تُكتَب مقدّمات الكتب غالباً إن لم يكن مطلقاً، كفاتحاتٍ تأتي بعد انتهاء الكتاب، لتتحدث عن فحواه، موضوعاً أو معنى يتجه إلى مشاركة المبنى عندما يختص الكتاب بالشعر، وعندما يقترب أكثر لتحديد رؤية الشاعر لقصيدته ولغتها، بردّ فعل استعصاء اللغة عن التفاعل مع مكوّنات مكانها. أو حيرتِها على الأقلّ بالتحليق في أجواء جديدة يختلف هواؤُها، مثل أجواء الغربة التي جاست فيها قصائد مجموعة الشاعر السعودي أيمن الجشّي «النوى والنوارس» في داخله باحثةً عما يحرّر كلماتها، قبل انطلاقها تجربةً لتفاعل اللغة مع المكان.
ويحدث غالباً أن تنطلق تجربة التفاعل عندما يجري «التخفّف من أعباء النوى»، بفعل ما يفسحه المكان لاستيعاب حلقات سلاسل التقييد التي تتفكك بفعل الإفساح. وقد كان جمال المكان ببحره وأنهاره وأشجاره وطيوره في حالة الجشي بغربته في مدينة نيو هيفن، بولاية كونيتيكت الأمريكية، هو ما فجّر حلقات السلاسل، وحوّل المكان إلى ملاذٍ تحلّق فيه أجنحة لغته، حيث:
«أتقصّى ياسمين الصبح ما أبهى سناهُ
مسّ قلبي.. فكأنْ مسّت تباريحي المياهُ
مسّ قلبي.. وغشى القلبَ المعنّى ما غشاهُ».
ومن الواضح في هذه الأبيات التي عرضها الجشي في مقدمة مجموعته المخصصة للحديث عن هذه التجربة أنها تجربة تفاعل القصيدة العمودية وتحوّلاتها إلى قصيدة تفعيلة دعا فيها القارئ إلى أن «يستغرق في تنقيبين: أسرار الوليد وأسرار الولادة»، قبل أن يتساءل عن لحظة انبثاق النص/ القصيدة التي هي «انهمار للرؤيا، مرور نهر من الذكرى، احتراق بهيج، طعنةٌ خفيةٌ، لهفةٌ تنبثق»، كيف «تولد وتنبجس منها الخيالات والطاقة الشعورية فتندكّ باللغة والذاكرة والفكرة، لتكون نسيجاً إيقاعياً هو النص/ القصيدة».
كما من الواضح في ختام تقديمه للمجموعة عن مصدر ومعنى «حديث خُرافة» في «لسان العرب»، اهتمامُ الجشّي بكيفية ولادة اللحظة الشعرية والحديث عن تحولاتها في تداخلات وتفاعلات الخيال داخل القصيدة، كتجربة في محاولات تجديده.
نهر تداخلات وتفاعلات المعنى:
بدءاً، وبقدر كونه عنواناً لقصيدة من قصائد المجموعة كذلك، وما يعكس جناحاه «النوى والنوارس» من مشاعر الغربة/ البعد وعلاقتها بالكائن الأبيض الذي تبث أجنحته مشاعر وأمل الاقتراب مما اغتُرب عنه كما جسر مجنّح؛ يعكس العنوان، بإيقاع جميل، اهتمامَ الجشّي بجسّ وإنباض القصيدة بالجناس الذي لم يأت عبثاً كمظلةٍ للمجموعة، إذ هو يمسح مع بقية محسنات البديع، الكثير من قصائدها، كما سيكتشف القارئ في عيشه للبلاغة في تكوينات داخل القصائد.
