–
لستَ مضطراً، أيّاً كان موقعك، قارئاً كنتَ أو كاتباً، أن تعود إلى كتاب غاستون باشلار الشهير “جماليات المكان” كي تقرأ عن محاسن البيت، إذ لا تقتصر القضية على التصوّرات الجمالية، بل تكاد المعاني، في زمننا الحالي حيث الجرائم تحيط بنا شرقاً وغرباً، تبدأ من ضرورة وجود البيت والحفاظ عليه، والخشية من أن يُحرَق، وأن يتلاشى أثره صورةً عن الذات، ويحلَّ مكانه الرماد.
الروائي السوري ممدوح عزام يشرح لـ”العربي الجديد” وجهاً من وجوه العلاقة مع البيت، بعد أن حرق مجرمون بيته في قريته تعارة، خلال الأحداث التي وقعت في محافظة السويداء: “في سنوات الحرب القاسية… كنت أقول لكل من يسألني: لن أغادر هذا المكان الحميم إلى المجهول، إلّا إذا أُرغمت على ذلك. فمن قشّة المُكنَس، إلى آلاف الكتب التي اشتريتها منذ أن كنتُ في أول الشباب، إلى الأمس فقط، ذرّات ملتصقة بلحمي ودمي!”.
في لحظةٍ ما، وأنت تشعر بما تعبّر عنه الكلمات السابقة، ستتذكّر أن بيتاً آخر أُحرق في الأحداث التي وقعت في الساحل السوري في مارس/آذار الماضي، يعود للناشط السياسي المعارض لنظام الأسديين ياسر مخلوف، الذي قضى في السجون الأسدية ردحاً من الزمن، تنقّل فيه من سجن تدمر الصحراوي إلى سجن صيدنايا الرهيب. وبدلاً من أن يصنع حضورُ البيت توازناً ما في حياته، صار الآن بلا ذاكرة، سوى ما جرّته عليه مقارعته للطغاة! هذه واحدة من مآسي المثقف السوري، وهو يواجه تبدّلات سياسية تتقاذفه بين أنواع الجحيم.
كلّ الحكايات الراسخة في الذاكرة، على مستوى النصوص العالمية الكلاسيكية، كانت تضع البيت في مكان الوطن، وتبني سرديّة الحكايات في رحلة العودة إلى البيت، كرحلة أوديسيوس في ملحمة الأوديسة للعودة إلى إيثاكا، فالبيت، حيث تنتظره بنيلوبي، هو الوطن، والبيت هو حيث الخلود، كما في ملحمة جلجامش!
هو المكان الحميم الذي فقده ملايين السوريين في رحلتهم وهم يبحثون عن الخلود في الحرية، وصار الآن في خطر، بعد أن تبدّى الشرُّ من شقوق هائلة في البيت الكبير، أي الوطن!
في غير مرّة، كان تناول موضوعة البيت ضمن الشرط السوري يبدأ من دمارِه، أي إبادته كهيكل قائم على الأرض، نحو تسويته بها. وقد شاهدنا النازحين العائدين إلى بيوتهم في القرى التي هجّرهم منها نظام الأسد، ينصبون الخيام فوق الركام ليُعلِنوا أنهم قد استعادوا ما سلبهم الشبيحة إيّاه!
تبدّى الشرُّ من شقوق هائلة في البيت الكبير، أي الوطن
اليوم، لا يختلف أسلوب الحرق عن الهدم، إلّا في المشهدية، لكنّ ما يحدث هنا يكاد يكون أشدَّ تأثيراً؛ فالنار هنا ليست معولاً أو شحنة ناسفة، بل هي تعذيب من نوع جحيمي، إنّها استدعاء للأذى إلى حيث جنّة الكاتب، أو السوري، حيثما تعرّض لمثل هذا التدمير!
أرشيفٌ قهريٌّ واسع تحتويه مدوّنات السوريين عن بيوتهم المنهوبة والمسلوبة. ففي مكانٍ ما، يدوّن الكاتب والمسرحي السوري نجم الدين سمان شهادته عن بيته الذي انتهى إلى مصير مشابه، يشابه بيت عزام، فيتحدّث عن أنّ السوري، ومن أجل البيت، يخوض رحلةً مديدة قد تستهلك كلّ سنواته، الأمر الذي يجعل منه كناية عن المصير. فأن تحصل على المسكن، هذا يعني أنك وصلت إلى النجاة. لكن ما حصل عند سمان يكاد يتطابق مع ما يقوله مواطنه: “كنّا قد جمعنا شقاء عمرنا لنكسوه ونسكنه، وجيراننا فيه من كلّ الطوائف السورية، ومن شرفته المطلة على بساتين داريا صرتُ أرى حوامات الأسد ترمي براميلها المتفجّرة، وتهتزّ البناية كلّها حين يخرج في الليل الأسدي البهيم صاروخ أرض – أرض من خلف سفح قاسيون، حيث الفرقة الرابعة بقيادة البيجاما الدموية، ويسقط فوق رؤوس النيام في داريا وينفجر بها. وكنتُ قد أوقفت صدور جريدة شرفات الشام التي أسستها عام 2006 في وزارة الثقافة، لأنّه لا معنى لصدور قصيدة عن الحب، أو مقال عن مسرحية، أو أيّ بحث فكري… بينما تُصدَر أوامر قتل السوريين”.
