ملخص
لم تقل إيران سوى أنها سترد إذا “تجرأت” الدولة العبرية عليها مرة أخرى، وفي لبنان لم يرد “حزب الله” مرة واحدة على استمرار العمليات الإسرائيلية ضده والتي طاولت مواقع وقتلت نحو 200 من عناصره منذ اتفاق وقف إطلاق النار قبل ثمانية أشهر.
ليس لدى “محور المقاومة” الذي أنشأته وموّلته وقادته إيران الخمينية على مدى أربعة عقود أية خطط عسكرية ملموسة، أو قل نوايا جدية معلنة، لمواجهة إسرائيل، بينما تواصل إسرائيل من جهتها وضع الخطط وتطويرها لإنهاء أي أثر أو وجود لهذا المحور، وهي توضح أنها في الطريق إلى استكمال حربها التي بدأتها في غزة إثر هجوم “المحور” ممثلاً بحركة “حماس” قبل ما يقارب عامين، والتي رسمت لها أهدافاً تتخطى الجبهة الواحدة إلى جبهات سبع تحركها وتقودها، بحسب اعتقادها، إيران الخامنئي وأجهزته الأمنية .
انتهت حرب الأيام الـ12 وهي في مدتها ضعف حرب الأيام الستة إلى قبول إيران بوقف لإطلاق النار مع إسرائيل والولايات المتحدة، نتيجة قرار اتخذه وأعلنه الرئيس الأميركي دونالد ترمب. القبول كان أشبه باستسلام، فالحرب كشفت هزال القوة العسكرية الإيرانية إزاء تضخّم الخطاب الإيراني المقاوم، إذ تمكنت إسرائيل خلال ساعات من القضاء على قسم كبير من أركان القيادة الإيرانية وشلّت حركة جيوشها ومنظماتها الرديفة، وسيطرت على الأجواء الإيرانية في تكرار لتجربة الطيران الحربي الإسرائيلي في أجواء لبنان وسوريا.
وبعد شهر من توقف معركة طهران لم تستفق إيران من هول الكارثة التي ألمّت بها مباشرة، وهي التي اعتادت تلقي الضربات عبر الأذرع والأطراف، بات عليها أن تجيب عن الأسئلة الكبرى التي طرحتها ولقنتها لأتباعها على امتداد المشرق: كيف تُزال إسرائيل ومتى وكيف؟ وكيف تُطرَد أميركا من “غرب آسيا”؟ لكنها لم تقدم جواباً، بل هزيمة لم تخرج منها، انعكست تراجعاً حاداً في خطاب “الاقتدار” التاريخي، وعودة إلى توسل علاقات أفضل مع الجوار والعالم.
اقرأ المزيد
“سوء التفاهم” الذي كاد يفجر بلاد الشام
سبع حروب واتفاق واحد
لا منافس لترمب داخل الشرق الأوسط
حرب الأيام الـ12 تشل إيران وتغير الشرق الأوسط
الأسئلة الأساسية التي طرحتها الحرب على إيران بقيت من دون جواب يشفي غليل الأتباع والأنصار، وذهب النقاش الداخلي الإيراني كالعادة إلى صراع بين متطرفين وأكثر تطرفاً بهدف حفظ النظام لا الاستجابة إلى حاجات بلد كبير وإلى طموحات شعبه في الانفتاح والازدهار. تبارى أركان السلطة في إيران بين من قدم الخدمات للقائد ومن قصّر في تقديمها، وبين من اتهم الرئيس مسعود بزشكيان بالخيانة ودعا إلى محاكمته ومن اكتشف فيه قائداً فذّاً عرف كيف يدمج “الدبلوماسية بالميدان”، في استعادة مقصودة على لسان وزير الخارجية عباس عراقجي، لنظرية قائد فيلق القدس قاسم سليماني الذي قتلته الولايات المتحدة قبل خمسة أعوام.
وفي الأثناء انتهت أو تراجعت حملات “الوعود الصادقة” بإزالة “الكيان الصهيوني” من الوجود. عراقجي في تصريحاته المُحدثة نفى أن تكون قيادته صرحت بذلك طوال أعوام وجودها، أما شعار “الموت لأميركا” فاعتبره مجرد هتاف احتجاجي على بعض “السياسات الأميركية الاستعمارية”.
هذا الانكفاء الإيراني تترجمه تصريحات المرشد الأخيرة، الخالية من أي هجوم على أميركا وإسرائيل، وحتى من دون الإشارة إلى مأساة غزة التي تتولى الحكومة الإيرانية حالياً لفت الأنظار إلى بعدها الإنساني.
في كلمة وجهها قبل أيام في ذكرى “استشهاد القادة والعلماء” اكتفى الإمام الخامنئي بالتشديد على “الحفاظ على الوحدة الوطنية” و”تعزيز قدرات البلاد عبر صون الأمن”. الخامنئي لاحظ في المناسبة أن “العدو قصير النظر لم يحقق هدفه”، لكن متتبعي الحالة الإيرانية بعد حرب الأيام الـ12 والحروب الرديفة ضد الفرق الرديفة، رأوا في كلام خامنئي المختصر والعام تجنباً مقصوداً للخطاب الانتصاري السابق، وتعبيراً عن أزمات عميقة تفعل في المشهد الإيراني على مختلف المستويات، ومنها ما جعل بزشكيان يحذّر في التوقيت نفسه من ضرورة نقل العاصمة طهران وإخلائها بسبب عدم توفر المياه فيها.
