ملخص
على رغم غياب البنية الثقافية الرسمية وانهيار جزء كبير من المشهد الحضري للعاصمة، برزت مبادرات فردية وجماعية تهدف إلى الحفاظ على ما تبقى من ذاكرة المدينة، من قبل المبدعين والناشطين في مناطق النزوح والمنافي. وبين التوثيق، والكتابة، والفعاليات الرمزية، تحاول الخرطوم أن تتمسك بجوهرها الثقافي رغم التآكل الظاهر.
تشهد العاصمة السودانية الخرطوم تغيّرات جذرية في ملامحها الثقافية والاجتماعية منذ اندلاع الحرب، إذ اختفت تدريجاً المقاهي التي كانت تمثل منصات للنقاش والتعبير، وتوقفت أنشطة المسارح ودور السينما، بينما بات العديد من الساحات العامة خاوياً. هذا التحول يطرح تساؤلات حول مستقبل المدينة وهويتها الثقافي في ظل غياب المعالم التي شكّلت جزءاً من ذاكرتها الجماعية.
حتى عام 2022، ضمّت الخرطوم أكثر من 45 مقهى ثقافياً كانت تستضيف قراءات شعرية، وفعاليات فنية، ونقاشات فكرية أسبوعية، وفق إحصاءات غير رسمية لجمعيات ثقافية مستقلة. لكن منذ اندلاع الحرب، أغلقت الغالبية العظمى من هذه المساحات أبوابها بسبب ما حدث للعاصمة من تدمير لبنيتها التحتية ونزوح لمعظم سكانها.
1.png
قال الكاتب سليمان محمد “المقاهي الثقافية كانت تمثل روح المدينة ولم تكن مجرد أماكن لشرب القهوة (اندبندنت عربية – حسن حامد)
حكايات ونقاشات
في السياق، قال الكاتب سليمان محمد “المقاهي الثقافية كانت تمثل روح المدينة. فلم تكن مجرد أماكن لشرب القهوة، بل فضاءات يتنفس فيها الناس أفكارهم. هناك تشكلت صداقات، وولدت نصوص، واشتعلت نقاشات ربما لم تكن لتحدث داخل المؤسسات الرسمية”، وتابع محمد “غياب هذه المساحات ليس فقداً ترفيهياً فقط، بل هو تغييب لصوت المدينة. فالخرطوم بلا مقاهٍ فكرية هي مدينة بلا مرايا، لا ترى فيها وجهها ولا تسمع صداها”.
من جهتها، ترى الناشطة الثقافية رانيا جميل أن “المقاهي الثقافية لم تكن مجرد أماكن للجلوس وتبادل الأحاديث، بل كانت بمثابة أرشيف حيّ ومفتوح للمدينة. فكل طاولة كانت تحمل حكاية، وكل أمسية شعرية أو نقاش سياسي كانت تؤرخ للحظة من لحظات الخرطوم”، وأضافت جميل “ما نراه اليوم هو انقطاع في الذاكرة اليومية للمدينة. حين تغلق هذه المساحات، يتعطل التواصل غير الرسمي بين الفاعلين الثقافيين، ويختفي تدريجاً المزاج الجماعي الذي كان يُنتَج في هذه البيئات”، وأردفت الناشطة الثقافية “الجدران قد تُبنى مجدداً، لكن إعادة بناء الروح يحتاج إلى وقت، وإلى عودة هذه المساحات التي كانت تنسج نسيج المدينة الثقافي والاجتماعي”.
3.png
ترى الناشطة الثقافية رانيا جميل أن “المقاهي الثقافية لم تكن مجرد أماكن للجلوس وتبادل الأحاديث، بل كانت بمثابة أرشيف حيّ ومفتوح للمدينة” (اندبندنت عربية – حسن حامد)
ملاجئ موقتة
الكتاب المسرحي جبريل عبدالله قال “قبل الحرب، احتضنت الخرطوم أكثر من 12 مسرحاً نشطاً، من بينها المسرح القومي ومسرح قبّة المهدي، ومسرح الفنون الشعبية، وكانت العروض تقام أسبوعياً بحضور جماهيري متنوع. مع اندلاع النزاع، توقفت العروض تماماً وتحوّل بعضها إلى ملاجئ موقتة، فيما تعرّضت مبانٍ أخرى لأضرار مباشرة”، واستطرد عبدالله “في الخرطوم، لم يكن المسرح مجرد وسيلة ترفيه، بل كان منبراً يعكس نبض الشارع، ويمارس دوراً نقدياً تجاه القضايا الاجتماعية والسياسية. كنا نعمل بأقل الإمكانيات، لكن بروح عالية، والمسرح كان يمتلئ حتى في أشد اللحظات توتراً”، وواصل “منذ اندلاع الحرب، توقف كل شيء. توقفت التدريبات، وأغلقت المسارح، وبعضها تعرّض للتخريب أو استُخدم كملاجئ. ومعظم الممثلين والكتّاب نزحوا أو تفرّقوا، وأصبحت فكرة العرض أمام جمهور حقيقي حلماً مؤجلاً، حتى اللقاءات البسيطة التي كنا نعقدها في قاعات صغيرة لم تعد ممكنة”.
