ملخص
الفيلم السوفياتي “بابل الجديدة” الذي انتج العام 1929 اعتبر دائماً هدية من أهل الثورة الروسية إلى ثورة أهل كومونة باريس، ومن ثم إلى ذاكرة الشعب الفرنسي، لكنه لم يعرض في باريس إلا عام 1975
من الواضح أن الممثلة “السوفياتية” كوزمينا لم تكن تغالي كثيراً حين قالت في معرض حديثها عن مشاركتها في تحقيق فيلم “بابل الجديدة”، إنها ومعظم رفاقها العاملين في الفيلم انكبوا أواسط أعوام العشرينيات من القرن الماضي على قراءة “كل أعمال إميل زولا” لكي “نتمكن حقاً من أن ندخل عوالم موضوع هذا الفيلم ونضع أنفسنا داخل الحياة الفرنسية في الحقبة الزمنية التي يتحدث عنها هذا الفيلم”.
إذاً، بحسب الممثلة التي قامت بالدور الرئيس في هذا الفيلم، لنا أن نتصور ستة أو سبعة أشخاص معظمهم من ذوي الأسماء الكبرى في عالم الإخراج والتمثيل والموسيقى، وقد أجبروا أنفسهم على قراءة ألوف الصفحات المترجمة من الفرنسية إلى الروسية، لكي يتمكنوا من أن ينجزوا “على خير وجه” كما تؤكد بنفسها، ذلك الفيلم الذي كان من الواضح أنه يعني لهم كثيراً. وهنا نفتح هلالين مبكرين للإشارة إلى أن هذه الطريقة في إدخال العاملين في الفيلم إلى أحداثه وأجواء هذه الأحداث تعتبر من أفضل الطرق ولا سيما أن قراءة أعمال زولا هنا تأتي في صلب الموضوع، جاعلة العاملين على تماس مباشر مع الحياة الفرنسية حتى وإن كانت اللغة المستعملة غير فرنسية. من ناحية أخرى لا بد من الإشارة إلى أن الفيلم كان يتحدث أصلاً عن كومونة باريس، والاتحاد السوفياتي الذي كانت ثورته الروسية عند اتخاذ القرار بتحقيق ذلك الفيلم، بالكاد تجاوزت عامها العاشر، كان يعتبر نفسه الوريث الطبيعي لكل ثورة تقدمية سبقته.
موسيقى شوستاكوفيتش الثورية
وطبعاً كانت كومونة باريس، على رأس تلك الثورات. من هنا، حين انصرف أولئك الفنانون الذين عملوا فيلماً عن الكومونة، كانوا يعرفون أن ما يقومون به هو، في الوقت نفسه عمل فني وثوري وأيديولوجي. ومن سوى زولا، الذي جمع – في رأيهم – تلك الأقانيم الثلاثة كان في وسع أدبه أن يساعدهم؟ وهكذا كان في وسع كوزمينا أن تقول حين تحدثت عن الفيلم: “حين اشتغلنا عليه كان إميل زولا مرجعنا الأول الذي أعطانا أدبه كل ما نريد”. وهذا الكلام نفسه كان في وسع الموسيقي الكبير شوستاكوفيتش أن يقوله أيضاً، ذلك أنه كان هو من وضع لـ”بابل الجديدة” ألحاناً مصاحبة في منتهى الروعة، حسب إجماع عام بات مع الوقت مسلمة حول الاستخدام الثوري للموسيقى في السينما.
والطريف هنا هو أن هذا الفيلم الذي اعتبر دائماً هدية من أهل الثورة الروسية إلى ثورة أهل كومونة باريس، ومن ثم إلى ذاكرة الشعب الفرنسي، لم يعرض في باريس للمرة الأولى إلا عام 1975، إذ إنه ظل مجهولاً تماماً بالنسبة إلى المتفرجين الفرنسيين طوال ما يقارب نصف قرن مرت بين إنجازه (1929) وعرضه الفرنسي. وهو حين قدم في فرنسا، اصطحبته أوركسترا ضخمة قدمت مصاحبة له، موسيقى شوستاكوفيتش في الصالة بصخب. وكان هذا أمراً لم يحدث قبل ذلك، حتى في الاتحاد السوفياتي، سوى مرة واحدة… أي حين قدم الفيلم عام 1929 عرضه الأول.
صعوبات في وطن الثورة
إذاً “بابل الجديدة” هو وقبل أي شيء آخر، فيلم عن كومونة باريس، لكن السوفيات لم يتوانوا عن أن ينظروا إليه على أنه فيلم ثوري ينتمي إلى بلادهم وإلى أفكار ثورتهم الاشتراكية الكبرى التي كانوا يعتبرونها امتداداً للتاريخ الثوري الذي كانوا يرون أن الكومونة تنتمي إليه. ومع هذا لا بد من الإشارة إلى أن إنتاج الفيلم قد لاقى صعوبات جمة، وأعيد كتابة كثير من مشاهده وأحداثه… وذلك بالتحديد على ضوء تطورات الوضع السياسي الذي كان شديد الصخب في موسكو في ذلك الحين. ولعل ذلك كله كان ذا أثر حاسم في الفشل الذريع الذي كان من نصيب الفيلم في عروضه الأولى، على رغم أن النقاد أثنوا عليه، خصوصاً على ما تمكن منه من إضفاء طابع رومانطيقي على أحداث ثورية، ومن مزجه بين العام والخاص، وحركة التاريخ وحياة الأفراد في بوتقة واحدة. والحال أننا هنا أيضاً يمكننا أن نرجع الفضل في ذلك إلى إميل زولا، ذلك أن سيناريو “بابل الجديدة” عرف كيف يستفيد إلى حد ما من رواية معينة من بين روايات صاحب “المال” و”نانا”، هي “سعادة النساء” التي تروي أحداثاً خاصة على خلفية الكومونة، ولأن زولا كان على الموضة في ذلك الحين، كما كان أسلوبه ذو النزعة الطبيعية مثالاً يحتذى لبعض الأدب التقدمي “الواقعي – الاشتراكي”، جاءت “الخلطة” جيدة.
