ما يشبه التعريف:
إنْ شئتُ الحديث عن المشي كفلسفة حياة، أقول أول ما أقول إنه حركة مدموغة بالأمام..الحركة بوصفها فضيلة الحياة وماهيتها وجوهرها التي منها تنبع السعادة.
ليس المشي بالنسبة إليّ مجرّد هواية أمارسها، بل حاجة أتخفَّف من خلالها وأتدفَّق. يكفي أن أمشي حاملةً حقيبة يد لا تحتوي سوى على بطاقة هوية شخصية، وزجاجة ماء، بالإضافة إلى عائلتي الحميمة: القلم والدفتر والكتاب والمرآة الصغيرة؛ حتى أتحول إلى ريشة.
أحبُّني مشّاءة ومعلمي الهواء الطلق..الهواء الحر الذي لا يحرص على أن تكون له الكلمة الأخيرة ـ الفصل. في المشي أتحرر وأتصالح وأستغني وأتخلى، وتنبع الأفكار حتى من الأقدام وتحديداً من رؤوس الأصابع…يصير العالم درَّاجة هوائية، معها تزداد القدرة على التركيز على الهدف وتعلو الروح وتسمو، ويُهيأ إليَّ أن الدراجة الهوائية هي من أعظم الاختراعات البشرية!
******
في المشي، أشرد شروداً خصباً لا ضغط فيه ولا منافسة، بل استسلام لذيذ لصفاء الروح. تنبع الأفكار وتتدفق..أفكار غزيرة غزارة الأمطار في عزِّ شتاءٍ قارس، لا أكتب منها سوى القليل. بل حتى هاتفي النقَّال يشقّ عليَّ إخراجه من جيبي لالتقاط الصور، ذلك أني أريد عيش اللحظة فقط، لا تحنيطها، وأفكر بأولئك الفلاسفة الموجودين “من خلال”، فبعض الفلاسفة، هم فلاسفة “من خلال” ما يكتبونه. أي “من خلال” نصوصهم الفلسفية ومفاهيمهم الخاصة، النظرية المجردة، المضمَّنة في هذه النصوص. وبعض الفلاسفة يعيشون الفلسفة ويحيونها من غير كتابة ولا نصوص مدوَّنة. أعتقد أن عيش الفلسفة أهم من كتابتها، وأن الفيلسوف الذي يكتب الفلسفة من غير أن يعيشها في حياته ليس فيلسوفًا حقيقيًا. الفيلسوف الكاتب، أو الكاتب الفيلسوف هو فيلسوف “من خلال”، أي أن النص هو الذي يمدّه بوجوده كفيلسوف. أما الفيلسوف الذي يكابد الفلسفة عيشاً، فهو فيلسوف موجود بذاته وليس “من خلال”. ليس “من خلال” شيء آخر موضوعي، خارج ذاته وكينونته كفيلسوف حقيقي، أو لنقل كمتفلسف حقيقي، ذلك أن التفلسف ليس شيئاً ناجزاً، ولا محنَّطاً وغير متحرك، بل حركة حرة، متجددة دائمة ومستمرة من الإبداع، كحركة الحياة واستمرارها. والحركة بركة كما يُقال.
*******
أتحرر في المشي من تلك القصدية الشريرة التي تسم الإنسان فقط، فالإنسان هو الكائن الوحيد في الحياة الذي يمكن أن يوصف بالخير وبالشر. لماذا؟ لأنه ببساطة هو الكائن الوحيد الذي يقصد ويبتغي. أساس الخير والشر هو القصد. لذلك لا يمكن وصف حيوان ما أو الريح أو الشجرة لا بالخير ولا بالشر، لأن هذه كلها لا تقصد ولا غاية لها.
أتحرر وأفكر في المشي كخالق للسعادة…السعادة التي هي ـ بالنسبة إليّ ـ قلة الاحتياج إلى الآخر، والاستغناء إلى أقصى حد ممكن. قلتُ قلة الاحتياج وليس انعدامه، لأن شرط الوجود، الشرط الذي منه تنبع مأساة الإنسان وشقائه، هو الاحتياج للآخر. لكن إن حقق المرء استقلالية ضامنة للاستغناء بنسبة كبيرة، فسيكون هذا بمثابة إنجاز عظيم. والاحتياج يشمل كل شيء، ولا يكون فقط مادياً.. وعليه، فالاستغناء ينبغي أن يشمل أيضاً كل شيء. تُحقق الوحدة (لا العزلة)، الاستغناء إياه، وبالتالي السعادة.
أن تكون وحدك، بعيداً من ضجيج الاحتياج إلى الآخر…أن تكتشف وحدك، تكتشف نفسك والعالم…أن تقرأ وحدك…أن تتعلم وحدك…أن تعمل وحدك مع أنك مع كثيرين…أن تشكل قناعاتك لوحدك وأن تستنتج لوحدك وتفكر لوحدك…أن تمشي وحدك… أن تكون عِصامياً إلى أبعد الحدود.