ومضى الكاتب المسرحي قائلاً “لكن على رغم هذا التوقف، أؤمن أن المسرح لا يموت. فهناك محاولات فردية تُقام في المنافي، وأخرى عبر الإنترنت، ونصوص تُكتب على أمل أن تُعرض يوماً ما. الروح المسرحية موجودة، لكنها تنتظر مساحة آمنة وبيئة تسمح لها بالتنفس، ربما لا تعود المسارح بشكلها القديم، لكن ستنشأ مسارح جديدة تُبنى على الذاكرة والخسارة، وتقدّم سردًا مختلفاً لما نعيشه الآن”.
اندثار المعالم
بحسب تقديرات لجمعيات مهتمة بالتراث الحضري، فإن 70 في المئة من المعالم المفتوحة في الخرطوم أصبحت خارج الخدمة الفعلية منذ أبريل (نيسان) 2023.
وقال الباحث في التاريخ العمراني عمار آدم “المعالم العامة لا تُمثّل فقط مواقع للتنزه أو التجمّع، بل هي ركيزة للذاكرة الجمعية. هذه الساحات والأماكن المفتوحة كانت جزءاً من الطقس اليومي للناس، ومن المشهد الوطني كذلك، وعندما تختفي هذه المعالم من الاستخدام، أو تُهمل، يبدأ معها تآكل غير مرئي للانتماء. فالمكان ليس مجرد جغرافيا، بل حامل للرموز، والأحداث، والطقوس الجماعية”، وتابع آدم “في بعض الدول، أعيد إحياء الهوية الحضرية بعد الكوارث بإعادة ترميم هذه الفضاءات أولاً، لأنها تعيد الثقة والطمأنينة. في اعتقادي أن إعادة الحياة إلى شارع النيل وساحة الحرية يجب أن تكون أولوية بعد الحرب، لما تمثله من رمزية وطنية”.
فضاء صامت
في السياق، قال الفنان التشكيلي محمد بشير “قبل الحرب، كنا نقيم معارض مفتوحة في شارع النيل، ونرسم على جدران حديقة القرشي، ونستخدم ساحة الحرية كموقع لتجهيز أعمال فنية جماعية. لكن اليوم هذه الفضاءات صامتة تماماً، وبعضها فقد ملامحه الأساسية”، وزاد بشير “نحن نعمل حالياً بشكل فردي، على أرشفة الصور القديمة، واللوحات التي توثق الساحات والمعالم، كي لا تُمحى من الوعي الجمعي. فالفنون البصرية يمكن أن تكون وسيلة لاستعادة ما خسرناه، ولو موقتاً، على الورق والقماش والذاكرة الرقمية”.
الأنماط الثقافية للعنف: كيف أضحى البشر رهائن للأيديولوجيا؟
رئيس الوزراء السوداني يتعهد إعادة إعمار الخرطوم
“المقاهي والمطاعم” ترفيه العرب
غابة السنط… رئة الخرطوم الطبيعية تخنقها التعديات والتجريف الجائر
هل يتفاعل المسرح السوداني مع الحراك الشعبي ويستعيد ازدهاره؟
فصل جديد
على رغم غياب البنية الثقافية الرسمية وانهيار جزء كبير من المشهد الحضري للعاصمة، برزت مبادرات فردية وجماعية تهدف إلى الحفاظ على ما تبقى من ذاكرة المدينة، من قبل المبدعين والناشطين في مناطق النزوح والمنافي. وبين التوثيق، والكتابة، والفعاليات الرمزية، تحاول الخرطوم أن تتمسك بجوهرها الثقافي رغم التآكل الظاهر.
الكاتب والباحث الثقافي أحمد الفاضل أوضح أن “الخرطوم عاشت عبر تاريخها، لحظات مشابهة من التوتر والانقطاع، لكنها كانت تعود دائماً محمولة على أكتاف أبنائها، لا المؤسسات. ما يحدث اليوم ليس نهاية المدينة، بل فصل جديد من فصول مقاومتها الصامتة”، وأضاف الفاضل “الهوية الثقافية لا تُبنى فقط في المسارح أو على الأرصفة، بل في التفاصيل اليومية، وفي لغة الناس، وفي سردهم للأحداث، وفي محاولاتهم لتوثيق ما يعيشونه، مهما بدا عادياً أو مؤلماً”. وختم الباحث الثقافي “الجيل الجديد بدأ يكتب ويصور ويؤرشف، ليس من قلب العاصمة، بل من أطرافها أو من خارجها. هذه المحاولات قد لا تُحدث أثراً فورياً، لكنها تحفظ الذاكرة من المحو التام”.
إعادة تأهيل
من جانبه، أوضح محمد أحمد أحد المسؤولين في وزارة الثقافة “نحن ندرك تماماً حجم الضرر الذي لحق بالبنية التحتية الثقافية، بخاصة المسارح ودور العروض التي كانت تنشط في العاصمة، لكننا نعمل، في الوقت الراهن، على توثيق الأضرار، ووضع خطط لإعادة التأهيل فور استقرار الأوضاع الأمنية”، وأضاف أحمد “القطاع الثقافي سيكون جزءاً أساسياً من عملية التعافي الشامل، لأننا نؤمن أن عودة الحياة الثقافية تساعد في استعادة التوازن المجتمعي. لدينا أرشيف رقمي للنصوص والعروض، وسنسعى لاستعادة الفعاليات بدعم من الشراكات المحلية والدولية”.