بضائع أنيقة في باريس
ينقسم فيلم “بابل الجديدة” إلى ثمانية أقسام، يلخصها المؤرخ والناقد الفرنسي الراحل جورج سادول على النحو الآتي: في البداية ها نحن نعيش في زمن الحرب الألمانية – الفرنسية التي اندلعت عام 1870، وها هو الفيلم يبدأ مع إنشاء مخازن بيع كبيرة في باريس تحفل بالبضائع الأنيقة والثياب اليابانية الطراز والدانتيل وما شابه. إنه عالم مرفه تماماً، “نشأ خلال زمن الإمبراطورية الثانية والثراء الذي تحقق للطبقات الوسطى الفرنسية من خلال نهب المستعمرات” كما يمر ولو عرضاً في الفيلم.
في القسم الثاني ننتقل إلى ملهى رقص، حيث يطالعنا عدد من الشخصيات من بينها صحافي ناجح ومغنية مبدعة ورجل مجتمع متأنق. وعلى صخب رقصة الكانكان التي تملأ المكان تعلن الهزيمة الفرنسية في تلك الحرب. وانطلاقاً من هنا، ينقلنا القسم الثالث إلى مسيرة الجنود نحو باريس، حيث الشعب يكتتب لجمع مال يمكن الجيش من شراء المدافع، وتقوم حملات التآخي بين أفراد الشعب البسيط والجنود الزاحفين… غير أن هذا كله لا يمنع الاستسلام الذي يتلو الهزيمة.
وإذ تجد النساء الباريسيات في القسم التالي أن استسلام الجنود أحبط الشعب، يحملن المدافع متنقلات بها من مونمارتر محاولات الزحف نحو فرساي. أما في القسم الخامس، فإن ما يطالعنا هو الحياة اليومية في ظل الكومونة.
وفي مقابل هذه الحياة اليومية لدينا مشاهد المدافع التي نصبت الآن في فرساي موجهة في اتجاه باريس للقيام بتحرك عسكري ضد الكومونة التي بدأ يشتد ساعدها وراح شعب باريس يتحلق حولها. وأمام هذا الخطر الجدي والمهدد، يدرك أهل باريس أن المعركة الفاصلة ستكون قريبة، وهكذا يبدأون بإقامة المتاريس وحفر الخنادق في شوارع العاصمة وأزقتها. وإذ تنطلق المدافع صاخبة معتدية يبدأ سقوط أولى الضحايا بين قتلى وجرحى، وتندلع الحرائق في شتى أحياء المدينة… ويتضح أن الانتصار سيكون من نصيب البورجوازيين المتواطئين مع الألمان، فيما يساق مئات من ثوار الكومونة إلى السجون مذلين مهانين… مما ينقلنا في القسم الثامن والأخير من الفيلم إلى عمليات الإعدام الجماعي التي طاولت أهل الكومونة.
بوندارتشوك أسطورة السينما السوفياتية بين تولستوي وشولوخوف وخروشوف
إميل زولا يرصد أحوال الموتى الفرنسيين لقرائه الروس
انتصارات وإخفاقات
على هذا النحو، إذاً، يحاول “بابل الجديدة” أن يروي لنا فصلاً من حياة ثورة كومونة باريس شارحاً لنا، في طريقه، جذور تلك الثورة، مصوراً انتصاراتها وإخفاقاتها، محللاً أسباب هذه وتلك، وكل هذا من خلال حياة أو موت شخصية رئيسة في الفيلم، تطالعنا منذ البداية على سمة موظفة في المخازن الكبرى سرعان ما تنتظم في الثورة تدريجاً لتكون نهايتها. ومن الطريف أن هذا الفيلم الذي حققه اثنان من كبار العاملين في السينما السوفياتية في ذلك الحين: كوزنتسيف وتراوبرغ، بدا ممتعاً لمعظم الذين شاهدوه، في قسمه الأول، أي القسم المسلي حيث الرقص والعلاقات الغرامية، وخصوصاً عبر المشاهد التي صورت في الملهى، إذ هنا خيل إلى المتفرجين أن الفيلم يدخلهم في عالم الرفاه الفرنسي الذي كثيراً ما سمعوا عنه… لكنهم بعد ذلك راحوا يسأمون أمام مشاهد القتل والمتاريس. ومع هذا تظل مشاهد زحف الألمان على باريس من أجمل ما في الفيلم.
فيلم “بابل الجديدة” الذي كان واحداً من آخر الأفلام الصامتة في السينما السوفياتية، سجل ذروة من النجاح النقدي والحضور الفني – في زمنه لكنه نسي بعد ذلك – في مسار مخرجيه اللذين كانا اعتادا العمل معاً، بل حتى في صورة جماعية، حيث حققا كثيراً من الأفلام الثورية، ضمن إطار منظمة سينمائية أطلق عليها اسم “فيكس” وكان زميلهما يوتكفيتش منضماً إليهما أول الأمر فيها. ولعل سلسلة أفلام “مغامرات أوكتوبريانا” تعتبر أشهر ما حققت هذه المجموعة قبل أن يؤدي فشل “بابل الجديدة” التجاري إلى القضاء عليها.