–
أحيتْ فنزويلا، وبلدان أخرى في أميركا اللاتينية، في 24 يوليو/ تموز الجاري، ذكرى مرور 242 عاماً على ميلاد سيمون بوليفار (1783-1830)، الذي لعب دوراً تاريخياً في تحرير أميركا اللاتينية من الاستعمار الإسباني، وبالأخص فنزويلا وكولومبيا والإكوادور والبيرو وبوليفيا. وترك بوليفار إرثاً سياسياً، سرعان ما تحوّل مذهباً فكرياً وسياسياً، البوليفارية (El bolivarianismo)، تتغذّى منه حركات التحرّر وأحزاب اليسار، وتوظّفه في صراعها مع الدكتاتوريات العسكرية واليمينية التي تعاقبت على الحكم، قبل موجة التحوّل نحو الديمقراطية مطالعَ ثمانينيّات القرن الماضي وتسعينياته. ومع بداية الألفية الجديدة، ستصبح البوليفارية مورد شرعنة بالنسبة إلى عدة رؤساء، مثل الفنزويلي الراحل هوغو تشافيز، والبوليفي الأسبق إيفو موراليس، والإكوادوري الأسبق رافائيل كورّيا، وغيرهم. ولإضفاء طابع وحدوي على هذا المنحى، أُسِّس في 2004 التحالفُ البوليفاري لشعوب أميركَتِنا (ALBA)، وهي منظّمة دولية حكومية تهدف إلى القضاء على الفقر والهشاشة والتهميش الاجتماعي في أميركا اللاتينية.
في المقابل، ترى قوىً اجتماعيةٌ وسياسيةٌ أخرى، محافظةٌ وليبراليةٌ، أن من السخافة تحميل البوليفارية أكثر ممّا تحتمل، فليس هناك ما يشير إلى أن بوليفار كان اشتراكياً، فلم يكن الإصلاح الزراعي ضمن أولوياته، كما اتخذ تدابير تتعارض مع قيم اليسار، ومن ذلك إلغاؤه مرسوم تحرير العبيد عندما كان رئيساً لبيرو (1824-1827)، وهو المرسوم الذي كان قد أصدره الرئيس الأسبق خوسي دي سان مارتين، فضلاً عن الضرر الذي ألحقته سياساتُه بالسكّان الأصليين، فقد أصدر مراسيم استهدفت تفكيك البنيات الاجتماعية والثقافية المحلّية ونزع ملكية أراضيها المشتركة، تمهيداً لتفويتها لاحقاً لملّاك الأراضي من أعقاب الغزاة الإسبان الأوائل. ويرى المؤرّخ البيروفي، هوغو بيريرا بلاسينثيا، أن ”الأرشيف التاريخي (المحلّي) يكشف أن بوليفار كان يكره البيروفيين… ولذلك لم يقم بإصلاحات اجتماعية واقتصادية تذكر”. أكثر من ذلك، لم يكن نزوله في البيرو ” نابعاً من اعتبارات نضالية بقدر ما كان محكوماً باعتبارات جيوسياسية، إذ كان يرى في البيرو تهديداً لـ”كولومبيا الكبرى… ولذلك ساعد على تأسيس بوليفيا لتكون حلقة في محاصرة البيرو”.
لا يستقيم، من منظور هذه القوى، استلهام التشافيزية للإرث البوليفاري الذي يبدو أكثر ليبرالية، إذا ما قُرئ ضمن شروطه التاريخية. وهو ما يتبدّى في بعض كتابات بوليفار، مثل ”رسالة جامايكا”، التي دعا فيها بريطانيا إلى تعزيز التجارة الحرّة في أميركا اللاتينية بما يعود بالنفع على شعوبها. إضافة إلى ذلك، يرى باحثون أن البوليفارية غذّت ”عبادة الشخصية”، خصوصاً في فنزويلا. ويرى الكاتب الفنزويلي، الراحل مانويل كابايّيرو، في كتابه ” لماذا لستُ بوليفاريّاً؟” أن ”عناصر تقديس شخصية بوليفار ترتبط بالمذهب السياسي (الفاشي)، في ظلّ هيمنة رجلٍ يدّعي أنه نبيُّ السياسة (يقصد تشافيز)”.
الوجه الآخر للبوليفارية هذا لا يبدو على صلة بإعادة قراءة الإرث السياسي لبوليفار فقط، بل يرتبط أيضا ببعض المحطّات في مساره السياسي، إذ يتعلّق الأمر بطبيعة النظام الدكتاتوري الذي أقامه في ما كان يعرف بـ”كولومبيا الكبرى”، التي كانت تضمّ فنزويلا وكولومبيا والإكوادور وشمال البيرو وشمال غرب البرازيل وبنما وغويانا. وبحسب الباحث الأرجنتيني، المتخصّص في البوليفارية، خوسي غارثيا هاميلتون، ”كان بوليفار مستبدّاً، فقد دعا أكثر من مرّة إلى نظام سياسي برئيسٍ مدى الحياة، ومجلس شيوخ وراثي يتألّف من جنرالات حركة الاستقلال… وعلى الرغم من أن هذا النظام لم يُعتمد في فنزويلا وفي كولومبيا الكبرى، لكنه نجح في إقرار هذا النظام، الشعبي وفق تعبيره، في بوليفيا والبيرو”.
في الختام، قد تكون رواية غابرييل غارسيا ماركيز، ”الجنرال في متاهته”، العمل السردي الأبرز الذي نجح كاتبُه، من خلال تخيّلٍ آسرٍ، في استدعاء التناقضات السياسية والأخلاقية التي طبعت حياة المحرّر الأكبر، إنساناً وقائداً عسكرياً وسياسياً، ولا سيّما في أيامه الأخيرة التي قضاها مريضاً ومحبطاً في منفاه بِسانتا مارتا بكولومبيا، قبل أن يموت بالسلّ (1830)، من دون أن يرى حلمه بأميركا لاتينية موحّدة وقوية يتحقّق.