وجرياناً، كما نهرٍ لا يغادر مفاصل المجموعة بذكره وأنسنته، يُكوّن الجشي مجموعته من ثلاثة فصول، هي: «قابضاً على قلق النهر»، الذي يتضمن واحداً وثلاثين قصيدة، و «بين الرملة والموج»، الذي يتضمن خمس عشرة قصيدة، و«على هامش الإبادة»، الذي يتضمن أربع قصائد. ويوشي من خلال تواريخ قصائده، بأنه وُضِع بعد تاريخ كتابة المقدّمة التي تتحدث عن تجربة تفاعل اللغة مع مكان الاغتراب، ربما تفاعلاً مع مأساة غزة وفلسطين، حيث يشير العنوان إلى ما يجري لهما من إبادة جماعية بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر، وإن كانت طبيعة قصائد هذا الفصل الشكلية متوافقة مع قصائد الفصلين.
وتسلك قصائد المجموعة في غالبها نهج قصيدة التفعيلة المطوّرة بوضوح عن القصيدة العمودية في استقلالية سطورها، من جهة الإيقاع بالأخص، مؤكداً نوعية هذا التطوير من خلال وجود قصائد عموديةً كاملة بين قصائد التفعيلة، ومن خلال إيراد مقطع تفعيلة يليه مقطع قصيدة عمودية أو العكس في بعض القصائد. ولا يدخل الجشي إطلاقاً في التطوير إلى قصيدة النثر، رغم استشهاده وتداخله مع والت ويتمان في قصيدته الطويلة «جلبة خرساء»/ تأملات في وجه نيويورك.
في قصائد المجموعة إنْ بحث القارئ في أسرار ولادة المعاني، يمكنه أن يكتشف في العموم محور المجموعة الدائر حول قيام جمال المكان الذي تمثله النوارس بتفجير الذاكرة، عوداً إلى عالم وطن الطفولة الذي لا يعود فيه عالم الطفل والصبيّ والشاب إلا ذِكراً بسيطاً، لصالح الأب والأم اللذين لم يأتِ عبثاً إهداء المجموعة لهما. إذ يأخذ الأب دور راعي ومطلِق خيال أطفاله في قصيدة «أبي مُسرّحاً طيور يديه»، حيث: «الطيور التي أطلقتها يداه إلينا/ تظلّ تسبّح بين سماوات أيامنا وخلال الليالْ/ والطيور التي غشيتْنا أغاريدُها/ لم تزلْ غضّةً إذ تُحرّضنا لولوج الخيالْ». وتأخذ الأم دور «أم كبرى»، في قصيدة «قُنوتٌ نديٌّ»: «إلى زهرة النجوى التي تنتمي لها/ نجاواي أهفو هائماً في بهائها/ أجيء خفيفاً من رؤاي ومن دمي/ لأستقطرَ الغيثَ الذي من سمائها».
وفي البحث في أسرار المعاني الذي تأخذ فيه ثقافة تراث الشاعر حيّز التفاعل الأكبر مع الملاذ الجديد، تدخل التركيبة الإيديولوجية للشاعر، حول طقوس ممارسة الدين، ومظلومية الحسين مكانها في البروز، سواء في تقديم القصائد بأبيات من شعراء هذا التراث وبالأخص الشريف الرضي، أو داخل القصائد التي يأتي ذكر الحسين فيها صريحاً، ولكن بإضافة ما أنتجه التفاعل من تطوير على الرؤية وأنسنتها. إذ تتداخل المعتقدات والأمل في ظهور الحسين، والمسيح المنتظر، بجمال وإنسانية الطبيعة، في قصيدة «ليلة النصف من شعبان»، حيث: «وينادونه مرتمين له../ يرتمون وأَبصِرْ بهم/ حين يلقون وجه الحسين/… حين يتلو الصلاةَ المسيحُ بن مريم…/ ولكنهم يُذهلون بأنّ ملامحهُ قد رأوها كثيراً/ رأوها خلال غصون السماء الوديعة إذ تتهدّل صبحاً،/ رأوها تعانق أرواحهم في الربيع». ويؤكد ذلك في أسطرته للحسين، بقصيدة استبدال اللطم المرذول إلى «لثم» في القصيدة التي تحمل هذا العنوان حيث: «السما تتقاطر دمعاً على…… جثّة الضوء…. جثةٌ من مياه السما/ رقدت في الرمال».
