سؤال ١هل كانت الكتابة بالنسبة لكم بعد انطلاق الثورة في سورية حالة إبداعية مستمرة أم كانت محاولة للاستشفاء والخروج من أزمات الحروب المختلفة؟
ج-يرى كولن ولسن أن الكتابة الابداعية عملية شاقة مثل الصعود الى أعلى التل، يواصل فيها الأقوياء الصعود بتؤدة. وعلى هذا فهي عملية خلق مستمرة. تواطؤ مستمر للحركة. ماحدث هو أنه اختلفت الرؤية ،الدوافع، ربما الاسلوب، فما بعد انطلاق الثورة ليس كما قبلها بالتأكيد.
« في الحرب لم تعد أنت، تفاجئ بأشياء كنت تحسبها ثابتة، يدهشك أن تدرك أنها تتغير، وكم هي الأنا داخلك هشة، سهل اقتلاعها، أمام هجوم عاصف لتحولات كبرى فرضت نفسها بقوة » كتبت هذا في روايتي « تانغو الغرام » . وهي رواية تتورط بالدخول في عمق الكارثة السورية، التي تمثل مأساة شعب بكامله، لا تقف عند حدود التدمير الخارجي المباشر للمكان، بل تتعدى ذلك إلى التدمير الداخلي للإنسان
لقد وصلت الى هنا محملة بالكثير من الألم،مازالت أصوات الصواريخ ونيران القذائف وأخبار القتل والموت اليومي والرعب معششة في رأسي .
كان لابد من إيجاد عالم مواز يسند هذا الانكسار المريع. كتبت لأنجو، لأواجه نفسي أولاً والعالم الخارجي ثانيا. أخوض فيها حربي الناعمة مع ذاتي،أبحث عن جمال روحي، في بحر الكتابة العميق الغور. قدرتها عجيبة على انتزاع عوالم خفية من داخلي، لتبزغ بهدوء واطمئنان. يشجيني زقزقة عصفور صغير، ويشفي قلبي انبثاق وردة في الصباح.
السؤال ٢بعد النزوح إلى أوروبا حقق الاندماج مع المجتمع الجديد نتائج كثيرة واطلعت المثقفات. على الحركات النسوية في الغرب، ما تأثير تلك الحركات في تشكيل وعيكم الجديد لحقوق المرأة وكيف
ظهر ذلك في كتاباتكم
ج- من الصعب الحديث عن اندماج قد تحقق، مازالت المرأة العربية تحمل معها أثقال تربيتها، في مجتمع مغلق يرزح تحت وطأة فكر غبي يريد منها أن تكون على هامش الحدث.
أتحدث بالمطلق، فهناك دائما استثناء.
في ذات الوقت تبدو المرأة الغربية، امرأة حرة، قفزت إلى سقف العالم، أمسكت بتلابيب حقوقها، ولوحت لنا بها نحن نساء شعوب الدول المتخلفة.
لكن هل هذا حقيقة!…
كنت في دهشة، إذ وجدت أن الحركة النسوية هنا تقام لها الاجتماعات، وتفتح المنصات، وفي كل عام تقام مسيرة كبرى يخرج فيها النساء والرجال على السواء، بمشاركة كافة المنظمات الإنسانية، يحملون اللافتات الضخمة، كتب عليها عشرات الشعارات التي تنادي بحقوق المرأة، بعضهن خلعن حمالة صدورهن وبعضهن سرن عاريات احتجاجاً.
في بلادنا مازلنا نفتقر إلى الحد الأدنى لمفهوم الحرية، للرجال والنساء على حد سواء. نحن لانملك حتى حرية الحديث عن القضايا التي تشكل عصب الحياة اليومية، مثل الفساد والغلاء وانقطاع التيار الكهربائي! فكيف الحديث عن القضايا الكبرى مثل حرية الرأي والعدالة والسلطة والجنس و واختيار الشريك !
في حين مازال الجدل قائماً وبإصرار،على المنصات العامة لدينا، فيما إذا كان يحق للمرأة الخروج أو السفر دون محرم،أو الحق في اختيار شريك الحياة.
ومع هذا، هناك نساء رائعات في بلدنا، كسرنا حدة هذا التنميط، وبرزن في مجالات كثيرة، كنساء مثقفات، طبيبة ومعلمة ومربية وكاتبة، وأي امرأة لها حضور ورأي.
لست مع نغمة حركات النسوية،لم تغوني في الإبحار بعيدا معها، لكني لست مع الجدل الغبي الذي يستلب حق المرأة في كونها كائناً نبيلاً، أنا أكتب للمرأة وعن المرأة، لكني أكتب أيضا للرجل والمرأة على حد سواء. المشكلة هي في مجتمع متخلف يعاني من عدم التنوير.
