–
أثبتت أحداث السويداء أن السلطة الانتقالية في سورية ليس لديها رؤية استراتيجية لقيادة البلاد نحو واقع أفضل يتجاوز ما خلّفه النظام السابق من كوارث دمّرت البشر والحجر، كما تعاني من نقص حادّ في فهم الواقع الدولي والإقليمي، بل والمحلّي أيضاً، ولو كان لديها تصور واضح لمعالجة المشكلات الكبيرة التي تحيق بسورية، لما وقعت (وبسذاجة) في المأزق الخطير الذي انزلقت إليه نتيجة دخول قوات وزارة الدفاع والأمن العام قلب مدينة السويداء من دون دراسة ردّة فعل إسرائيل، والمواطنين في السويداء، على هذا الدخول غير المحسوب برويّة، ما شكّل خطورةً حقيقيةً على الشعب السوري بمختلف مكوّناته، بل على السلطة ذاتها.
لقد أدّى سوء تقدير السلطة إلى الاعتقاد أن بسط نفوذها على محافظة السويداء (وبالقوة العسكرية) يمكن أن يمرّ بسهولة دونما تبعات، طالما أن التفاوض مع إسرائيل يتناول قضايا أكبر وأخطر من قضية السويداء، متناسيةً أن إسرائيل وبعد “7 أكتوبر” (2023) تعتبر المناطق السورية المحيطة بها، بما فيها السويداء مسألة أمن قومي. حقيقةً نستغرب كيف لم تتنبه السلطة إلى الخطّ الذي رسمته إسرائيل شمالي السويداء، الذي لا يُسمَح لقوات السلطة السورية العسكرية بتجاوزه، وجعل من السويداء والقنيطرة، وربّما كامل درعا، مناطق منزوعة السلاح.
خلّفت مصيبة السويداء خسائرَ استراتيجية فادحة، ليس أقلّها تناقص زخم عزم القوة الذي نجم عن الانتصار التاريخي الذي حقّقه الشعب السوري
كان ينبغي على السلطة قبل أن تقدم على المغامرة أن تعرف حقيقة توجّهات المجتمع الدولي، وألا تعتقد بأن السياسة السورية الخارجية ناجحة بمجرّد عقدها عشرات اللقاءات الدولية المليئة بالابتسامات العريضة والمجاملات والوعود بلا نقود، ولا تنغرّ بالتصريحات التي ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، وكلّها مشروطة بتحقيق مجموعة طلبات لا يرغب الرئيس أحمد الشرع تنفيذها، أو ربّما لا يستطيع تمريرها بين جماعته، وكان ينبغي على السلطة الانتقالية ألا تقع في وهم الاعتقاد أنه بمجرّد إخراج إيران من سورية، فإن المجتمع الدولي سيكافئ السلطة الجديدة في دمشق بأن تسوس البلاد كما تشاء بمعزل عن مصالح الأطراف الداخلية والخارجية، وصدق من قال: في خضمّ أمواج البحر لا تكفي البوصلة وحدها، بل عليك أن تدرك طبيعة الرياح واتجاهاتها.
لقد خلّفت مصيبة السويداء خسائرَ استراتيجية فادحة، ليس أقلّها تناقص زخم عزم القوة الذي نجم عن الانتصار التاريخي الذي حقّقه الشعب السوري، وإنهاء نظام الإبادة، وعاد الوضع في السويداء إلى ما كان عليه قبل الأزمة، مع انسحاب مذلّ لقوات وزارة الدفاع والأمن العام، وترك جرحاً غائراً في نفوس أهل السويداء من الصعب اندماله قريباً، فضلاً عن تهجير العشائر بطريقة مروعة، بعد أن تركتهم السلطة لمصيرهم، ولم تؤمّنهم قبل الانسحاب. وفي المقابل، ستزيد مطالب قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وسيعلو مطلبهم باللامركزية السياسية، وصولاً إلى الفيدرالية، وسيزداد التعاطف الدولي معهم بعد فشل مشروع السيطرة على السويداء، الذي كان يراد منه إخافة مظلوم عبدي ورفاقه، فخاف بدلاً منهم أبناء القبائل والعشائر العربية شرقي الفرات، وهم الذين كانوا يمنّون النفس بقرب الخلاص، وعودة المنطقة تحت سيادة الدولة الواحدة.
لقد انخفضت ثقة أبناء الشعب بقيادته نتيجة الشكّ في صحّة القرارات المتّخذة قبل الفاجعة وفي أثنائها وبعدها، وكثير منهم زادت نقمته بعد جلاء غبار المعركة غير المبرّرة عن حجم الخسائر الفظيع من الضحايا من كلّ الأطراف، وكثير منهم في ريعان شبابهم، وطلاب جامعات زُجّوا في الأتون دونما خبرة سابقة بأبسط مبادئ القتال. إن ما جرى في السويداء قد يغري بعضاً من فلول النظام السابق في الساحل بتكرار التجربة، مع تغير المزاج في المجتمع الدولي تجاه السلطة الجديدة، وصدور قرارات جديدة من أجل حماية الأقليات، وهذا ما سيشكّل خطراً شديداً على سورية بأكملها. كنّا في غنىً عن هذا كلّه لو تعقّلت السلطة أكثر واعتمدت على خبراء ثقات يعرفون كيف يفكّر المجتمع الدولي، وكيف ينبغي أن يكون التعامل مع قضايا شائكة كهذه.