إضافة إلى ذلك تأتي ضمن اكتشافات أسرار الولادة والوليد إلى جانب الكثير بالنسبة للمعاني
نصرة أطفال غزة وفلسطين في فصل الإبادة.
ويمكن للقارئ تلمّس تحولات المفردات داخل القصائد، خلال التفاعل، وتفرّد مفردات: النوى، النوارس، القلق، البحر، والأنهار، بصورة خاصة، حيث في قصيدة «شرود»: «يتوجّس السهران،/ ترتعد الزوايا رعدة السكران،/ وسوسةٌ تُقشّر من هتافك في السدى المنثور.. / هذا الليل لم يبرحْ/ ولم يبرحْ هتافُك في سماوات النوى/ يسرحْ».
نهر تداخلات وتفاعلات المبنى:
في المبنى الذي يتمحور حول التجديد في قصيدة العمود إلى قصيدة التفعيلة، يمكن للقارئ ملاحظة:
ـــ اهتمام الجشّي البالغ بالقافية، حدّ حسبانها ضمن عملية التطوير وحدّ قسرها للمعاني، ورسمها للاتجاهات في بعض القصائد.
ـــ إشراك قانون التفعيل في القصيدة، مثلما يفعل في قصيدة «وقوف على النهر»، الجارية بإيقاع بحر الرَّمَل «فاعلاتن فعِلاتن فعِلاتن»، حيث: «واقفاً/ أتَّخذ النهر خليلاً وطللْ»، وحيث: «كخليلين طربنا/ وقريني ثالثٌ/ لم أدرِ أيٌّ منهما اختار لنا/ بحرَ الرَّمَل».
ـــ استخدام البلاغة مثل الجناس في نفس هذه القصيدة مع ذكره، حيث: «ساقني ساقي الرؤى/ تلقاء وجهٍ شاقني/ ثَمَّ جناسٌ يتفشّى في الجُمَل».
ــ التداخل مع الشعراء الأقدمين، مثل امرئ القيس، الشنفرى، وأبو العلاء المعري، وتقديم القصيدة بأبيات لهم، والتداخل مع هذا التقديم، مثلما يفعل مع بيت المعرّي: «نحن غرقى فكيف ينقذُنا نجمان في حومة الدجى غرِقان؟»، والتداخل مع رؤيته: «نحن غرقى كأن المعرّي أدخلنا في عماهُ/ الذي ليس إلا بياضاً/ طعنةٌ تتلألأُ،/ نورسةٌ يقطر الصبح منها،/ ووجهان من فتنةِ الفجر فاضا».
وبيت المعري في قصيدة طوالع: «والأرض للطوفان مشتاقةٌ/ لعلّها من دَرَنٍ تُغسَلُ». والتداخل مع رؤيته في أن الأرض بلغ بها الضيق من الدرن أن تنفجر بالطوفان، مع إدخال اللغة في فعل هذا التداخل، حيث: «لا تبحثْ عن وجهك في الماءِ/ وأصغِ قليلاً لحفيف الجدران الشاخبة الآن حواليكْ/ يتسرّب فصحٌ/ يتدلّى وجهٌ كالوقت عليكْ/ اللغة استقصاءٌ لوجوه الليل، عبورٌ للجمرِ، شروٌد في نهر الرؤيا/ وأنين ينأى عريانَ إليك».
وكذلك التداخل مع شطر بيت الشنفرى الشهير: «وَفي الأَرضِ مَنأى لِلكَريمِ عَنِ الأَذى»، في قصيدة «أعدى من الشنفرى»، حيث: «الشوارع من قلقٍ/ بالوساوس والناسِ ملأى/ «وفي الأرض منأى… «اتخذت النوى منزلاً/ والقصيدة فيئا».