لا توحي الإشارات الإيرانية بعزم على مواصلة المواجهة الحربية المباشرة مع الشيطانين الأكبر والأصغر، وإن كان بعض التحليلات يتحدث عن محاولة طهران كسب الوقت في اتصالات دبلوماسية تحت عنوان تجديد الاتفاق النووي. في الوقت نفسه تواصل القيادة الإيرانية بذل ما يمكنها لتنشيط أنصارها في المشرق، ودفعهم إلى مواصلة أدوار تسيء إلى بلدانهم وتبقي لإيران خيوطاً وأوراقاً تفاوضية تستعملها في وقت ما. لكن هؤلاء، مثل الرأس الذي يديرهم، يعانون نهجاً إسرائيلياً تدميرياً لا يلبس كفوفاً. فإذا كانت التقية ميزة السلوك الإيراني عموماً، وفي هذه المرحلة خصوصاً، فإن نهجاً إسرائيلياً صريحاً، برزت ملامحه، خصوصاً بعد “طوفان الأقصى”، يقوم على فرض تغيير الواقع السابق بالقوة المجردة، ثم يسعى بدعم أميركي ودولي صريح إلى تثمير “الإنجازات” العسكرية في وقائع سياسية ثابتة .
لم تنتهِ المواجهة بالنسبة إلى إسرائيل، لا في سوريا ولبنان ولا في غزة واليمن، وبالتأكيد ليس في إيران. وعلى العكس من محاولة “الانكفاء” الإيرانية عن “موجبات المعركة” الخاصة، أو دفاعاً عن أطراف “وحدة الساحات”، والذهاب إلى مناورات دبلوماسية أو محاولات كسب للوقت، فإن القيادة الإسرائيلية تخطط وتطرح صراحة رؤاها للمرحلة المقبلة. فرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لا يزال يعلن عزمه مواصلة حروبه حتى الانتصار النهائي، إنه مستعد لضربات أخرى في إيران واليمن، ومتمسك بمنطقة منزوعة السلاح في جنوب سوريا وبنزع سلاح “حزب الله” في لبنان، وفي ختام جولة جديدة من التفاوض مع “حماس” خلص إلى تكرار عناوينه السابقة عن إنهاء الحركة واستعادة المخطوفين.
لا تخفي إسرائيل ما تريده على عكس خصومها الذين أربكتهم ضرباتها. لم تقل إيران سوى أنها سترد إذا “تجرأت” الدولة العبرية عليها مرة أخرى، وفي لبنان لم يرد “حزب الله” مرة واحدة على استمرار العمليات الإسرائيلية ضده التي طاولت مواقع وقتلت نحو 200 من عناصره منذ اتفاق وقف إطلاق النار قبل ثمانية أشهر. لكن الحزب الذي يُطلب منه الانضواء ضمن الدولة والعمل بموجب حصرية السلاح تحت لوائها، لا يزال يهدد الدولة إياها في معرض تمسكه بسلاحه وتكراره الكلام عن قطع اليد التي تمتد إليه، وهي في الحال اللبنانية اليد الإسرائيلية التي لم يمسها سوء، لكنها مُعفاة عملياً من الاستهداف، مقابل مواصلة استهدافه جمهور اللبنانيين الذين يطالبون بدولة الدستور والقانون، بالتحريض والتخوين.
على أن ذلك لا يغيّر في الوقائع شيئاً، والوقائع تقول إن موازين قوى جديدة نشأت في منطقة “محور الممانعة” ليست لمصلحة هذا المحور. في جنوب سوريا احتاجت التهدئة إلى اتفاق سوري – إسرائيلي رعته الولايات المتحدة بعد التدخل الإسرائيلي العسكري ضد مواقع الحكومة السورية و”العشائر” المساندة لها، وفي لبنان لم يكن لمسار استعادة الدولة حقوقها الأولية في احتكار السلاح وحصره تحت سلطتها أن ينطلق من دون ميزان القوى الجديد، الذي فرضت وقائعه على إيران وحزبها نتائج الحرب الأميركية الإسرائيلية ضد المحور الممانع رأساً وأطرافاً.
في الأيام الأخيرة، عندما كان خامنئي يسمي إسرائيل “العدو الأحمق القصير النظر”، كانت القيادة العسكرية الإسرائيلية تنهي مجموعة من اجتماعات التقييم لتخلص بنتيجتها إلى أنها “في أقرب نقطة لتحقيق أهداف الحرب”. وتناولت هذه الاجتماعات “صورة الأوضاع الأمنية المحدقة في الشرق الأوسط” واحتمال تجدد المواجهة مع إيران، وخلصت بحسب وزير الدفاع يسرائيل كاتس إلى أنه “يجب الحسم الكامل في غزة واليمن” وتثبيت المناطق الأمنية في سوريا ولبنان كـ”ضرورة لحماية” التجمعات الإسرائيلية في جبهات أمامية.
إنها صورة الشرق الأوسط التي لم تكتمل بعد، هزائم يحاول المحور الإيراني عدم الاعتراف بها لئلا يضطر إلى قبول نتائجها السياسية، وانتصارات إسرائيلية عسكرية تعتقد إسرائيل أن ترجمتها في السياسة ستحتاج إلى مزيد من الحروب، وهذه المعادلة هي التي تتحكم بمستقبل المنطقة في الأسابيع والشهور المقبلة.