وأمام هذا الدرس الأليم المرشّح للتكرار، فلا بدّ وقبل فوات الأوان من مراجعة شاملة تقوم بها السلطة لكلّ القرارات الكُبرى التي اتّخذت منذ لحظة التحرير، بل ومراجعة التوجّهات التي تحملها، ودراسة آثارها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وليس عيباً الاعتراف بالأخطاء، ولو كان ذلك ثقيلاً عليها، فالاعتراف بالخطأ هو أول خطوات تصحيحه، بدلاً من الإصرار على الخطأ، فيكون كمن اكتسب سيئة، وأحاطت به خطيئته، يتبع ذلك الاعتراف قرارات تُتَّخذ بشجاعة لتدارك ما فات، ومن دون هذا، فإن الأزمات ستتفاقم، والنتيجة معروفة لكلّ صاحب بصيرة.
أول ما ينبغي مراجعته هو محتوى خطاب النصر في 29 يناير/ كانون الثاني، فهو أعطى انطباعاً بأن الحكم للعسكر، ولن تكون هناك مشاركة فعلية للمدنيين ولو علا شأنهم، فالثورة السورية ما قامت (وما بذل السوريون مهجة قلوبهم) إلا لنيل الحرية والعدالة الاجتماعية، والحصول على دولة مدنية ديمقراطية لجميع أبنائها. كما ينبغي مراجعة أن تكون السلطة من لون واحد بحجّة ضمان الولاء والانسجام، والنظر إلى الآخرين باعتبارهم أغياراً، فكانت النتيجة تولّي جهلاء مواقع حسّاسة في الدولة أوردوا فيها قومهم دار البوار. ليس مناسباً للسوريين أن تبدو البلاد كما لو أنها محكومة بأقلّية سلفية، ولو كانوا مخلصين لبلدهم، بل ينبغي مشاركة من يجمعون بين الإخلاص والصواب، ولو كانوا من مشارب مختلفة، وعندها تظهر عقلية الدولة بدلاً من عقلية التنظيم، وبهذا تنقذ البلاد ويعلو شأنها.
لا يمكن الخروج من المأزق العام من دون إعادة النظر بالإعلان الدستوري جملةً وتفصيلاً بما في ذلك مدّة المرحلة الانتقالية، فخمس سنوات زمن طويل جدّاً في مراحل حسّاسة للغاية، وكان الأولى تقصير المدّة، والسعي إلى إيجاد أكبر قدر من التوافقات، ولو بخفض جناح الذلّ من الرحمة لأبناء الوطن الواحد، ما يمهّد الطريق للإسراع بكتابة دستور توافقي يكتبه مختصّون لا هواة أو مؤدلجون، ويقرّه مجلس يحمل اسم المجلس النيابي، وليس اسم مجلس الشعب، الذي بهذه التسمية يشير إلى حقبة مظلمة من تاريخ سورية. من دون مجلس نيابي تمثيلي لشرائح واسعة من الشعب من الصعب أن نقول إن انتقالاً سياسياً في طريقه للتحقّق في سورية. كما أن سوريين كثيرين لا يوافقون على إعطاء صلاحيات مطلقة لرأس السلطة التنفيذية بعيداً من أي مساءلة، ومن شأن هذا التفرّد بقرارات مصيرية قد لا تكون محسوبة العواقب.
من أحسن المخارج في سورية الدعوة الجدّية إلى مؤتمر للحوار الوطني تُمثَّل فيه كلّ المكونات السورية
ينبغي إحياء الحياة السياسية في سورية بالسماح بتشكيل الأحزاب وجمعيات المجتمع المدني والأهلي، وإتاحة الفرصة لذوي الرأي الحكيم أن يقولوا كلمتهم من خلال الجهاز الإعلامي للدولة، بدلاً من حظرهم وقصر الحياة السياسية على الهيئات السياسية التابعة للسلطة، وهي مجموعة شبّان عديمي الخبرة، وليست لديهم سردية واضحة. ولعلّ أحسن في المخارج بادرةَ حسن نيّة، الدعوة الجدّية إلى مؤتمر للحوار الوطني، مؤتمر جادّ تُمثَّل فيه كلّ المكونات والطوائف، يطبخ على نار هادئة، يقوده عقلاء القوم ممّن فهموا التاريخ جيّداً، يتوّج بمصالحة تاريخية وطنية تعطي لكلّ ذي حقّ حقّه، وتبنى عليها أسس نظام تعدّدي ودولة مدنية ديمقراطية منشودة، ثمّ يصار إلى حكومة جديدة، وزراؤها يجمعون بين التمثيل العادل لكلّ الأطياف وأنهم تكنوقراط خبراء، يجيدون التصرّف في المواقف الحرجة بعيدون من الوصاية.
يجب إجراء تحقيق فوري معمّق ومفصّل وشفّاف في الانتهاكات التي جرت في السويداء بحقّ المدنيين من مختلف الأطراف، وتقديم المتورّطين فيها ولو كانوا عناصر من السلطة، والاستفادة من درس أحداث الساحل، إذا كانوا يريدون سورية واحدة موحّدة، خشية استغلال هذه القضية دولياً ونقع تحت رحمة تبعات لاقبل لنا بها. نصيحة من القلب لإخوتنا في السلطة أن يقودوا التغيير طوعاً، فتنتقل البلاد إلى برّ الأمان، وهذا خير من أن يحصل التغيير كرهاً وبأيد أجنبية، ويعاد وضع قرار مجلس الأمن 2254 على الطاولة، وليعلموا أن الشرعية تؤخذ من الداخل لا من الخارج.