إذا كان رواد النهضة من لبنانيين وعرب، قد أسهموا وكافحوا وضحوا وعملوا لأجل تحقيق أهداف النهضة، فهناك من أسهم فيها من غير العرب ويأتي في طليعتهم الأميركي كرنيليوس فاندايك (1818-1895) الذي لقب بأستاذ سورية الكبير وفيلسوف الشرق وصاحب الأيدي البيضاء على اللغة العربية والجامعة الأميركية في بيروت.
ولد كرنيليوس فاندايك في نيويورك العام 1818، وهو الابن السابع والأخير لأبوين تعود أصولهما إلى جذور هولندية. تميز منذ طفولته بالذكاء والعمل الجادّ وإتقان اللغات. تأثر بوالده الطبيب وراح يساعده بجمع النباتات والاعشاب ويحفظها لاستخدامها بالأدوية. تعرض والده لأزمة مالية ولم يستطع أن يكمل تعليم أولاده. فخرجوا إلى الحياة لتدبير أمورهم وكل حسب طاقته. لم يستسلم كرنيليوس للواقع الصعب ولم يتوقف عن طلب العلم وراح يستعير الكتب من اصدقائه ومعارفه ويحضر حلقات العلم. وكان أحد جيرانه طبيباً مرموقاً وأعجب بإصراره على العلم فدعاه إلى بيته وعرض عليه الإستفادة من مكتبته وخصوصاً كتب الحيوان والكيمياء.
نجح كرنيليوس بالدراسة على نفسه ووصل إلى مكانة أهلته أن يلقي الخطب العلمية في الكيمياء كما علمه والده أصول الطب بعد تأكده من مواهبه وجديته. انتشر اسمه بين أهل بلدته كطالب علم طموح فجمعوا له المال وأدخلوه مدرسة سبرينغفيلد ثم جفرسن التي تخرج فيها بشهادة الطب. صنع فاندايك لاسمه شهرة محلية في ممارسة الطب مكرساً جهده لتطبيب أبناء قريته ومدينته وبات معروفاً في الأوساط العلمية والاجتماعية، ما جعل المرسلين الأميركيين يختارونه مرسلاً وطبيباً إلى بلاد الشام. سافر فاندايك من بوسطن على ظهر سفينة شحن مع مجموعة من المرسلين الأميركيين ووصل إلى بيروت في 2/4/ 1840 ليبدأ فصلاً مشرقاً سيستمر حتى آخر يوم في حياته.
إثر وصوله إلى بيروت مكث أربعين يوماً في الحجر الصحّي ثمّ قضى في بيروت أياماً قليلة تعلم خلالها بعض الكلمات والجمل العربية. وانتقل منها إلى حلب فإلى القدس وبقي فيها تسعة أشهر ومارس الطبّ وعالج العديد من أفراد عائلات المرسلين. عاد إلى بيروت وتعلّم اللغة العربية على يد الياس فواز البيروتي وأبي بشارة طنوس الحداد وبطرس البستاني وناصيف اليازجي والشيخ يوسف الأسير. كما تعلّم اللغتين العبرية والسريانية. وكان يصر على ارتداء الملابس الشرقية والتمسّك بالعادات والتقاليد الشرقية. في العام 1842 تزوّج من الأنسة جوليا، ابنة قنصل انكلترا في بيروت بطرس ابت. وانتقل بعدها للإقامة في بلدة عبيه مؤسساً مدرستها الشهيرة في العام 1843 بمساعدة صديقه المعلم بطرس البستاني وأصرّ على أن يكون التعليم فيها باللغة العربية. ودوّن الكتب المرتبطة ببرامج الدراسة فيها ومواضيع الجغرافية والجبر والهندسة والطبيعيات. ولما اطمأن إلى نجاح المدرسة وسياسة التدريس فيها، عهد بها إلى صديقه سمعان كهلون لينتقل الى إنجازات جديدة. وترافق ذلك مع قرار الإرسالية الأميركية في بيروت ترجمة الكتاب المقدس إلى العربية وكلفت عالي سميث الذي باشر في العمل لكنه توفي والمشروع لا يزال في بدايته. كلّف فاندايك في هذا المشروع ولبث يعمل بمساعدة ناصيف اليازجي وبطرس البستاني ويوسف الأسير حتى أتم الترجمة في العام 1864 وطُبع في العام 1866 واعتمدت الترجمة في الكنائس الإنجيلية العربية. واثناء أقامته في أميركا لإنجاز الطباعة، اشتغل بالتدريس في إحدى المدارس الأميركية وأصاب نجاحاً وعُرض عليه مبلغ مالي كبير للاستمرار ولكنه اعتذر قائلاً: “تركت قلبي في سوريا فلا لذّة لي إلا بالعودة إليها”…
ويذكر أنّ فكرة إنشاء الجامعة الأميركية ولدت في بيت فاندايك نفسه في بيروت العام 1863 وفي اجتماع ضم أعضاء الارسالية وبحضور القنصل الأميركي في بيروت وخرجوا بفكرة إنشاء الكلية السورية البروتستانتية والتي أصبحت في العام 1920 الجامعة الأميركية في بيروت.
