كاميران حوج

 

مرة تلو الأخرى يعود سليم بركات إلى رقعة الشمال، يستخرج من قلبها ما هو قلبها، تنوعَها والبطشَ الذي استبدت بها منذ أن طغت على البقعة الجغرافية تلك نظم لا تطلب إلا الواحدية الخالدة رغما عن كل “الموزاييك” الموجود هناك.

كما في سيرته، تبدأ رواية “ماذا عن السيدة اليهودية راحيل؟؟” (هكذا بإشارتي استفهام) بسيرة العنف: “كم ستدوم هذه الحرب؟”، وكما في سيرته المنثورة بلسان طفل، يطرح السؤال طفل، لا لأنه يتفكر في قضايا كبرى، إنما ليحق له أن يمارس حياته المعهودة، خلافا لأوامر تغلق الحياة في وجه الكائن البشري الصغير سنا، موسى المدمن على السينما وأفلام الغرب الأمريكي، الذي يود أن يشاهد فيلم حمى الذهب لشارلي شابلن. بينما تصير حرب الأيام الستة ذاتها إنقاذا لأخيه كيهات من المدرسة الكريهة.

تعيش عائلة اوسي، زوج وولدان وجنين، في حي تعيش فيه خلائط من البشر عرقا ودينا وطائفة حالة سلم وجيرة، غدا “موضعا قويّ الأسس بقاطنيه من الكرد والعرب، والسريان، والأرمن، والآشوريين، واليهود، تحت ظل اسمه القامشلي” (ص 14)، وفي هذا الموضع تتمظهر علامات الحرب بتكاثر “رجال من المخابرات بمسدساتهم الظاهرة تحت القمصان المرخية” وإقفال “الحوانيت في الحي اليهودي منذ البزوغ الأول لأخبار الحرب على المدينة”.

يتابع بركات حيوات شخصياته التي تتداخل كم تتداخل شوارع المدينة وسكانها. أوسي، مكتوم الجنسية حسب أحكام المتسيدين الجدد، يعمل في شركة الكهرباء ويتابع أخبار الحرب من مذياعه، بينما يغتلم قلب ابنه البكر، كيهات، ليقترب من ابنة السيدة اليهودية راحيل، لينا، لأنه “منذ يومه ذاك، الذي أرعش الوتر الأول، الدافئ الرنين في قيثارة دمه الفتي، توكّل كيهات … أمر الشراء بنفسه من حانوت راحيل” (ص 52). ويجد فرصته في تقديم خدماته يوم السبت للعائلة على غرار زميلين له، مسيحي وعربي، بعد أن يسمع منهما أن أولئك اليهود يتوقفون عن كل فعل في يومهم المقدس وأنهم بحاجة لمن يعينهم في شؤون الحياة. ولكنه حين يطرق باب “الست” راحيل مرة، يتعرض له أحد رجال المخابرات ويستنطقه إن كان يهوديا، ولما يرد كيهات أنه كردي، ندخل مشهدا سينمائيا ساخرا، بين ذهول واستنكار، حيث كيهات “الشاحب في الموقف، مخذولا من بديهته الرديئة أوقعته في مأزق” (ص 39). ولكن الطارئ من تغيرات على الحياة السهلة لا يتوقف عند الكردي كيهات، الذي يسأل الجارة المسيحية كاتيا بعد سماع أغنية فريد الأطرش “قد تآخينا صلبيا وهلالا” عن معناها، فترد “دولتنا أمنا. نحن إخوة وأخوات” … “ماذا عن الست راحيل؟ … لماذا لم يجد لها أغنية فريد الأطرش مكانا لها بين الهلال والصليب؟”، سألها كيهات …. “هي يهودية … هم قتلة المسيح” (ص 101). حين يزور كيهات راحيل ليعينها في تجاوز محرمات دينها يلاحظ عمق المأساة التي حلت عليها: “أحس كيهات لسعة في قلبه: ثمت شيء مكسور في الهواء المكسور. تركت الحرب نثار زجاجها الشظايا فوق كل شيء وتحته.” (ص 155).

وبعد انتصار الصوت رغم أن “هُزِم الجيش. قُضِمت من خريطة الأمصار العربية أمكنة، وتضاريس، وأجزاء من السماء” (ص 126) يعتقد موسى أنه هو المنتصر الأكبر وسيتردد من جديد على دور السينما رفقة أخيه، لكنه يصدم بانتصار من نوع آخر. أمام سينما شهرزاد الصيفي يفاجآن بلوحة جديدة عليها إعلان عن فلم “ألف ليلة وليلة” بطولة وحش الشاشة، فريد شوقي. لن يعرض إذن فيلم شارلي شابلن، فـ”لا أفلام أمريكية في سوريا، يا حلو. لا أفلام من البلدان الصديقة للصهيونية في سوريا؟” (ص 146)، و”كحجارة الطيور الأبابيل …. ألقيت من السماء، تعويضا عن أفلام الغرب، أفلام هندية في دور السينما” (ص 184).

عقب الحرب تظهر شخصية “صاحب الطربوش الأحمر” الذي يحمل دفترا “بعناوين الكثير من البيوت في الحي، وعدد سكانها. إنه يتفقد وجود أصحابها فيها” (ص 232). ويفاجأ كيهات بتردد بنيامين على منزل راحيل برفقة بدوي اسمه نبهان، يزعم أنه سيساعد أيام السبت، الأمر الذي يحير كيهات، بعد أن “يتردد اسم شخص من عشيرة طي … في اختفاء يهود … له أقرباء في استخبارات الدولة” (ص 323). كيهات الخائف على فقدان معشوقته يشعر بغيرة من نبهان ويقرر أن يعلن لها الحب، ويطلب من أصدقاء يهود كتابة كلمة “أحبك” بالعبرية ليوصل رسالته أخيرا إلى لينا، بعيدة المنال:

“-متى ستردين على رسائلي، يا لينا؟

-أية رسائل، يا كيهات؟ متى أرسلتها؟

-لم أرسلها بعد، يا لينا.” (ص 493).

وفي هذه الأثناء يفصل الأب، اوسي، من العمل بسبب حماقة يرتكبها ابنه موسى في المدرسة، حيث يكتب على اللوح: “”عاش شارلي شابلن، قائد أمة السينما الواحدة” (ص 402)، ويفصل مدرس الفن من العمل لأن تلميذا يشي به، وتأتي الموافقة على هجرة عائلة بوغوص إلى أرمينيا.

وحين يتجرأ كيهات أخيرا ويقرر البوح بمشاعره للينا، يتجه إلى نحو بيتها ليشاهد “ثلاثة رجال من استخبارات الدولة بقمصانهم المرخاة على مسدساتهم، وبنظارات سود على العيون. رجل الطربوش الأحمر. ثلاثة رجال وامرأة من الواضحين يهودا في مظهرهم، والشاب البدوي نبهان. كلهم كانوا أمام بوابة راحيل المفتوحة.” (ص 551). يبدو أن نبهان عمل على تهريب العائلة من سوريا. ويتعرض كيهات لنكسته الخاصة، يمضغ الورقة التي كتب عليها “أحبك” بالعبرية ويجعلها علكة، ربما خوفا من المخابرات المترصدة له، ويدفنها كجنين عزيز، كما دفنت أمه جنينها بصورة مجهولة بعد أن أجهضت، ويردمها بالتراب، لتنتهي الرواية بجملة: “بكى كيهات”.

سليم بركات: ماذا عن السيدة اليهودية راحيل؟، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2019.