ومن اللافت أن يكون عبد الناصر قد بدأ بنشر ثلاث مقالات بعد مضي سنة على الثورة، وجعلها محتوى كتاب تحت عنوان “فلسفة الثورة”، اذ كان يعني ذلك أنه كرّس نفسه “منظراً” للثورة، على الرغم من أنه يصفها في المقدمة لأنها “خواطر ومحاولة لاستكشاف نفوسنا ولكي نعرف من نحن”. يقول خالد زيادة: “على الرغم من صغر حجم الكتاب وبساطة أسلوبه وإنشائية عباراته، فإنه يكشف عن شخصية عبد الناصر وتجربته ودوره ومصادر أفكاره، دون أن يشير إلى ذلك”. لقد قدم ناصر نفسه على أنه صانع هذه الثورة التي كانت في ذهنه، ولو على نحو غامض، منذ صباه “نفوسنا هي الوعاء الذي يعيش في كل ما فينا، وعلى شكل هذا الوعاء سوف يتشكّل كل ما يدخل فيه، من الحقائق”.
ويشير زيادة إلى أنّ جزءاً من أفكار عبد الناصر التي عرضها في “فلسفة الثورة” تنتمي إلى أدبيات وخواطر بعض الاصلاحيين الإسلاميين، وهو لم يشر إلى موضوع الثقافة والمثقفين سوى ذكر لقائه مع اساتذة الجامعة وخروجه من اللقاء مكتئباً، من دون أن يُهمل الإشارة إلى أنه وزملاءه، في كلية الأركان يتساوون مع اساتذة الجامعة مرتبة وثقافة. وحين أصدر ناصر كتابه كان مهتما بأن يسمع آراء كبار المثقفين بكتابه. وكتب عباس العقاد مقالة مطوّلة صدرت في كتاب عنوانه “فلسفة الثورة في الميزان”، اثنى فيه على الكتاب، بعد أن يستعرض الثورات من الفرنسية الى الصينية والتركية، يصل إلى الحركة المصرية التي لا توصف بأنها تمرّد عسكري ولا توصف بأنها ثورة شعبية. أما توفيق الحكيم، فقد التزم الصمت، فيما اقترح طه حسين أن يطلق على حركة الضباط الاحرار اسم الثورة.
يقول زيادة إن مواقف طه حسين كانت الأجرأ، فقد وقف موقفاً صامتاً تجاه الوحدة المصرية السورية، وناقش بجرأة أفكار الميثاق الذي أعلنه عبد الناصر عام 1962، فكتب مقالة في جريدة “الجمهورية” بعنوان “جهد هائل”، ويتوقف عند البند الرابع الذي تناول المثقفين، ولكي نفهم ما ذكره الميثاق عن المثقفين، نجد التمهيد له في المقالات التي كتبها صحافي النظام الناصري، محمد حسنين هيكل ونشرها في كتاب تحت عنوان “أزمة المثقفين”(1961) يعتبر هيكل أن المثقفين تخلفوا عما يسميه “قوّة الدفع الثوري”، أي ثورة الضباط، ولم يلتحق المثقفون بها واساؤوا فهمها.
وبعد الثورة، برزتْ أزمة العلاقة بين المثقفين والنظام المصري للمرة الأولى حين طُرحت عودة الجيش إلى الثكنات، ومرة عند المطالبة بالحياة النيابية وعودة الأحزاب السياسية إلى ممارسة نشاطها، ومرة ثالثة عُرفت بالمفاضلة بين أهل الثقة وأهل الخبرة بعد تعيين الضباط في مناصب إدارية. يقول زيادة “إن علاقة نظام يوليو بالمثقفين لا يمكن اختصارها باخضاع المثقفين من خلال تأميم جميع وسائل التعبير، من صحف ومجلات إلى دور النشر، وصولاً إلى فرض الرقابة على المقررات الجامعية، وتحديد الكتابة التاريخية، فهي تكمن أيضاً في انتزاع أي نفوذ للمثقف، وأي حرية في التعبير عن فهمه ووعيه لدور مصر وهويتها. كان على المثقفين أن يصمتوا حين يتعلّق الأمر بدور الدولة وهوية مصر، لأن الدولة في نظام يوليو هي التي تحدّد هوية مصر”.
