منذ نشره أعماله الأدبية الأولى عند السنوات الفاصلة بين الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين، راح اسم الكاتب الإيطالياينلو كالفينو (1923 – 1985)، يبرز بوصف صاحبه واحداً من كبار الكتاب في إيطاليا وبوصف أعماله تحمل الجديد في المواضيع والأسلوب، ما لم يكن له سابق في الحداثة الإيطالية، ومن الغزارة ما يتنافس مع قلة عدد الصفحات التي يكرسها الكاتب لنصه في كل رواية جديدة من رواياته. غير أن اللافت كان إصدار الكاتب في بداية مساره الأدبي تلك الثلاثية التي أمنت له على الفور شعبية كبيرة، بخاصة أن واحداً من أجزاء الثلاثية قد فاز بجائزة “إينودي” المرموقة مناصفة مع السينمائي بيار باولو ، الذي كان ملء السمع في إيطاليا تلك المرحلة ككاتب، ولكن أيضاً كسينمائي، ما وفر لكالفينو على الفور مكانة لا يحلم بها كاتب في بداياته. فإذا أضفنا إلى ذلك كيف أن النقاد قد قارنوا من فورهم بين أجزاء الثلاثية بشكل عام وبين نص الفيلسوف الفرنسي فولتير “كانديد” الذي ينظر إليه عادة كنموذج متميز للرواية الفلسفية، يمكننا أن نفهم ضخامة المكانة التي راح كالفينو يتمتع بها منذ بداياته وهو بعد شاب يطرق درب الأدب الروائي بشكل غير متوقع. والحقيقة أنه لئن عُرف هذا الكاتب حتى رحيله، بصمت مدهش يلف كتاباته ويحول بينه وبين الاستفاضة في شرحها تاركاً إياها تتحدث عن نفسها بنفسها، فإن ما لفت الأنظار حقاً في آخر ما صدر حتى الآن بتوقيعه من كتب (وهو مجلد يضم مئات الرسائل التي كان يوجه معظمها إلى أمه، وصدر قبل أسابيع قليلة)، إسهابه في تلك الرسائل في الحديث عن نفسه وعن أدبه ومشاريعه في هذا المجا
حكايات لا تصدق
المهم أن من أول أعمال كالفينو كان تلك الأجزاء الثلاثة من “ثلاثية أجدادنا” التي أصدر جزءها الأول “الفيكونت المفترى عليه” في عام 1952 ليليه بعد خمسة أعوام جزء معنون “البارون المعلق” (1057) ثم بعد ذلك “الفارس غير الموجود” في عام 1959. ولئن كانت قصص تلك الثلاثية منفصلة عن بعضها بعضاً وتبتعد في أحداثها عن بعضها بعضاً زمنياً، فإن ما يجمع بينها هو أولاً غرابة الموضوع، وأحياناً استحالة تصديقه، وبعد ذلك كونها وكل على طريقتها، قصصاً فلسفية تحاول أن ترسم صورة لعلاقة الإنسان بالمجتمع والآخر غارقة في الحديث عن الصراع بين الخير والشر، بين الحقيقة والخيال، بين العقل والجنون، كما بين الحاضر والماضي. وذلك من خلال تلك الشخصيات التي اختارها الكاتب كتعبير عن أوضاع استثنائية، الفيكونت والبارون والفارس. علماً بأنه فيما تدور أحداث الجزأين الأولين في القرن الثامن عشر وما يليه، تدور أحداث الرواية الأخيرة في زمن شارلمانيْ، غير أن ما لا بد من قوله هنا، هو أن ذلك التوزيع الزمني يكاد لا يعني شيئاً على الإطلاق إذ إنه ليس أكثر من تأطير تاريخي لأحداث يمكن أن تتموضع في أي زمن من الأزمنة. فمن هم أصحاب تلك الشخصيات “المميزة” التي نجدها أمامنا منذ عناوين الحكايات ويحمل كل منها لقبه كمدخل لتعاملنا معه؟
نصفان لرجل شجاع
الأول هو الفيكونت ميدارد دي تيرالبا الفارس المحارب الذي إذ يخوض الحرب ضد الأتراك تتمكن قنبلة مدفع من شطره نصفين سرعان ما يعود كل منهما منهياً حربه ليعيش حياته الخاصة مستقلاً عن النصف الآخر. لكن ذلك الاستقلال لا يمنعهما من أن يبدوا “متكاملين” بالنظر إلى أن نصفاً منهما يمثل كل أنواع الخير والطيبة والتفاني في التعامل مع البشر، فيما يمثل النصف الثاني كل أنواع الشر والخبث والعداء للإنسانية. ومن الواضح أن ما أراد كالفينو التعبير عنه هنا إنما هو تلك الطريقة في فصل الجانبين الماثلين دائماً لدى الإنسان، كل إنسان، من حيث أن الجانبين موجودان قد يغلب واحد منها الآخر تبعاً للظروف وموازين القوى، لكن هذه الرواية جردت كلاً من النصفين من إمكانية الخلط بينه وبين النصف الآخر لترصد الكيفية التي سيعيش بها كل منهما وما سيكون مصيره. أما ذلك الرصد فإننا نعايشه من خلال السائس الذي يعمل في خدمة الفيكونت من جهة والذي كان رافقه خلال خوضه القتال، وها هو يرافقه اليوم خلال الصراع “الفلسفي” الذي يدور بين نصفيه، كما من خلال هيامه بالراعية الحسناء باميلا في مرحلة متقدمة من مراحل الرواية. وطبعاً لن نشي هنا ببقية الأحداث، لكننا سنحدد أن الصراع لن ينتهي لأنه على أية حال الصراع الأبدي بين الخير والشر الذي يعترف لنا كالفينو من خلال نصه القصير هذا بأنه ليس صراعاً يتوجب العثور على حل له، بل صراع هو جزء من كينونة الإنسان، مستنتجاً فقط بأن لا وجود حقيقياً للإنسان وفرادته في هذا الكون من دونه، مؤكداً أن وجود الشر وحده وتفرده أمر غير إنساني، بالتالي مستحيل. وكذلك الحال مع وجود الخير وحده، بالتالي فإن الفيكونت لن يعود إلى الوجود إلا حين يعود نصفاه إلى الالتقاء.