في العام 1866، افتتحت الجامعة وكان مقرها منزل بطرس البستاني وأدارها دانيال بلس وبدأت عامها الدراسي بستة عشر تلميذاً. في العام 1868 تأسست كلية الطب في الجامعة وكان فاندايك أحد اساتذتها براتب هو نصف راتب أصغر استاذ في الجامعة مبرراً: “إنما أفعل ذلك حباً في خير هذه البلاد ونفعها ونفع أهلها”. شارك فاندايك في وضع نظامها الإداري والدراسي. كما درس فيها مادة الكيمياء وعلم الفلك. وأسس كذلك المرصد الفلكي الخاص بالجامعة واشترى أدواته على نفقته وظلّ يدير المرصد ويحرّر نشرته حتى 1895.
يكتب جرجي زيدان في مذكراته أنه تتلمذ على يد فاندايك وكان من أشهر اساتذة الجامعة وأحبّهم إلى قلوب الطلاب والأهالي والموظفين. وأنه من فرط تفانيه في خدمة الجامعة وتلاميذها وأهلها، ساد الاعتقاد فيما بينهم بأن فاندايك هو صاحب الجامعة أو أنها جامعة فاندايك. أحبّ فاندايك اللغة العربية حباً جماً، ولما قررتْ الجامعة اعتماد الانكليزية، اعترض فاندايك على ذلك معتبراً أن اللغة العربية هي الأنسب في التعليم ودافع عن موقفه الذي قاده إلى تقديم استقالته مبرراً: “انني ما نزلتُ أرض الشام إلا لأخدم العرب بتدريس العلوم بلغتهم”…
وهكذا خرج من الجامعة لكنه لم يتوقف عن تأدية الخدمات الثقافية لأهل البلد فتولى إدارة المطبعة الاميركية في بيروت واختار بعض الكتب العربية وباشر بطباعتها بنفسه. كما انتسب إلى الجمعيات العلمية والأدبية في لبنان وسوريا ونشر المقالات الأدبية في مجلة “المقتطف” الذي اقترح اسمها على مؤسسَي المجلة تلميذيه يعقوب صروف وفارس نمر. استمرّ فاندايك في ممارسة الطب في المستشفى البروسياني ومستشفى القديس جاورجيوس ومستشفى مار جرجس للروم الارثوذوكس والتي بنى فيها قاعة للمرضى على نفقته العام 1888. ترك فاندايك العديد من المؤلفات والترجمات العربية المنشورة، نذكر منها: كتاب “محيط الدائرة في العروض والقوافي”(1857) و”أصول الكيمياء”(1869) و”اصول التشخيص الطبيعي” (1874) و”أصول الهيئة في علم الفلك” (1874) و”الأصول الهندسية”(1875) وترجمة كتاب “تاريخ الإصلاح في القرن السادس عشر”(1878) و”سر النجاح”(1880) و”في أصول المنطق”(1886) و”إرواء الظماء في محاسن القبة الزرقاء”(1888).
في العام 1890 كانت مناسبة مرور 50 عاماً على قدومه إلى بلاد الشام فاحتفى به أهلها وأهل العربية ومنحه السلطان العثماني النيشان المجيدي من الدرجة الثالثة. وشكلت لجنة برئاسة اسبر شقير في لبنان ومحمد عبده في مصر وجمعوا له مبلغاً من المال بمثابة هدية. إلا أن والي بيروت اقترح عليهم إعطاء المبلغ لفاندايك ليتصرف به. وتم الاحتفال بمنزل فاندايك وخاطبه اسبر شقير: “لقد أصبحت شرقياً بفضل خدماتك الجليلة لأهل الشام في التدريس وبناء المدارس وتأليف الكتب وتطبيب المرضى. “فرد عليه فاندايك: “أشهد امام الله والناس أني أقمت بين أهل الشرق بكل نية صافية ولم أقصد غير نفع جيلي وترقيته وتخفيف الأثقال على قدر الإستطاعة وهذا من فضل الله يؤتيه من يشاء”.
في العام 1895 كان فاندايك يواصل عمله وعلمه حين أصيب بحمى التيفوئيد واثقلت عليه وشعر بدنو الأجل فامتنع عن الطعام. ولدى زيارة صديقه يوحنا ورتبات، بادره فاندايك: “شبعت من الحياة ولا حاجة لي بعد للغداء واذا بقي على خدمة للشام وأهلها فتممها أنت عني”. وأوصاه مثلما أوصى أهل بيته بأن يدفن في صمت في أرض الشام وبلا تأبين ولا خطب ولا قصائد شعراء. وأوصى أن يصلى على جثمانه باللغة العربية. وبعد أيام معدودة فارق الحياة في 13/ 11/ 1895.
عن سبعة وسبعين عاماً، دفن حسب وصيته في المقبرة الأميركية في بيروت. لكن أهل الشام الذين احترموا وصيته عملوا على تخليد ذكراه بإقامة نصب تذكاري له في احتفال ضخم العام 1899 في قاعة مستشفى مار جرجس في بيروت وفي القاعة التي بناها من ماله الخاص. أما الجامعة الأميركية التي لم تكرمه حياً ولا في السنوات القليلة بعد وفاته، فعمدت وبعد 36 سنة الى إطلاق اسمه على إحدى قاعاتها في العام 1931.
كان كرنيليوس فاندايك من المرسلين الأميركيين الذين أعطوا بصدق ووفاء لأجل بناء حضارة وأخوة ترفع شأن العلم والحياة والانسان.