سؤال ٣ يمكن القول أن الأدوات الفنية التي يستخدمها الكاتب، اختلفت بين ما تم اصداره قبل الثورة، وبين ماتم اصداره بعدها، اسلوب السرد، الشخصيات، هل ترون أن موضوع الحرب أثر في الأدوات الفنية في رواياتكم التي تم إصدارها بعد الثورة؟
ج- « الحرب وضعتنا أمام ذواتنا، قالت لنا بجلاء، هذا أنتم تفضلوا تعرفوا على أنتم » من تانغو الغرام .
ليس من السهل كتابة رواية متشظية بآلام الحرب، وعلى رأي همنغواي: « تبدو الكتابة سهلة إلا أنها في الواقع أشق الأعمال في العالم » فكيف إذا كان الحديث عن رواية ممسوسة بعذابات البشر.
النقلة هائلة، تأثير الثورة والحرب كان عميقاً، ليس فقط في التكوين الوجداني، بقدر ماهو في التأثير الفكري والثقافي
كان لابد من الخروج من القوقعة الذاتية، إلى فضاء أكثر شمولية وإنسانية، تقتحم المشهد الحيوي المتأجّج، وتسرد القهر والعنف، باستعمال. لغة سردية طرية وحارة، التي هي جوهر الرواية وسرها، واستخدام عنصر المكان ركيزة واقعية، واستلهام شخصيات
من قلب الحدث، الحدث الذي قد يقوم على مشاهدة بصرية قد حدثت. ربما تختلف الطريقة، لكل كاتب أسلوبه، سواء في استخدم اللغة المباشرة أو الموحية أو حتى الفانتازيا، وهذا اختلاف جيد يساهم في خلق رواية أكثر غنى وثراء.
سؤال ٤ أعطت الثورة مادة مهمة للكتاب،استطاعوا الاستفادة منها والاستلهام من معطياتها، أصبح لدينا روايات تنتمي إلى ما يمكن تسميته بأدب الحروب ، كيف حضرت الثورة في كتاباتكم، ما الغاية من هذا الحضور؟
ج- لا يمكن لمن يتخذ من الكتابة سلاحاً ناعما،البقاء في معزل، الواقع مكشوف اليوم، في كل مكان ثورة ونزيف وموت واعتقال وظلم وقهر، ورغم أن الربيع العربي لم يزهر وبقي ربيعا كابيا، إلا أن التكلفة كانت عالية، تكشفت عن وطن منكوب ومنهوب. وهكذا وجدت الرواية العربية والسورية بشكل خاص، نفسها في أتون هذا المشهد المأساوي.
ولقد فعلتُ كما فعل أغلب الكتاب، ماحدث كان ملهمي ورفيق دربي،انعكس على كتاباتي. في رواية تانغو الغرام قلت بلسان الراوية:
« قالوا لي، ابصمي هنا، امتثلت، بصمت هنا.هكذا أصبحت لاجئة. لاجئة تحت الحماية. لاجئة حتى إشعار آخر، لاجئة حتى يأتي يوم، ربما بعد سنوات طويلة، يرحل فيه من يرحل، يقرر العالم إنهاء لجوؤنا، هم وحدهم من ينهونه، لا يحق لي إنهائه على مزاجي، حتى لو مت من الحنين ، ليس مهما أن أموت، ما أنا إلا ملف صغير، مجرد “دوسيه” بين مئات الدوسيهات، قذفتها يد لامبالية، في قاع جارور كبير، يشبه براد الموتى، لأناس اختزلت حياتهم إلى رقم وملف ».
في مجموعتي النثرية /أنا التي لم أعد هناك/ الصادرة عن دار يافا العام 2020، كتبت عن سورية،عن الموت المجاني، المأزق الإنساني، الظلم والقهر، الزمن، الحلم.
وجدتُ نفسي أجلس على رصيف الغربة، أتطلع بحسرة إلى الوطن البعيد، من وراء الحدود، تؤرقني متتاليات ما حدث، تداعياته وعذاباته، والكثير من الأسئلة، القليل من الأجوبة المتناقضة تضج في رأسي، يوضحها ربما المعنى الموجود في مفردة معينة هي ‘العجز”.
