لعل السؤال الأول الذي تطرحه رواية “في مدينة الظلال والأحلام” للكاتب التركي مراد غولسوي، الصادرة في سلسلة “إبداعات عالمية” عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت، بترجمة إسماعيل عدي، هو سؤال النوع الأدبي. فالكاتب يتخذ من الرسائل إطاراً لكتابة الرواية، ويضعها في أكثر من 40 رسالة، يكتبها الراوي إلى صديقه في باريس، بين أغسطس (آب) 1908 ويونيو (حزيران) 1909، وكل منها مروسة بيوم معين. وهي تشتمل على ذكريات الراوي ومذكراته، على المستوى الزماني، وعلى مشاهداته وانطباعاته، على المستوى المكاني. وبذلك، تجمع الرواية بين الرسائل واليوميات والمذكرات وأدب الرحلة في آن واحد، ولا تنتمي لأي منها، فهي رواية، أولاً وأخيراً، مكتوبة بروح ما بعد حداثية، تطرح الأسئلة ولا تقدم الأجوبة، ومنها ما يتعلق بالهوية، والتاريخ، والعلاقة بين الشرق والغرب، والصراع على السلطة، وغيرها. أما الكاتب فهو قاص وروائي وأستاذ جامعي، حصل على جائزة “سعيد فائق للقصة” عام 2001 وجائزة “يونس نادي للرواية” عام 2004، وترجم كتابه “أسبوع رحمة في إسطنبول” إلى عدد من اللغات. لذلك، لا غرو أن تشكل هذه المدينة فضاء الأحداث العام في الرواية.
تمظهرات المدينة
في العنوان، يعطف الكاتب مفردة “الأحلام” المنتمية إلى المستقبل على مفردة “الظلال” المتعلقة بالماضي، وهو ما ينطبق على إسطنبول العريقة بماض معروف والمفتوحة على مستقبل مجهول، في اللحظة التاريخية التي تدور فيها الأحداث، وهي العقد الأول من القرن الماضي، حين كانت الدولة العثمانية في وضعية “الرجل المريض” الذي تتربص به القوى الكبرى. على أن تمظهرات العنوان تتعدد في المتن الروائي، فإسطنبول مدينة التفاعل الحضاري “هذه المدينة، أكبر مكان دولي يمكن أن تراه في أوروبا”، والعراقة والفرادة “هذه المدينة العتيقة، أخذتنا إلى أحشائها، وأذاقتنا تجارب ربما لن نستطيع المرور بها في حياتنا مرة أخرى”، والغرابة “هذه المدينة هي أغرب مدينة على وجه الأرض اليوم”، والمنعة “هذه المدينة لا تنصاع”، والتحولات “إسطنبول هذه مثل قدر يغلي”. وهي مدينة الأشياء الحميمة لبطل الرواية “إسطنبول بالنسبة إلي، هي بيتنا الذي في كوزغونجوك، خالدة، شارعنا، أصدقائي، شجرة التين التي خلف الجدار المهدم، الحدائق، صيادو السمك والمضيق الذي نبهنا إلى عدم الذهاب إليه مراراً”. وهكذا، تتعدد تمظهرات العنوان ودلالاته في النص وتختلف غير أنها تجمع على أهمية المدينة.
في المتن، تكلف الصحيفة الفرنسية “ايللوستارسيون” الصحافي الشاب فؤاد/ فرنك تشاوسون، المتحدر من أب تركي وأم فرنسية، السفر إلى إسطنبول وتغطية التحولات الجارية فيها، في نهاية العقد الأول من القرن الـ20. يجد في التكليف فرصة مزدوجة للهرب من علاقة حب مزعومة تسببت له بغضب الأم، من جهة، والعودة لمسقط رأسه إسطنبول حيث يمكن أن يقتفي أثر الأب الراحل، من جهة ثانية، لا سيما أنه غادرها صغيراً إلى باريس مع أمه وأخته، بعد رحيل الأب واندلاع أحداث طائفية فيها. وفي إطار تنفيذ المهمة المنوطة به يرصد فؤاد كل ما تقع عليه عيناه ويدونه في رسائل يرسلها إلى الصحيفة، وإلى صديقه أليكسو النزيل في مصحة نفسية، بدءاً من وقائع الرحلة البحرية، مروراً بالوصول إلى إسطنبول ووصف أوضاع الدولة العثمانية والتعرف إلى المواقع الأثرية، وانتهاء بمهمة البحث عن الذات واقتفاء سيرة الأب الراحل. وفي كل من هذه المراحل يشكل العام خلفية للخاص، ويتعالق الراوي، كاتب الرسائل، مع شخوص معينة، بصورة أو بأخرى، ويشكل محور الأحداث انطلاقاً من شهادته عليها أو انخراطه فيها.
علاقات مختلفة
على متن السفينة، ينخرط فؤاد في علاقة زمالة مع مارسيل مصور الصحيفة وتنمو العلاقة بينهما من النفور في البداية حتى الصداقة في مرحلة متقدمة من المهمة المشتركة. وينخرط في علاقة رسمية مع المعارض التركي المتحدر من السلالة السلطانية السيد صباح الدين الذي يجري معه مقابلة، وتنمو لاحقاً إلى علاقة قرب منه، وينخرط في علاقة حب مع الجميلة إيزابيل التي تنزل في مدينة ميسينا الإيطالية التي يعول على الارتباط بها، غير أن الزلزال الذي يضرب المدينة يحول دون أن تؤتي تلك العلاقة خواتيمها المنشودة.
