–
بعد كل ما جرى… بعد الخيبات الكبرى، والهزائم المتكرّرة، والانهيارات التي لحقت بأحلامنا في التغيير والديمقراطية والكرامة… يبقى السؤال معلقاً في صدور الشباب العربي: إلى أين؟ ما الذي تبقّى؟ وما الذي يمكن أن نحلم به؟
منذ أكثر من عشر سنوات، نزلت الشعوب إلى الشوارع. حلمت، هتفت، طالبت، وأسقطت بعض الأنظمة. ولكن الحلم، في معظم العواصم العربية، ما لبث أن انكسر. عادت الأنظمة، أو وُلدت أنظمة أسوأ. تحوّلت الديمقراطية من أملٍ إلى خيبة، ومن شعارٍ إلى لعنة في نظر بعضهم. وقع ناسٌ كثيرون في فخّ السؤال القاتل: هل كان التغيير يستحقّ كل هذا الثمن؟
اليوم، ومع حرب الإبادة على غزّة، ومع مشهد العالم الذي يرى ولا يتحرّك، ومع انكشاف فظيع لموازين القوى، ليس فقط بين الشعوب والأنظمة، بل بين المستعمِر والمستعمَر، بين المجرم والضحية… ينهض سؤالٌ جديد، أكثر قسوة: هل ما زالت المقاومة ممكنة؟ هل ما زالت العدالة تستحقّ أن يُقاتل لأجلها؟
كل هذه الأسئلة تشتبك الآن في وعي الشباب العربي، من المحيط إلى الخليج. في العواصم والمدن المهمّشة والمخيمات والجامعات والسجون والمنافي. هناك شعورٌ عارم بأن البوصلة ضاعت. لا برنامج، لا قيادة، لا أفق. والمجتمع ممزّق بين طوائف وعرقيات وهويات متصارعة. الحركات تضعف، والنخب صامتة، والأنظمة ترتاح.
وسط هذا الركام، لا بد من التوقف والإنصات. هناك شيءٌ يتحرّك، وإنْ بصوتٍ منخفض. هناك جيل جديد من الأسئلة، وجيل جديد من الغضب، وجيل جديد من الوعي، لا يشبه ما قبله؛ لم يعد يثق بالشعارات، ولا بالانقلابات، ولا بالحلول السريعة، لكنه أيضاً لا يريد أن يعيش في العجز الأبدي.
لم يعد السؤال اليوم فقط عن الديمقراطية بمفهومها الكلاسيكي، بل عن نوع الدولة التي نريدها، وعن شكل المجتمع الذي نحلم به، عن العدالة والمساواة والكرامة. هل يمكن لحركاتنا أن تتحوّل من ردات فعل إلى مشاريع بناء؟ من احتجاجٍ إلى فعل؟ من ثورة غاضبة إلى مسارٍ طويل النفس؟ وهل نستطيع أخيراً أن نواجه الحقيقة المؤلمة: أن العدو ليس فقط في قصر الرئاسة أو في معسكر الاحتلال، بل أيضاً فينا… في انقساماتنا، في استسلامنا للخطاب الطائفي والجهوي، في استعادتنا لصراعات الهويات بدل بناء مشروع جامع؟! هل يمكننا أن نسأل أنفسنا بصدق: لماذا لم ننتصر؟ ولماذا يتكرر الفشل؟ وإلى ماذا نحتاج لنبدأ من جديد؟
ماذا يحرّك الشارع العربي اليوم؟ هل ما زال الأمل؟ أم أنه الخوف؟ هل هي الطموحات الجماعية؟ أم الهويات الجريحة التي تتقاتل على الفتات؟ وأخطر من ذلك: هل بدأنا نصدّق أن لا شيء سيتغيّر؟ أن هذا هو قدرنا؟ في المقابل، دعونا نفتح أعيننا على العالم. الشعوب لا تنتصر دفعة واحدة. التجارب الناجحة مرّت بسنواتٍ من الخسارات والتعلم وبناء الوعي والقاعدة الاجتماعية. انظروا إلى أميركا اللاتينية، انظروا إلى جنوب أفريقيا، انظروا حتى إلى أوروبا ما بعد الحرب. لا أحد خرج من الاستبداد بسهولة، لكن أحداً لم يخرُج إلا حين قرّر أن يستعيد زمام المبادرة.
اليوم، لا نملك رفاهية الانتظار ولا التعلق بالأوهام. نحتاج إلى جيل جديد من النضال، لا يعيد تكرار أخطاء الماضي، ولا يقف عند عتبة الشكوى. نحتاج إلى مشروع سياسي واجتماعي جديد، يبدأ من القاعدة، من الناس، من المدن المهملة، من الهامش، من الشباب الذين لا صوت لهم.
العدو الحقيقي ليس فقط الحاكم المستبد، ولا المحتل الغاشم، بل الإحساسُ بأن لا شيء يستحقّ المحاولة. فلنبدأ من هنا: بأن نكسر هذا الإحساس. بأن نعيد إحياء السؤال من جديد: أي مستقبلٍ نريد؟ وأي طريقٍ يمكن أن يؤدّي إليه.