، في مجتمع أبوي ذكوري متدين، يرسم حدوداً لطموح الأنثى ويقيّد حريتها في الحركة، مصدراً عن منظومة قيم ريفية ودينية وتقليدية، غير أن إصرار البطلة على انتزاع حقها في الحياة، يجعلها تنتصر على تلك المنظومة وتحقق حلمها المنشود.
علاقة ملتبسة
تشكل العلاقة الملتبسة بين الأب الشيخ حسن رافع وابنته سبيل السلك الرئيس الأطول الذي ينتظم الأحداث، وهو يظهر حيناً ويختفي أحياناً ليتيح لأسلاك أخرى فرعية، تطول أو تقصر، أن تحفّ به وتتفاعل معه لتصنع معاً جديلة الرواية، ذلك أن الأب المتحدر من أسرة متدينة ينتمي إلى شريحة الأجاويد المتمسكة بأهداب الدين والتي يسلك أفرادها مسلكاً متقشفاً في الحياة، يؤثر الكفاف ويعرض عن مفاتن الدنيا ومغرياتها ويلتزم القواعد الدينية والأخلاقية. والابنة سبيل تنزع منذ طفولتها نحو التمرد على المواضعات وتضيق ذرعاً بالطقوس الدينية وتحلم بمتابعة الدراسة الجامعية. وبذلك، يصطدم الحلم الفردي المشروع بالواقع الأبوي الذي يحدّ منه ويحول دون تحقيقه، وتكون لهذا الاصطدام ترددات كثيرة.
الرواية الجديدة (دار ضفاف)
والمفارقة أن عقبات الواقع قد تقع على الأب والابنة في الوقت نفسه، فيجدان نفسهما في الموقع نفسه، مما تعبّر عنه سبيل بالقول، “كنت وأبي بين ثلاث مطارق، تقذفنا إحداها إلى الأخرى بلا كلل: مطرقة الدين لأننا من الأجاويد، ومطرقة الحاجة لأننا فقراء، ومطرقة غياب العزوة لأن أبي غريب وعائلتنا ضئيلة العدد وليست من الأعيان، وتنفرد مطرقة رابعة بي لأنني بنت”، وتتساءل: “كيف لحلم أن يولد وينجو من تهشيمها كلها؟” (ص ). وهكذا، يجتمع على سبيل الدين والفقر والعائلة والجندر وغيرها. ومع هذا، تصر على التمسك بحلمها المشروع وتطارده تحت كل سماء حتى تقبض عليه ويكون لكل عقبة حلها المناسب.
هذه العقبات تواجهها سبيل عند نهاية كل مرحلة دراسية، وإذا كان الأب هو الذي يبادر إلى تسجيل ابنتيه سبيل واشتياق في المدرسة الابتدائية في السويداء، بعد انتقال الأسرة من قرية درب الحجل إليها، فإنه لم يكُن يطمح إلى أكثر من دراستهما الصف الرابع الابتدائي، خشية أن تقع عليه ملامة أقرانه الأجاويد، وهو صاحب المكانة الدينية المحترمة، غير أن تفوّق سبيل وشطارة اشتياق في الدراسة يدفعان مديرة المدرسة إلى التدخل لديه ليسمح “لابنتيه بالدوام فقط لتنالا شهادة التعليم الابتدائية” (ص 137). وحين يرفض أن تتابعا الدراسة الإعدادية، ويفشل تدخل الآنسة شهيرة والخالين عزمي وفؤاد في صرفه عن موقفه، يتولى العم نجيب إقناعه بعدم الاعتراض، مما يتكرر على عتبة المرحلة الثانوية، فيؤدي تضافر جهود المعلمات والأخوال والعم إلى تعديل موقفه الرافض، فيوافق مرغماً على انتساب ابنتيه إلى الثانوية، ويدفع ثمن موافقته مقاطعة الإخوان له.
وحين تصبح البنتان على عتبة المرحلة الجامعية، يرفض الأب الوساطات عملاً بقاعدة صريحة مكتوبة منذ ألف عام، تقضي بأن “الحفاظ على المرأة وصونها واجب. لا تسافر الأنثى إلا لضرورة وبرفقة محرم”، غير أن فتوى شيخ جليل متنوّر وشاعر تجعله يرضخ في نهاية الأمر لرغبة ابنتيه في الدراسة الجامعية، على أن هذه التجاذبات في العلاقة بين الأب المحافظ والابنة المتحررة تبلغ الذروة حين تأتيه بخبر حصولها على منحة لدراسة الطب في الاتحاد السوفياتي، فيشكل الخبر القشة التي تقصم ظهر البعير، ويكون ثمة افتراق بين الأب وابنته، يعبّر عنه بالقول: “اللهم إني بلّغتك، ارتدعي أو أغضب عليك” (ص 310)، ويكون على سبيل أن تختار بين رضا أبيها وحلمها المنشود، فتختار الأخير وتدفع ثمن خيارها.
