كثفت أنقرة من نشاطها الدبلوماسي والسياسي والأمني على خط بغداد – أربيل، إذ شهدت الأسابيع الماضية سلسلة زيارات رفيعة على مستوى وزراء الخارجية والدفاع ورؤساء أجهزة الاستخبارات والأركان .. إلى هاتين العاصمتين. الرسالة التي حملها هؤلاء جميعاً، هي ضرورة التعاون مع جهود أنقرة الرامية إلى القضاء على حزب العمال الكردستاني، بحجة مكافحة الإرهاب، واللافت هو محاولة تركيا إقناع المسؤولين في بغداد وأربيل بأن الكردستاني بات يشكل خطراً على الجانبين، مستشهداً بتوسيع الحزب نفوذه في مناطق شنكال (سنجار) ومخمور وكركوك والسليمانية التي صنفها، هاكان فيدان، في خانة الأعداء بحجة دعم الاتحاد الوطني الكردستاني لحزب العمال، عكس حزب الديمقراطي الكردستاني الذي لا يتوانى المسؤولون الأتراك عن القول إنه يتفهم مطالب تركيا ويتعاون معها، وسط صمت من قادة الحزب إزاء ما تقوله تركيا بهذا الصدد.

بالتوازي مع هذا النشاط، تتحرك أنقرة على جبهة طهران للتنسيق معها بهذا الخصوص، وفي الوقت نفسه تصر إلى ما لا نهاية على جبهة واشنطن للحصول على صفقة طائرات إف – 16، لتكشف هذه الخطوات مجتمعة ملامح ما تعدّه تركيا، وهو القيام بعملية عسكرية ضخمة كما تحدثت تقارير تركية مؤخراً، حيث حلم الوصول إلى قنديل بعد أن طال كثيراً، ذلك الحلم الذي يكاد يتحول إلى كابوس بعد الخسائر الكبيرة التي لحق بجنودها خلال الفترة الماضية. وعليه، يمكن القول إن زيارات المسؤولين الأتراك إلى بغداد وأربيل هي لترتيب هذه العملية، حيث تريد تركيا الزج بالجيش العراقي وقوات البيشمركة فيها، على أن تقدم هي المساعدة والغطاء الجوي والدعم الاستخباراتي، إذ إنها تعرف جيداً أن قيام جنودها وحدهم بهذه العملية ستكون مكلفة جداً، وقد يدفع أردوغان ثمنها غالياً في الداخل التركي، وكي تنجح تركيا في خطتها هذه تحاول إغراء بغداد بأن مشاركتها ستؤدي إلى بسط سلطتها المركزية، فضلاً عن السيطرة على الحدود العراقية مع كل من سوريا وتركيا وإيران، كل ذلك وسط التلويح بعصا غليظة ضد السليمانية والتلويح بالمزيد من العقوبات ضدها، بعد خطوة إغلاق المجال الجوي التركي أمام الطائرات المتجهة إلى مطار السليمانية.

ما الذي يريده أردوغان من هذه العملية؟ في الواقع هي ثلاثة أهداف أساسية:

 الأول، توجيه ضربة قاصمة لحزب العمال الكردستاني، وسط اعتقاد تركي بأن مثل هذه الضربة ستؤثر بشكل دراماتيكي على الإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا، وقطع خطوط التواصل بينها وإقليم كردستان وعموم شمال العراق.

الثاني، تصريف نتائج هذه العملية سياسياً في الانتخابات البلدية التركية المقررة في نهاية أذار/ مارس المقبل، حيث حلم أردوغان بإستعادة بلدية إسطنبول من المعارضة، وهو هدف يتجاوز رئاسة البلدية إلى هوية تركيا السياسية المستقبلية في ضوء الإعداد لدستور جديد.

أما السبب الثالث وهو الأهم، فيتمثّل بالتمهيد لما بات يعرف بـ”طريق التنمية”، ذلك المشروع الحيوي المشترك مع العراق الذي سيصل البضائع التركية بيسر وسهولة إلى أسواق دول الخليج، في وقت تركيا بحاجة ماسة إلى هكذا مشروع لأسباب تتجاوز التجارة إلى مد اقتصادها ولاسيما ليرتها بمقومات الصمود في مواجهة الانهيارات المتتالية التي تلحق بقيمتها أمام الدولار، وهو ما يضع الاقتصاد التركي على كف عفريت، خاصة أن هذه الانهيارات استنزفت الدورة المالية للبلاد، وباتت تهدد احتياطها من العملة الأجنبية، وسط مخاوف من شلل اقتصادي كامل قد يشعل احتجاجات شعبية واسعة على شكل “ربيع تركي”.

بغداد المنشغلة باشتداد التجاذب الأميركي – الإيراني، وارتفاع أصوات تيارات عراقية داعية إلى إخراج القوات الأمريكية من البلاد، بعد الاستهدفات الأميركية النوعية لكبار قادة مليشيات عراقية موالية لإيران توغلت في استهداف القواعد الأميركية في المنطقة. لكن بغداد هذه، لا تبدو أولوياتها هي نفس أولويات أنقرة، ومع أنها تبدي الاستعداد للتعاون معها لبناء علاقات مستقرة، لكن في ذات الوقت تجد نفسها أمام تحديات كبيرة إزاء السياسة التركية على شكل لاءات مرفوعة في وجه مطالب بغداد، تلك المطالب المتعلقة بوقف تركيا لخرقها المتواصل للسيادة العراقية، وسحب قواتها ومقارها العسكرية من الأراضي العراقية، والكف عن تعطيش بلاد ما بين النهرين بعد أن حوّلت تركيا مياه نهري دجلة والفرات إلى سلاح يتوخى تحقيق أهداف سياسية ومالية.

ولعل أمام هذا الواقع قد لا تجد تركيا سوى في أربيل خاصرة رخوة لدفعها إلى ما تريد من سفك للدم الكردي في لعبة تاريخية تمتد إلى العهد العثماني، إذ لطالما كان أجداد أردوغان من السلاطين يحرصون على المضي في لعبة الدم الكردي، كي لا يكون للكرد قائمة في خرائط الشعوب وحيوياتهم، ولعل هذا هو سر احتلال إقليم كردستان مكانة خاصة في السياسة التركية، لأسباب تتجاوز الاقتصاد إلى رسم خريطة جيوسياسية وفق حسابات السياسة التركية أولاً وأخيراً، وهي حسابات ليس للكرد وخرائطهم وتطلعاتهم وأحلامهم ومستقبلهم مكانة فيها، إذ إن لسان حال تركيا يقول: إما تكون المناطق الكردية تحت سيطرتها أو نقلب الحدود على أهلها.