لا تختلف بيئة الإعلام الرسمي في سوريا كثيراً عن تلك التي عرفها السوريون في عهد الأسد. لم تتغير العلاقة بين السلطة والإعلام، بل استمرّت على ما كانت عليه: علاقة تسخير وتعبئة، لا مساءلة أو شراكة. الإعلام ما يزال مرتهناً للسلطة، حتى وإن حمل شعارات الثورة والتغيير.
في معرض تعليقه على تحقيق نشرته وكالة “رويترز” حول ما سمّته “الدولة الاقتصادية العميقة” في سوريا الجديدة، وأدوار شخصيّات مثل شقيق الرئيس الانتقالي وآخرين في منظومة اقتصاد البلاد بعد سقوط نظام الأسد، لم يسعَ وزير الإعلام السوري حمزة المصطفى إلى تفنيد المعلومات أو الردّ على مضمون التحقيق وعرض حقائق معاكسة لما نشره، بل لجأ إلى تهمة “الاستشراق”.
رأى المصطفى في التغطية الإعلامية الدولية التي رافقت سقوط نظام الأسد نوعاً من “الفرصة الضائعة”، لأنها لم تلتزم بحسب رأيه بنبرة “بنّاءة” و”واقعية”. لكنّ اللافت في هذا الخطاب ليس فقط تجاهله جوهر التحقيق وعدم الردّ عليه، بل تلميحه الضمني إلى النموذج الإعلامي المطلوب في سوريا “الجديدة”: صحافة لا تُحرج السلطة، ولا تكشف شبكات النفوذ، بل تؤدي دوراً تجميلياً وترويجياً باسم “المصلحة الوطنية” أو “المرحلة الانتقالية”.
وما لم يقله وزير الإعلام مباشرة قاله إعلاميون ومؤثّرون سوريون محسوبون على السلطة الحالية، لجهة تبرير كلّ ما ورد في التحقيق بأنه ضرورة المرحلة، بل هو عين الصواب في بلد يحتاج إلى إجراءات استثنائية للنهوض، وهو وإن كان ظاهرياً كلاماً صحيحاً، لكنّ تقديم المحسوبيات وتعويم شخصيّات مشبوهة بوصفه مساراً تحتاجه سوريا للنهوض، هو تضليل وتعمية.
والآراء التي تدين تحقيقات موثّقة لصالح رواية الإدارة الحالية، التي تتحصّن بـ”ضرورات المرحلة” لتبرير هذه الممارسات لا تأتي من فراغ، بل تصدر عن وجوه باتت تشكّل واجهة إعلامية غير رسمية للسلطة، وإن لم تكن تابعة لأي مؤسّسة واضحة. هم “مؤثّرون” لا يعملون في وزارة الإعلام، لكنّهم يملكون نفوذاً وتأثيراً أكبر من كثير من الصحافيين المهنيين. يقدّمون أنفسهم كصوت الشعب، بينما يعيدون إنتاج خطاب سلطوي يعرفه السوريون جيداً: خطاب المديح لكلّ ما تُقدم عليه السلطة وتخوين الناقدين، خطاب يرفض المساءلة ويسخر من معايير الشفافية والحوكمة بوصفها ترفاً لا تستطيعه سوريا اليوم، عدا تقزيم أي صوت مختلف وشيطنته.
هؤلاء يدركون تماماً كم تُكافئ “السوشيال ميديا” الرأي المتطرّف عبر “اللايكات” و”الشير” والتفاعل، مما يعطيهم ثقة هائلة بمواقفهم المنحازة، ويشجّع الناس على تبنّي خطاب أقلّ عقلانية وأكثر عدائية.
منذ سقوط نظام بشار الأسد وصعود قيادة أحمد الشرع إلى الواجهة، بدا أن سوريا تدخل مرحلة سياسية جديدة، غير أن هذه المرحلة، التي رُوّج لها طويلاً باعتبارها قطيعة مع إرث الديكتاتورية لجهة احتكار الإعلام وقمعه، لم تأتِ بقطيعة إعلامية موازية، بل إن مشهد “الإعلام الجديد” فيها يعيد إنتاج الأنماط ذاتها من التجييش والتحريض، ولكن بوجوه وعباءات مختلفة.