ساكن الشجرة
البارون في القصة الثانية “البارون المعلق” لا يخوض هنا حرباً، لكنه يخوض تجربة جديدة في موقف يتخذه من المجتمع: إنه ذات يوم يتسلق شجرة ضخمة ويقرر ألا ينزل عنها إلى أرض البشر من جديد إلا حين يلاحظ أن ثمة ما يغريه بذلك النزول، لكنه يمضي حياته هناك غير قابل ولا مقتنع طبعاً بأن ثمة ما يستدعي منه تلك العودة. وهنا أيضاً لن نقول كيف سينتهي الأمر، لكننا سنشير إلى أن محاولات إعادة البارون المعلق إلى “عقله” وإلى الأرض تحت الشجرة لن تتوقف وخلال تلك المحاولات سنتلمس كل أنواع التقلبات الاجتماعية التي يعايشها البارون وذووه الذين باتت “استعادة البارون عقله” كما يرون، شغلهم الشاغل، في مقابل قراره هو بألا ينزل إليهم إلا حين يستعيدون هم بدورهم عقولهم، هنا أيضاً، بالتالي، نجدنا أمام رواية فلسفية يحاول كالفينو من خلالها حسم أمره ورسم معالم الطريق بين العقل والجنون معتبراً في نهاية الأمر أن البشرية لا يمكنها أن تستغني عن أي من التوجهين لأنهما معاً جزء مكون من تميزها في هذا الكون.
دروع فارغة
وهو ما يقودنا بالطبع إلى البعد الثالث الذي قد يكون في إمكاننا القول إنه سمة رئيسة تطغى على الرواية الثالثة “الفارس غير الموجود” التي تدور أحداثها على خلفية الثورة الفرنسية، وهي بدورها تتعلق بفارس أراد خوض حرب غايته منها أن يكشف عمن قتل أباه خلال معركة سابقة كي ينتقم منه، لكنه إذ يجد نفسه محاصراً يتم إنقاذه من طريق فارس ملثم، لكنه سرعان ما يكتشف أن المنقذ فارسة امرأة. لكنه حين يقع في هواها يكتشف أنها لا تبالي به، بل هي مغرمة بذلك الفارس الشجاع المدرع من رأسه إلى قدميه، وفي النهاية نكتشف مع شخصيتي الرواية هاتين أن هذا الفارس لا وجود له داخل الدروع الخالية، إنه الفارس غير الموجود، إنه وهم الفروسية ووهم الشجاعة. ومرة أخرى هنا لن نكشف عن بقية الأحداث، لكننا نستشف صورة تكامل ما هنا، مع الدلالات الفلسفية التي تطبع كلاً من الروايتين السابقتين من منطلق أنه مقابل المجابهة بين الخير والشر في الأولى، ومقابل المجابهة بين العقل والجنون في الثانية، ها نحن هنا في هذا الجزء الأخير من “ثلاثية أجدادنا” نجدنا في غمرة المجابهة بين الواقع والخيال وتحديداً من خلال الوهم الذي نعيشه، الوهم الذي يمثله فعل الإبداع والخلق على أية حال، أي الفعل الذي أراد منها إيتالو كالفينو أن يكون كناية عن لزوم الفن كحيز لعالم الوهم في حياتنا… ولا شك أنه لم يكن من قبيل الصدفة أن يجعل الكاتب الإيطالي الكبير هذا، من ميدان نشاطه الإبداعي خاتمة منطقية لعالم هذه الثلاثية التي حددت طريق كتابته منذ بداياته التي تواصلت عبر كتب عديدة ظلت على أية حال تحوم من حول تلك البدايات معطية إياه مكانة فريدة في الرواية الحديثة.