السويداء وزاباروجيا
إذا كانت السويداء في الرواية تمثل الماضي المنطوي على عاداته وتقاليده، والغارق في طقوسه ومعتقداته، فإن زاباروجيا تمثل المستقبل المفتوح على الاحتمالات شتى. ولعل نزوع سبيل الفطري نحو التمرد وميلها نحو المغامرة والاكتشاف وحلمها بمتابعة الدراسة، هي ما يدفعها إلى السفر والتعرف إلى بلاد جديدة وانتزاع حقها في التخصص العلمي، مما يجعلها تصطدم بمنظومة قيم مختلفة عن منظومتها الأم ومعاقرة الغربة والاغتراب واختبار الصقيع بنوعيه الجسدي والعاطفي. ولعل تمسكها بحلمها وعنادها وقوة إرادتها، معطوفة على دخولها في الدراسة، وعلاقة الحب التي ربطتها بتميم ابن مدينتها الذي سبقها إلى الدراسة في الجامعة نفسها، وعلاقات الصداقة مع زميلاتها، هي ما جعلها تصمد في مواجهة التحديات المختلفة، طوال سبعة أعوام متواصلة، تتخرج بنتيجتها طبيبة متفوقة في اختصاصها وتقبض على حلمها بقوة. والمفارق أنه خلال هذه المدة تتصالح مع الأب الذي تردها منه رسائل تصرّح باعترافه بها ورضاه عنها وتطلعه إلى عودتها سالمة. وهكذا، يتكفل الزمن بإصلاح ذات البين بين الأب وابنته، وتلتقي السويداء وزاباروجيا في وسط المسافة بين المدينتين، فتحقق سبيل حلمها ولا تخسر نفسها، ويتحلل الأب من قراره ويستعيد ابنته إليه، وهو الذي، في قرارة نفسه، ما تخلى عنها يوماً.
“غير مرئية” رواية تتأرجح بين السرد والتأمل فيه
“العائد” أول رواية لبنانية عن التقمص لدى الدروز
إن الفجوة بين الأب والابنة في الرواية تبدأ ضيقة أول الأمر، حين يضيق بعصيانها صغيرة، وتتسع شيئاً فشيئاً مع إصرارها على متابعة الدراسة، وتبلغ حد القطيعة، حين تصر على السفر إلى الاتحاد السوفياتي السابق، فيمتنع عن التواصل معها طوال أربعة أعوام، حتى إذا ما قام بواجب تعزية لأقاربه في لبنان، وسمع أخباراً طيبة عنها من طبيب قريب يدرس معها في الجامعة نفسها، تدمع عيناه، ويرسل لها مع القريب المذكور رسالة يعترف فيها بأبوّته لها، ويوصيها بنفسها خيراً، ويدعو لها بالعودة سالمة غانمة، فتعيد الرسالة المياه لمجاريها بينهما، وتعقبها رسائل أخرى. وتكتشف سبيل في نهاية الرواية أن ما تشترك فيه مع أبيها أكثر بكثير مما تفترق فيه عنه، فهما يشتركان في الكفاح والعناد والقراءة والإيمان والشوق والدموع والتعب وعدم الاستسلام واختيارالطريق. وبذلك، تُردم الفجوة نهائياً بين الأب وابنته، فيتصالح كل منهما مع نفسه، ومع الآخر. لكن الالتباس في العلاقة يتعدى الأب إلى الأم التي حالت أعباؤها العائلية الكثيرة، وهي الأم لـ10 بنات وصبي واحد، دون ممارسة أمومتها بالصورة المطلوبة، فراحت صورتها تتضاءل داخل سبيل من دون أن تخرجها من هذا الداخل.
من خلال هذه الحكاية، تحيل نجاة عبدالصمد إلى عالم مرجعي محافظ في السويداء، يتمسك بمنظومة قيمه ويمارس التدين السلوكي ويحافظ على العادات والتقاليد ويخشى الانفتاح على المستجدات الغريبة ويؤثر القديم المعروف على الجديد المجهول، مما يؤدي إلى الاصطدام بين الوقائع الراسخة والأحلام المنشودة، وتترتب عليه ترددات كثيرة، تطاول الأفراد والمجتمع على حد سواء. وتحيل، في المقابل، على عالم مرجعي متحرر في زاباروجيا، يصدر عن منظومة قيم مختلفة ويتحرر من المواضعات الأخلاقية وينفتح على الجديد بلا تحفظ ولا يحول دون تحقيق الأحلام الفردية، مما يؤدي إلى الانسجام بين الأفراد والمجتمع. وبين العالمين، تنجح بطلة الرواية في تحقيق التوازن بينهما، فتأخذ من كل أفضل ما فيه، وتربح نفسها ولا تخسر العالم. ولعل في حكايتها كثيراً من سيرة الكاتبة الذاتية التي شاءت وضعها في قالب روائي، فتقول ولا تقع عليها مسؤولية القول.