لم يعد الخطاب الموالي للسلطة يصدر عن مؤسّسات رسمية حصراً مثل “سانا” أو “الإخبارية السورية”، بل عبر منصّات رقمية وصفحات على “فيسبوك” و”تلغرام”، تتبنّى خطاب السلطة وتعمل على تسويقه بأسلوب أكثر شعبوية و”ثورية”، لكنّها تستخدم أدوات الدعاية ذاتها: تضليل، تخوين، وتحريض على الآخر.
خطاب طائفي مقنّع بالوطنية
خلال مجازر الساحل، ظهرت منشورات تمارس تحريضاً ضمنياً ضدّ العلويين، تُحمّلهم مسؤولية جماعية عمّا ارتكبه النظام السابق، وتروّج لفكرة العقاب الجماعي باسم العدالة. كذلك خلال مجازر السويداء، طال خطاب التشكيك المكوّن الدرزي، حيث وُصف بعض أبناء المنطقة بـ”الخونة” أو “العملاء”، لمجرّد رفضهم الانخراط في مشاريع السلطة الجديدة، أو لجهة حذرهم منها، ما جعل استهدافهم كمجموعة بشيبها وشبانها مباحاً.
من يحاول انتقاد هذا التوجّه الإعلامي أو المطالبة بإعلام مهني محايد، يواجه مباشرة بحملة اتّهام بـ”الحنين إلى النظام السابق”، أو بـ”العمالة للخارج”، أو ببساطة بـ”قلّة الفهم للواقع المعقّد”، وكأن المطلوب من الإعلاميين في سوريا الجديدة هو إما الصمت، وإما الانخراط في الجوقة، وإما الرحيل.
بهذا المعنى، لا تختلف بيئة الإعلام الرسمي حالياً عن تلك التي عرفها السوريون في عهد الأسد. لم تتغير العلاقة بين السلطة والإعلام، بل استمرّت على ما كانت عليه: علاقة تسخير وتعبئة، لا مساءلة أو شراكة. الإعلام ما يزال مرتهناً للسلطة، حتى وإن حمل شعارات الثورة والتغيير.
الإشكال لا يقف عند خطاب التحريض، بل يتعدّاه إلى تطييف الذاكرة نفسها. المجازر تُروى وتُوثّق وفق الهوّية الطائفية للضحايا والجناة. ليست هناك محاولة لرواية وطنية مشتركة، ولا لعدالة إعلامية أو سردية تتجاوز منطق الثأر والتوظيف السياسي، بل يبدو أن هناك إصراراً على إدارة الذاكرة كسلاح، تُستخدم بحسب الحاجة لتبرير سياسات السلطة أو قمع المعارضين.
في ظلّ هذا الواقع، تبدو فرص قيام إعلام مهني، حرّ، ومستقلّ في سوريا الجديدة ضعيفة، رغم كلّ المحاولات الممتازة التي باشرتها مؤسّسات سورية تحاول اليوم فرض مساحتها في الداخل. لكنّ الإعلام يحتاج بنية قانونية تحميه، ومساحات حرّة للتعبير، ونظاماً سياسياً يقبل النقد ويعتبره شرطاً من شروط الحكم الرشيد. أما حين تكون السلطة في حال خوف دائم من النقد، وتعتبر الإعلام خصماً لا شريكاً، فإن النتيجة الوحيدة هي تكاثر إعلام الولاء، وتموضع الصحافيين بين خيارين: التهليل أو التغييب.
وربما الأخطر أن السلطة الجديدة لا تكرّس فقط إعلاماً سلطوياً، بل تُلبسه لبوس الثورة والحقّ، فتسحب من الأصوات الحرّة شرعيتها الرمزية، وتدفع بالجمهور نحو الارتباك واللامبالاة.
الصحافة السورية سواء في الداخل أو في الشتات، تقف اليوم أمام مفارقة مريرة: الثورة التي حلم بها السوريون والسوريات من أجل الحرّية والكرامة، تُستخدم لتبرير أنماط القمع القديمة نفسها، بل تعيد إنتاجها بأدوات جديدة وشعارات مغايرة، ولكنّ الجوهر ذاته: سلطة لا تتحمّل النقد، وإعلام لا يجرؤ على قول الحقيقة.
في نهاية المطاف، لا يمكن تصوّر انتقال ديمقراطي أو بناء وطن جامع من دون إعلام حرّ. فالحقيقة ليست تهديداً، بل هي شرط لأي سلام دائم. والسؤال الذي لا بدّ أن نطرحه اليوم: هل يمكن لـ”سوريا الجديدة” أن تحتمل إعلاماً لا يُصفّق؟