ويضيف الجشّي إلى تداخله بالشعراء التداخل مع نصوص مقدّسة مسحتْها الشاعرية بنارها، مثل نص الآية 10 من سورة طه، في القرآن الكريم عن موسى: « إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى»، حيث: «هنالك بين النوى والنواويس/ آنستُ نارا/ طويت المدى والطواويس في برهةٍ/ ونويت إليها الفرارا.»، مع استخدامه للجناس في تصوير مأساة يحيى والمسيح في: «رأيت السّنا والسنابك».
ويلجأ الجشي إلى المضي بتداخلاته، للتداخل مع شعراء حديثين، مثلما يفعل في قصيدته «تعلّة» التي تتبادل تفعيلتين، مع أبيات الشاعر السعودي المجدّد محمد الثبيتي، التي تأثّر بها معظم الشعراء السعوديين: «صُبَّ لنا وطناً في الكؤوسْ/ يُدير الرؤوس»، على طريقته بـ: «علّني صاحبي/ بكؤوس النعاسْ/ حين كان الهزيع الأخير يخامرُ ناصيتي/ صدأً في النحاس». وكذلك مع أبيات الشاعر هاشم الجحدلي، حول «التي تشعل النار والنور في المكتبة»، بقافية الباء والتاء المربوطة، في قصيدته الأولى «النوى والنوارس».
ويمضي الجشّي في تداخله إلى التداخل المزدوج، مع ابن المقرب العيوني وامرئ القيس، بتثنية التفعيلة في قصيدة «مآب»، التي يقدّمها ببيتين من العيوني، واتباع أسلوبٍ يورد فيه صدرَ بيته: «أيَا راكباً وجناءَ تستغرقُ البرى»/ ويكمل القصيدة منه: «تعثّرتَ بالذكرى.. وما هدّكَ السّرى/ حواليك من صيف الفيافي سرابُها/ وأسرابها اللائي تلألأنَ في الكرى». ثم يتداخل مع امرئ القيس، عائداً إلى النوى: «على سفرٍ.. كم نادمتك من النوى/ أوابدُ للضلّيل يسبحن في الثرى».
وفي هذا التداخل مع بيت شعر امرئ القيس الذي يصف فيه حصانه بـ: «قيدِ الأوابد هيكلِ»، يستدعي الجشّي، دونما شرط إدراكه لذلك إن لم يقصده، في صورة الجبال/ الأوابد الثابتة، والمتحركة التي تسبح في الثرى، الصورة المذهلة لتصوير امرئ القيس سرعةَ حصانه: «مِكرٍّ مفرٍّ مُقبلٍ مُدبِر معاً/ كجلمود صخرٍ حطّه السيل من علِ».
ويتأكد إحساس الجشّي بحساسيات التداخل، وإنْ بتعبير وصفي، تداخله المزدوج مع ليل المعرّي، ولوحة فان غوخ الشهيرة الموجودة في متحف الفن الحديث بنيويورك «ليلة النجوم»، التي اهتمّ بها العلماء أكثر من الأدباء لما تحمل من أسرار التشابك الكوني المتفاعل مع تشابكات النفس التي اعترت الفنان في مصحّه النفسي بباريس. ومن دون شرط إدراك الشاعر إن لم يكن يقصد ذلك، حيث: «أرى قمراً عالقاً في الغصونْ/ تذكّرتُ ليلة فان غوخَ/ ذات النجوم اللجوجة، ذات النجوم/ العيونْ/ لها قمرٌ لولبيٌّ له صفرة هشةٌ/ وسرابٌ حنونْ/ أرى جبلاً نائماً، نهراً لا ينامُ/ وأعمدةً تتبعثر أضواؤها في السكونْ/… تذكّرتُ ليل المعرّيِّ/ حيث النجوم دمٌ وجمانٌ/ خبا واستعرْ/ أرى شجر الليل ينشر أغصانه كالطواويس/ فوق النهر».
أيمن الجشّي: «النوى والنوارس»
المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2024