في إسطنبول، تتعالق الشخصية المحورية، إضافة إلى مارسيل، مع تشارلز السائح الفرنسي المهتم بحكايات إسطنبول وأسرارها، وتتطور العلاقة إلى علاقة صداقة واهتمام مشترك ثلاثية الأطراف. لذلك، ما إن تنهي الصحيفة مهمة فؤاد ومارسيل حتى يكلفهما تشارلز بمهمة بديلة تتمثل في جمع حكايات المدينة وتصوير المواقع والناس تمهيداً لإصدارها في كتاب. ويتعالق مع الشابة إيفلين التي يقيم الثلاثة في منزل والدها في كانديللي الساحلية في علاقة عاطفية لا تؤتي ثمارها بدورها. على أن المفارق في هذه الشخصية المحورية هو ترجحها بين ثنائيات متضادة في الهوية والحب والأسرة والحضارة، في نوع من الانفصام المتعدد الأطراف. ففي الهوية، يترجح بين تركية أبيه وفرنسية أمه، فلا هو تركي ولا هو فرنسي. وفي الحب، يترجح بين ساسيل الفرنسية وإيزابيل الإيطالية على متن السفينة، وبين إيزابيل وإيفلين في إسطنبول، وبين أمه وكل منهن. وفي الأسرة، يترجح بين أم يحبها تموت بعد رحلته، وأب لا يعرف عنه الكثير، مات قبل ولادته. وفي الحضارة، يترجح بين شرق غادره ولم يعد ينتمي إليه وغرب عاش فيه شبابه ويرفض انتماءه إليه. وهكذا، نكون إزاء شخصية موزعة بين أطراف ثنائيات مختلفة، مما يجعلها ترتكب تصرفات غير متوازنة أحياناً، ويطرح صحتها النفسية على المحك. ولعل كتابة الرسائل يومياً أو دورياً إلى الصديق أليكسو النزيل في مصحة عقلية في باريس، وهو ما يستمر حتى بعد وفاة الصديق، يشكل نوعاً من علاج نفسي لأعطاب الشخصية، وهو ما تعبر عنه بالقول: “ما زلت أكتب لك هذه الرسائل، لأنني عندما أترك الكتابة تأسرني الحياة، وتجرني إلى بئر عميقة لا قاع لها”، وبالقول: “أحاول ألا أتذكر أنك مت منذ زمن. وإلا فلن أكتب لك. وأعلم أنني إن لم أكتب سأجن تماماً”.
على أن نقطة التحول الأساسية في حياة فؤاد خاصة، وفي مجرى الأحداث عامة، تتمثل في الزيارة التي يقوم بها إلى مسقط رأسه في كوزغونجوك، وتشكل بداية رحلة البحث عن الأب وموقعه الاجتماعي وسبب موته، التي تقوده إلى غير مكان، ويقابل خلالها: المربية العجوز خالدة، وصاحب المكتبة أركيل، وأخاه الأكبر محمد جميل، والسيد حميد، والكاتب أحمد مدحت. ويعود منها بصورة مشرقة عن الأب وشخصيته المميزة واهتماماته السياسية والثقافية ومؤلفاته الفكرية. وإذا كانت هذه النتائج تصالحه مع صورة الأب، فإن اجتماع الذين التقى بهم على موته منتحراً واختلافهم على أسباب الانتحار يثيران قلق الابن الباحث لا سيما السبب الذي يربط الانتحار بجنون أم الأب، والجنون مرض وراثي. وهنا، تنتابه الهواجس، ويعتريه القلق والخوف بأن يكون مصيره كمصير أبيه بحكم الوراثة، فيخشى من أن يصاب بالجنون واستطراداً الانتحار، وتأخذ هذه الهواجس بالنمو، وتنعكس في رسائله المكتوبة، بحيث تغدو في نهاية الرواية أقرب إلى الهذيان.
من خلال هذه الشخصية المعطوبة التي تشعر بالقلق، وتفشل في الحب، وتفتقر إلى الانتماء، وتحرم من الدفء الأسري، وتحتاج إلى الاستقرار، ومن خلال الشخوص المتعالقة معها، والأماكن التي تجوبها، والحكايات التي تجمعها، يلقي الكاتب الضوء على مدينة إسطنبول في العقد الأول من القرن الـ20، ويرصد الأعطاب التي تعتورها، ومنها: الصراع الطائفي، والاضطراب الأمني، والتفكك الاجتماعي، والقمع الفكري، والإبادة الأرمنية، والصراع الداخلي على السلطة، وانحسار النفوذ الخارجي، وغيرها. ولعل هذه الأعطاب كانت وراء إطلاق لقب “الرجل المريض” على الدولة العثمانية، حتى إذا ما وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها تقتسم القوى المنتصرة تركة هذا “الرجل” وتوزيعها في ما بينها. والمفارق، في هذا السياق، التوافق بين مصير “الرجل المريض” المجازي الذي يؤول إلى الضعف والتفكك، من جهة، ومصير الرجل المريض الأب الذي ينتهي بالانتحار ومصير الرجل المريض الابن الذي يؤول إلى الاختلال النفسي. وبذلك، تجمع رواية بين تاريخ مدينة معطوبة وسيرة شخصية مضطربة، تجمع بين الظلال القاتمة والأحلام الموءودة.