وفي روايتي الجديدة قيد الانتهاء، التي سأسمّيها ،” إعصار عذب” ، كتبت على لسان من ركب البحرهارباً:
« كان لابد من الرحيل، لم يكن الأمر رحيلاً . كان هروباً في الحقيقة، ولقد هربت، ربما هو نوع من التشبث بالحياة، أو الرغبة بالموت في مكان آخر بدلاً من التعفن بالمعتقل، فمن الأفضل أن أموت موتاً عاطفياً يستحق الرثاء، أو قد يحمل معنى البطولة، ولقد كاد أن يحدث،وكما فعل أغلب السوريين، ركبت البحر اعتباطاً مع آخرين، عصف بنا الموج المكار، وانزلق بنا المركب نحو الأعماق،و تأرجحت أرواحنا، فلم نعد ندري إن كنا مازلنا أحياء أم بتنا مع الأموات! ولقد مات البعض،غرقوا بصمت، فضلوا الهزيمة أمام الموت على قهر المنفى، لكن الموج انحسر فجأة، وأشرقت الشمس بنور ربها، وعادت النوارس تخفق بأجنحتها وتحلق فوقنا.
لقد نجوت! قلت لنفسي. »
سؤال ٥ ظهر التغني بالوطن وحب الوطن كيف تجسدت الحالة النوستالجية في التغني بالحنين والغربة عن الوطن ، يمكن الحديث عن تجربة شخصية
ج- أنا منخرطة الآن في كتابة رواية أكاد أنتهي منها. أبحث عن ذاتي في بلد أحاول أن أنتمي إليه، أجعل من نفسي موضوعا للتجربة والبحث. كيف أواجه تحدي حياة وثقافة ولغة مختلفة؟ كيف يمكنني تجاوز مشكلة الاختلاف؟ ثم هل يمكن تجاهل مسألة الحنين؟ كيف أكون موضوعية أمام مدينة تبهرني بجمالها، وأنا أسيرة قوانينها، قد لا أنصفها، حين أعتبرها محنة، محنة تكشف عن العوز الأبدي الذي يلازم الغريب، الذي انتقل الى فضاء غير فضاءه، والذي يغدو ضيفا في ضيافة الغربة. في مدينة ساحرة الجمال.
« يتوجب عليّ أن أتعلم كيف أحب بيتي، ربما أستطيع وقتها أن أترنم برومانسية،أنني لم أعد في ضيافة الغربة، وأتبجح بمرارة أنني في وطني البديل، وأفرج عن أشيائي المحشورة في حقائبي،عساها تمنح المعنى للزمن البطيء، والدفىء للأسقف الصماء . أخاف أن يأكلها العفن فأنسى،أنها بعضاً من تاريخي وحكاياتي وذكرياتي، بيتاً علي أن أتعلم كيف أحبه. » من روايتي الجديدة ، إعصار عذب.
سؤال ٦ كيف ترون واقع الكتابة النسائية في سورية الآن ، كيف تستشرفون مستقبل الكتابة النسائية في سورية بعد سلسلة التحولات التي طرأت على الكتابة والكاتبات ؟
ج- حققت الرواية السورية منجزا كبيرا، وشهدت في العقد الأخير انفجارا في الإنتاج. الملفت للنظر أنّ القلم النسائي برز بجلاء، يمكن ملاحظة هذا في جائزة البوكر العربية لهذا العام، أغلبية الروايات الفائزة كتبتها نساء. اثنتان من سورية. ليس هذا مؤشر وحيد،أغلب الروايات الصادرة في العشرية الأخيرة، كتبتها نساء، كان لابد من الخروج من القوقعة الذاتية، وكسر التابوهات المحرمة الى فضاء أكثر شمولية وإنسانية،منهنّ من اعتُقلت وخُطفت وغيّبت.
و منهن حملن رحالهن، اجتزن الطرقات الصعبة، وجلسن على رصيف الغربة، يكتبن عن الوطن من وراء الحدود. روايات متشظية، بمواضيع الانتماء، والهوية، ومأزق الوطن البديل، جريئة في لغتها وتجربتها
ربما ينتقد البعض هذا الانفجار في الإنتاج والتساهل من قبل دور النشر لمن يدفع، خوفاً من أن تدفع الرواية الرديئة، الرواية الجيدة وتتصدر المشهد. عملاً بالمثل القائل « العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق » وهذا صحيح إلى حد ما، لا يمكن نكران هجمة الرواية الرديئة في غمرة وفرة الإنتاج، وتأثيرها على التذوق الفكري والأدبي العام، لكن هل يدوم هذا؟ بالتأكيد لا. هي موجة ستختفي حين تلامس أرض الشاطئ، في حين تفرض الرواية الجيدة نفسها في النهاية وتبقى.
وأختم بالآية الكريمة
« فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ».