على مدى أكثر من عقد، شهدت سوريا واحدة من أعقد المآسي الإنسانية والسياسية في العالم الحديث، تراكمت خلالها الانتهاكات الجسيمة والخطيرة لحقوق الإنسان، وتكرّست أنماط من العنف الممنهج، وتشظّى المجتمع السوري إلى كيانات متنازعة ومجتمعات مفجوعة.
في مثل هذا السياق، لا يمكن الحديث عن معالجة حقيقية لهذه المأساة من دون طرح مسار جاد للعدالة الانتقالية، يضع الضحايا في قلب العملية، ويؤسس لسوريا جديدة قائمة على الحقيقة والمحاسبة والمصالحة.
العدالة الانتقالية ليست ترفًا نظريًّا، ولا مجرد أداة قانونية، بل هي ضرورة تاريخية وأخلاقية لضمان ألا تتكرر المأساة. فهي توفّر إطارًا لمعالجة الماضي المؤلم، وتفتح أفقًا لبناء مستقبل مشترك، لا يقوم على الإقصاء أو الغلبة، بل على الاعتراف المتبادل والكرامة الإنسانية.
العدالة الانتقالية هي مجموعة من التدابير القضائية وغير القضائية التي تعتمدها الدول الخارجة من النزاع أو من أنظمة القمع الواسع، لمعالجة إرث الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. وتشمل هذه التدابير: كشف الحقيقة والمصالحة، محاسبة الجناة، تعويض الضحايا، إصلاح المؤسسات، وضمانات عدم التكرار، والبحث عن المفقودين.
في سوريا اليوم، لا تكمن الحاجة إلى هذه العدالة فقط في حجم الكارثة – مئات آلاف القتلى والمعتقلين والمختفين، وملايين المهجرين – بل في طبيعة المأساة ذاتها، التي أخذت طابعًا طائفيًّا ومناطقيًّا وأيديولوجيًّا، مما زاد من تعقيداتها وآثارها بعيدة المدى. وإن بناء سوريا ما بعد هذه المأساة لن ينجح إذا تم تجاهل معاناة الضحايا، أو إذا جرت تسويات فوقية تُقصي العدالة لحساب المصالح السياسية. كما أن أي عملية مصالحة وطنية لا تُبنى على حقيقة واعتراف ومحاسبة، ستكون هشّة وقابلة للانفجار عند أول أزمة.
التحديات الكبرى في مسار العدالة الانتقالية في سوريا
رغم أهمية هذا المسار، إلا أن تطبيقه في الحالة السورية ما زال يصطدم بتحديات عميقة يمكن تصنيفها في ثلاث مجموعات:
1. ضعف الإمكانات المادية والسياسية
من أبرز العقبات أن سوريا تفتقر اليوم إلى الموارد اللازمة لتعويض الضحايا ماديًّا أو تقديم دعم نفسي واجتماعي طويل الأمد لهم. فلا توجد مؤسسات قادرة على تلبية هذا الحجم من المعاناة، ولا ميزانية دولة قادرة على تغطية تعويضات عادلة لجميع المتضررين. لكن هذا لا يعني التراجع، بل يستدعي البحث عن حلول مبتكرة، كدفع تعويضات رمزية، أو مبادرات مجتمعية للاعتراف العلني بالضحايا، وتوفير امتيازات في الخدمات الأساسية كالطبابة والتعليم.
كذلك يمكن إنشاء صناديق للعدالة الانتقالية تُموَّل من أموال مصادرة، أو من دعم دولي مخصص لهذا الغرض، أو من موارد جُمّدت خارج البلاد وتعود لأركان النظام السابق أو لشخصيات متورطة بالجرائم. ومن المهم إشراك المجتمعات المحلية في تصميم وتنفيذ هذه الآليات، لأن إشراكها يمنحها شرعية أكبر، ويحولها من عملية بيروقراطية إلى مسار حيّ ينبض بالتفاعل والاحترام المتبادل.
2. غياب الإطار القانوني والمؤسسي الملائم
العدالة لا تُمارَس في فراغ، بل تحتاج إلى بُنى تشريعية ومؤسسات قضائية مستقلة ومحترفة. وفي سوريا، فالقضاء منهار أو ملوّث بالتسييس والفساد والترهل، ولا يملك أية خبرات أو مؤهلات تخوّله إجراء محاكمات قضائية لمرتكبي جرائم الحرب، وجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة الجماعية. كما أن قانون العقوبات السوري لا ينص على هذه الجرائم، وبالتالي هناك حاجة ضرورية اليوم لإجراء تعديل تشريعي يقضي بضم المواد القانونية المنصوص عليها في قانون روما الأساسي لتصبح جزءًا من القانون السوري. وهذا ما يفسّر التأخر الكبير في تعيين أعضاء الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية ونظامها الداخلي، التي مضى على صدور مرسوم تشكيلها أكثر من شهرين.
لذلك، إن أي حديث عن العدالة الانتقالية يجب أن يبدأ أولًا بإجراء تعديل تشريعي على قانون العقوبات، وإصلاح القضاء، وتحييده عن الهيمنة السياسية، وتدريب القضاة على المعايير الدولية لحقوق الإنسان. كما يجب الاستفادة من الخبرات التي راكمتها بعض المنظمات السورية في هذا المجال، ومن المهم أيضًا سنّ تشريعات انتقالية تُصاغ بشفافية وبمشاركة الضحايا والمجتمع المدني، كي لا تتحول هذه القوانين إلى أدوات انتقامية أو انتقائية.
وفي حال عدم إمكانية إنشاء محاكم سورية خاصة بالعدالة الانتقالية، يمكن النظر في خيار المحاكم المختلطة (محلية–دولية)، كما حدث في سيراليون وتيمور الشرقية، لتوفير قدر من الحيادية والكفاءة في التعامل مع الجرائم الجسيمة.
3. خطر الإفلات من العقاب
الإفلات من العقاب هو التهديد الأخطر لأي عدالة انتقالية. فحين تُمنح الحصانة لمرتكبي الجرائم بحجة المصالحة أو “الواقعية السياسية”، فإننا نكرّس منطق القوة على حساب القانون، ونبعث برسالة خطيرة مفادها أن الانتهاك لا يُحاسَب. فقد حصلت تسويات عديدة خلال الأشهر الأخيرة مُنحت فيها شخصيات متورطة حصانة سياسية وأمنية، وهذا الفعل لا يعزّز الاستقرار كما يُزعم، بل ينسف ثقة الضحايا بتحقيق العدالة.
الحل يبدأ بإنشاء سجل وطني للانتهاكات بالتعاون مع المنظمات السورية والدولية التي عملت في مجال توثيق الانتهاكات، ويمكن اعتماده لاحقًا في أي مسار قضائي محلي أو دولي. كما يجب الضغط على الدول التي توفّر ملاذًا آمنًا للمتورطين في الجرائم، لملاحقتهم قانونيًّا ضمن مبدأ “الولاية القضائية العالمية” الذي يتيح ملاحقة المجرمين خارج بلادهم.
العدالة ليست حدثًا بل مسار طويل
العدالة الانتقالية ليست لحظة احتفالية، بل عملية متواصلة قد تستغرق سنوات وربما عقودًا. هي تراكم للثقة، وبناء للمؤسسات، وتحول في الوعي العام. لذلك، لا يجب النظر إليها كشرط للتسويات السياسية، بل كأفق وطني طويل النفس.
ولكي تنجح هذه العملية، يجب أن تكون سورية الهوى، تشاركية الطابع، شفافة في بنيتها، وقادرة على تحقيق التوازن الدقيق بين المحاسبة والتسامح، وبين الاعتراف والإنصاف.
إن العدالة لا تعني الانتقام، بل الاعتراف بمعاناة الضحايا، وضمان عدم التكرار، وتأسيس ثقافة وطنية جديدة تقوم على احترام الكرامة وحقوق الإنسان. العدالة الحقيقية هي التي تفتح باب الحوار بدل أبواب السجون، وتكتب رواية وطنية مشتركة بدل أن تُملِيها جهة واحدة.
فلنبدأ إذًا بكشف الحقيقة، لا لنعيش في جراحها، بل لنؤسس منها أفقًا جديدًا لا يُقصي أحدًا ولا يبرّر الجريمة، بل يضع الوطن فوق الجميع، والعدالة في قلب مشروعه القادم.