لا يمكن إنكار حقيقة أن الوضع الأمني في العراق بات مستقراً في السنتين الماضيتين، لا مقارنة بالسنوات العشر التي تلت الاحتلال الأميركي مباشرة، بل وصولاً إلى عام 2021 حين أجريت الانتخابات التشريعية الأخيرة التي كان من نتائجها غير المباشرة الهيمنة الكاملة للأحزاب والميليشيات الموالية لإيران على الحكم، ما جعل الطريق سالكة أمام محمد شياع السوداني لرئاسة الحكومة الحالية.
كان واضحاً أن انسحاب مقتدى الصدر وتياره السياسي قد محا من المشهد السياسي الكثير من مظاهر الفوضى، إضافة إلى أن الهزيمة التي تعرض لها تنظيم “داعش” الإرهابي قد ظهرت نتائجها الإيجابية تدريجياً من خلال انحسار عملياته التخريبية المحدودة.
ما وجده تحالف القوى الشيعية المنضوية تحت لواء “الإطار التنسيقي” جاهزاً للسيطرة على الدولة لم يكن من صنعه، بل تواطأت الكثير من الظروف لتجعل من الاستقرار عاملاً مشجعاً يستعين به على تكريس ما يُسمى بالدولة العميقة التي كان يديرها في ظل الفوضى على حساب الدولة الناشئة التي لم تكن ملامحها قد ظهرت بعد. وهو ما يعني أن حكومة السوداني قد وُضعت في خدمة مشاريع الفساد التي كانت تديرها الأحزاب الشيعية في وقت سابق بطريقة الاستنزاف غير المباشر لموارد الدولة. أما وقد صارت الحكومة واجهة لتلك الأحزاب، فإن كل خطط الطرفين ستتطابق، فالممرات ستكون مفتوحة وستتخذ المشاريع التي كانت يوماً سرية طابعاً علنياً بتأثير الحماية القانونية التي تستند إلى غطاء حكومي.
لا حل لمشكلات الدولة القديمة
انطوى النظام الطائفي الذي فرضه المحتل الأميركي على العراق على عوامل كثيرة، كان من شأنها أن تديم مشكلة الحكم، بموازاة المشكلات التي سببها الاحتلال حين حوّل مؤسسات الدولة العراقية إلى أنقاض وفرض على المؤسسات البديلة مبدأ المحاصصة، فصارت الدولة لا تعمل إلا في ظل اكتمال النصاب الطائفي الذي استبعد مؤهلات الكفاءة والخبرة، كما أن الوطنية قد استُبعدت منذ اللحظة الأولى للاحتلال. من المؤكد أن النزاع على الحكم لم يختف إلا حين اختفى مقتدى الصدر من المعادلة الشيعية في الوقت الذي صار فيه ممثلو الطرف السني في نظام المحاصصة مجرد رجال أعمال ومقاولين، بعدما اختفت المسحة العقائدية التي غاب حملتها، إما عن طريق الموت أو الهروب خارج العراق بحثاً عن ملاذ آمن في مواجهة العقوبات المشددة التي صدرت بحقهم. ولا أظن أن للأكراد تأثيراً يُذكر على ما يحدث في بغداد. لقد حُلت أخيراً مشكلة الحكم. ليس هناك مَن ينافس الأحزاب الموالية لإيران من خلال المزايدة على الوطنية، كما أن خدمات البيئة التحتية كالكهرباء والماء الصافي والمجاري قد تم القفز عليها من خلال إقامة مشاريع إسكان جديدة وإدارة الظهر للأجزاء القديمة من المدن، بحيث يحل العراق الجديد في مكان، لا علاقة له بالعراق القديم. أما التنمية فلا محل لها في البرنامج الحكومي. لا مزارع ولا مصانع ولا مدارس ولا مستشفيات. ينفق العراق على بناء الأضرحة الدينية أضعاف ما يمكن أن ينفقه على بناء المدارس والمستشفيات.
النظام السياسي وقد احتوى الدولة
لطالما نعت العراقيون نوري المالكي وهو رئيس الحكومة التي سلّمت الموصل لتنظيم “داعش” عام 2014 بـ”الحرامي” بسبب اختفاء مئات مليارات الدولارات خلال سنوات حكمه الثماني. تحدث الرجل ذات مرة عن ملفات الفساد التي يحتفظ بها في أدراج مكتبه، والتي من الممكن أن تقود الكثيرين إلى السجن. في المقابل، فإن مجلس النواب في تقريره عن هزيمة القوات العراقية في الموصل حمّل المالكي مسؤولية ما حدث. اختفى المالكي بعد ذلك التقرير أياماً قضاها في إيران ثم عاد مدعوماً إيرانياً ليعلن عن زعامته للمقاومة الإسلامية. وهي زعامة كانت محل شك بالنسبة إلى زعماء الميليشيات التابعة للحرس الثوري الإيراني. غير أن الرجل قاوم قدره إلى أن نجح في جمع الأحزاب والميليشيات الموالية لإيران في تحالف الإطار التنسيقي الذي هُزم بإرادة شعبية في انتخابات عام 2021. كانت تلك هي نهاية المالكي لو لم يتخذ مقتدى الصدر قراره التخلي عن أصوات مَن ناصروه للمهزومين. كانت الخيانة مبيتة. بدلاً من أن يذهب نوري المالكي إلى السجن صار عراباً للعملية السياسية. وهكذا فقد حُسمت العملية السياسية لمصلحة الطرف الذي لطالما حامت حوله شبهات الفساد، وهو الطرف الذي كان عبر العشرين سنة الماضية مسؤولاً عن ضياع الأموال التي خُصصت لإعادة إعمار البنية التحتية، وأخيراً هو الطرف المسؤول عن تعثر قيام دولة جديدة على أنقاض الدولة التي حطمها الغزو الأميركي. ما لم يتوقعه العراقيون حين خرجوا محتجين في تشرين الأول (أكتوبر) 2019 أن يتمكن النظام السياسي الذي دعوا إلى إسقاطه من احتواء الدولة بطريقة محكمة.
دولة مستقرة على أرض ملغومة
عبر أكثر ثماني سنوات من الحكم (2006 ــ 2014)، استطاع نوري المالكي أن يبني دولته العميقة التي هي مجموعة المصالح التي تحوم حولها شبهات الفساد داخل الدولة العراقية الناشئة التي لم يكن إنشاؤها هدفاً بالنسبة إلى الأحزاب الشيعية المؤمنة بالوصاية الإيرانية. كانت هناك محاولات متعثرة للتقليل من ضغوط دولة المالكي بذلتها حكومتا حيدر العبادي ومصطفى الكاظمي لم تؤد إلى نجاح ملحوظ. ذلك لأن النظام الطائفي الذي أسسه الأميركيون لم يُقم على أساس احترام القوانين، وهو ما استفاد منه المالكي في تشريع القوانين التي تخدم إدامة دولته.
في ظل الاستقرار الأمني الحالي لا يعيد المالكي دولته إلى سابق عهدها في الهيمنة على الدولة فحسب، بل إنه ينهي الأمل في قيام دولة عراقية يكون القانون مرجعيتها ولا تكون المواطنة فيها محل شك. ولكن استقرار دولة المالكي لا يمكن الثقة به. ذلك لأنها دولة ميليشيات. فالمالكي اليوم لم يعد كما كان من قبل الحاكم المطلق فلا سلطة له على الميليشيات. وهو ما يعني أن الأرض باتت تحت قدميه ملغومة.