أحدثت ثورة ناصر تغييراً كبيراً، في المشهد المصري، وعلاوة على عداء ناصر للأفكار الليبرالية، فإنه نظر إلى تجربة مصر الحديثة منذ مطلع القرن التاسع عشر باعتبارها كلها تجربة مشوبة بالاخطاء والاخفاقات. وعمدتْ ثورة يوليو إلى تصفية الارث التحديثي، وقضت على التعددية التربوية والثقافية والسياسية، أي ما يمكن أن نسميه الارث غير المادي الذي حققته مصر خلال ثلاثة أرباع قرن سابقة على ثورة يوليو، والذي منح مصر دورها الريادي في العالم العربي. عمد عبد الناصر إلى تمصير الاقتصاد وتعريب الثقافي… ولم يكتف النظام بمحاصرة الأصوات المعارضة ومنعها من التعبير، بل أوصد الأبواب أيضاً في وجه ما كانت تبديه مصر من انفتاح في المرحلة الليبرالية على الثقافة الغربية، إلى الحد الذي فقد فيه المثقف صلته بالتيارات الثقافية والأدبية والفكرية في العالم، ما أحدث في هذا المجال فجوة زمنية لا يمكن ردمها.وكانت الرواية المصرية منذ ما قبل الثورة قد أخذت على عاتقها الغوص في القضايا الاجتماعية والتحولات في الحياة المدينية، ويمكن أن يلاحظ أن صعود الرواية تزامن من انحسار الشعر، ويمكن ملاحظة تحول الفاعلين أو أبطال الرواية، فالبطل عند توفيق الحكيم أو طه حسين هو الفلاح الذي يحمل في نفسه تراث الانسان المصري منذ الأزل ببؤسه وشقائه، مع نجيب محفوظ أصبح بطل الرواية هو الموظف والحزبي والسياسي والفتاة التي نالت التعليم ودخلت سوق العمل… أدت الرواية وظيفة عجز علماء الاجتماع القيام بها، فكان الروائي بمنزلة الشاهد على مجتمعه.
كان تغيراً ما قد طرأ على سياسة النظام الناصري بعد هزيمة 1967، ومن ذلك بشكل خاص، وعود بالديموقراطية، إلا أنّ الاستعدادات لإزالة آثار العدوان كانت تطغى على ما عداها من سياسات، ومع ذلك، فإن النظام استبدل خطاباته الثورية بالبحث عن تسويات لم تكن مجدية، وكان وداع عبد الناصر 1970 عقب وفاته المبكر والمفاجئة، مؤثراً. ومع صعود أنور السادات إلى سد الرئاسة، أعطى إشارة واضحة إلى تبدّل السياسة بعد الانقلاب الذي أطاح فيه الفريق الناصري في السلطة في أيار 1971. كانت تلك إشارة واضحة الى انتقاد الإرث الناصري والتفلت من قيوده. لكن كان العمل الأول الأبرز الذي تناول عبد الناصر وسياساته بالنقد الصريح في كتاب صغير لتوفيق الحكيم بعنوان “عودة الوعي”، المحمّل بالكثير من الرموز، وفيه ينتقد اسلوب ناصر في خوض الحروب.
ولم يتأخر لويس عوض في تقديم تقييمه لثورة يوليو زعيمها، واستخلص بأن عبد الناصر ونظامه استخدما من القهر أكثر مما يتناسب مع ما جلباه من تغيير، وهذا من سلبياتهما. وبرزت كتابات كثيرة تركز على إعادة كتابة التاريخ وتحديداً التجربة الليبرالية التي تمتد من ثورة 1919 حتى عام 1952، وهي كتابات تعبّر عن الرغبة العميقة في التحرّر من قيود المرحلة الناصرية، وفي تحرير التاريخ من النظرة الأحادية التي يفرضها النظام، والمحصلة أن مصر الراهنة هي حصيلة التطورات التي حدثت منذ مطلع القرن التاسع عشر.
كان عبد الناصر يخشى المثقفين، بينما وقع السادات في حالة سوء تفاهم عميق مع الثقافة، وكان في قرارة نفسه يؤمن بأنه ما قدمه لمصر في الحرب والسلام يستحق التقدير، لا النقد والإدانة. أما حسني مبارك الذي ورث العزلة، كان يبحث عن الهدوء، وخلال العقود الثلاثة التي أمضاها في السلطة، كان العالم يتغير، وخصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، الأمر الذي أدى إلى تبدّل وضعية المثقف ودوره وتأثيره.
أما في مصر، وفي العالم العربي عامة، فإن الخطاب التربوي المشحون بأفكار التنوير والدعوات الى الحرية والديموقراطية وحرية الرأي فقد فاعليته وتأثيره، وليست اللامبالاة تجاه خطاب المثقف ولغته إلا مظهراً من مظاهر تهميش الثقافة، التي ليست بالنسبة إلى النظام سوى وظيفة يمكن تجاهلها أو الاستغناء عنها، وهذا بدا واضحاً في ثورة يناير فـ”بالرغم من الحماسة والتفاؤل اللذين أبداهما المثقفون في بداية الثورة، مع اسهابهم في التحليلات والاقتراحات والتعليق على الأحداث، فإن التطورات المتلاحقة أظهرت أن الحراك كان ينطوي على أعطاب عديدة”… وما عاد للمثقف دور في صوغ هوية مصر الحضارية، وما عادت للثقافة، عربية كانت أم إسلامية أم غير ذلك، أثر في تحديث هذه الهوية، إنما أصبح النظام نفسه هو هوية مصر.
ما نستخلصه من كتاب الباحث خالد زيادة، هو مآل أنظمة الحزب الواحد، وأنظمة القائد، التي لا تزال متربصة بالحياة العامة، في المشرق كله.