خرجتُ من البلد كلّه، لأنّ قلمي، سلاحي الوحيد، لا يستطيع إيقاف المجزرة، وربما أستطيع في تغريبتي أن أستخدمه بحرية أكثر. بعد شهر.. أرسل لي جاري الدرزي: “عفّشوا بيتك ورجع على العضم متل ما كان”، وأردف خائفاً: “احذف المحادثة فوراً”. ثم أرسل ثانية بشكل خاطف: “حشَوا كتبك في التنكات يتدفّأون عليها”، وأردفها بجملة: “احذف المحادثة”. وفي رسالة خاطفة ثالثة: “تفرّجوا على صوركم ثم حرقوا عيونكم في الصور بجمرات سجائرهم”. وبعدها: “احذف المحادثة”.
خلال سنوات الشتات السوري، توقّفت غريزة البيت عند السوريين اللاجئين في أصقاع الدنيا كافة. لم يعد حيّزهم الآمن في وطنهم حاضراً، بل متروكاً لغَيْبِه، لمصيره، وبدلاً من أن يُحدثوك عن المنازل، صاروا يتحدثون عمّا بقي منها: عن الباب الذي ظلّ واقفاً بينما هدم البرميل المتفجّر الجدران وبعثَر السقوف!
وفي عوالم الكُتّاب والمثقفين، لن يكون الحديث مهمّاً إلّا حين يأتي على سيرة المكتبة. يعرف نجم الدين سمان مصير مكتبته، على العكس من ممدوح عزام. كما أن هناك آخرين سعَوا لأن يستعيدوا مكتباتهم، فنجح البعض، كالشاعر عمر الشيخ المقيم في قبرص، والقاصّ والمسرحي مصطفى تاج الدين الموسى المقيم في تركيا، وفشل آخرون في الوصول إليها، وحتى معرفة مصيرها. ومن هؤلاء القاصّ والروائي إبراهيم العلوش، الذي دوّن كلاماً عن القصة، فقال: “أن تحترق مكتبتك، وأن يتم نهبها، ليس مجرد خسارة مادية، بل خسارة للذكريات، وللآمال التي بنيتها على تلك الكتب، وأنت تصرف عليها من الليرات القليلة التي لديك وأنت طالب… أكثر من ألف كتاب، لم ينجُ منها إلا القليل. كنتُ أظن أنّها نجت من دمار المنزل ونهبه. ومن نهب المكتب وأضابيره، ومن الممكن التبرع بها لأي مكتبة عامّة في المستقبل. ولكن لا، لم تنجُ”.
المكتبة في البيت بيتٌ آخر، وهنا ثمّة فَقدٌ لكلّ ما يُلملم شمل الكاتب مع تفاصيله، وكأنّه يُترَك في العراء وحيداً. والأمر ذاته ينطبق على أصحاب القلم، لكنّ هؤلاء، وكما يُفترض، لا يجدون قدرة على الانتماء إلى طائفة، وحتى إن انحاز جزء منهم إلى هذا الحيّز، فإنّ المسألة أوسع وأشمل من أن يكون المفهوم الرمزي للبيت محدوداً ضمن الجماعة الدينية أو السياسية، بل إنّه يسمو ليعود إلى مفهوم الوطن!
سورية، ومن خلال تأويلات الكُتّاب الذين لم ينفصلوا عنها، ولم يفطموا كتابتهم عن حليبها، لا تصلح لأن تكون تيهاً! بل هي الفضاء الذي تأسّس عبر التمدّن، وسطّر تاريخه القديم على الحجر والطين، فبقي واستمر تاريخه، وإلى هذه اللحظة، نجد أنّ الدوامة التي تحيط به، وتتوالى بسببها كوارثه، هي تلك التي تصدمه بين الحدّين: إمّا أن تكون البلاد بيتاً لسكانها، وإمّا أن تُطردهم، فتحترق وتُنسى كالرماد.
* كاتب سوري مقيم في فرنسا