Sara Gironi Carnevale

كانت الحرب الوحشية بين إسرائيل و”حماس” في قطاع غزة سببا في دفع الشرق الأوسط الكبير إلى مرحلة جديدة عنوانها الخطورة والغموض. وقد أدى هجوم “حماس”، في 7 أكتوبر/تشرين الأول، إلى مقتل عدد من الإسرائيليين فاق عددهم أعداد جميع القتلى الذين سقطوا في السنوات الأربع الأولى من الجانب الإسرائيلي في الانتفاضة الثانية: 2000 – 2005. كما تجاوز عدد الفلسطينيين الذين قتلوا في الأسابيع الأخيرة من الغارات الجوية الإسرائيلية على غزة عدد الذين فقدوا أرواحهم في جميع الصراعات الدائرة بين الطرفين منذ الانسحاب الإسرائيلي من غزة عام 2005.

أما سلسلة ضربات من قبل حزب الله والجماعات الأخرى المرتبطة بإيران، في جنوب لبنان وسوريا، بالإضافة إلى الهجمات والتهديدات المتزايدة ضد الوجود العسكري الأميركي في الشرق الأوسط، فإنها كلها تنذر بإشعال حريق سيكون أوسع نطاقا.

ولا أحد يعرف كيف سينتهي كل ذلك… ولكن الحلم بشرق أوسط جديد، الذي كان يهيمن منذ حين على جميع المحادثات الجارية حول هذه المنطقة، يبدو أنه سيبقى بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، مجرد حلم؛ سواء كان اتفاق التطبيع السعودي- الإسرائيلي، أو الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا الذي أُعلن عنه في قمة مجموعة العشرين بالهند، في وقت سابق من هذا الخريف، أو الجهود الرامية إلى تخفيف التصعيد في منطقة الخليج وأجزاء أخرى من المنطقة. كل ذلك صار الآن في مهب الريح.

تراجع الشرق الأوسط

خلال أول عامين ونصف العام من عمرها، خفضت إدارة بايدن من أولوية صياغة سياسة أميركية في الشرق الأوسط، تحت تأثير التحديات المحلية الضاغطة التي واجهت الولايات المتحدة عندما تولى الرئيس جو بايدن منصبه عام 2021، بدءا من جائحة “كوفيد-19″، وانتشار البطالة، ومجموعة من الأولويات المحلية الأخرى، مثل معالجة القضايا المتعلقة بالصين، وتغير المناخ، وانتهاء بالصراع الروسي في أوكرانيا. ونتيجة لذلك، احتل الشرق الأوسط مرتبة متأخرة في جدول أعمال الإدارة.

وكانت لزيارة الرئيس بايدن إلى إسرائيل والمملكة العربية السعودية في يوليو/تموز 2022 دوافع خارجية، حيث أدت الحرب القائمة في أوكرانيا إلى زيادة كبيرة في أسعار الطاقة، تزامنا مع فترة كان فيها بايدن يعاني من انخفاض معدلات الموافقة الشعبية عليه، مدفوعا جزئيا بالمخاوف بشأن التضخم وقضايا أخرى. وقد دفع هذا الأمر الإدارة إلى التعامل مع دول الشرق الأوسط.

 

 

قبل اندلاع الصراع في الشرق الأوسط، كانت إدارة بايدن تكثف مبادراتها الدبلوماسية في المنطقة، فتركزت جهودها على تعزيز “اتفاقات أبراهام” 2020، وتوسيع مناطق التطبيع والتكامل الإقليمي. وكانت الرؤية الطموحة لـ”كتاب الجوانب الإيجابية” تهدف إلى صياغة اتفاقات سلام جديدة، وتسهيل الاتصال الإقليمي من خلال مبادرات مثل شبكات الطرق والسكك الحديدية، ومشاريع الطاقة الخضراء، وتعزيز الشراكات الاقتصادية. ومع ذلك، كان لا بد من وضع هذه الرؤية الموسعة جانبا مؤقتا. وكان مصدر القلق الفوري والحرج هو الأزمة المستمرة في الشرق الأوسط، والتي تتطلب اهتماما عاجلا من كل من الولايات المتحدة والمجتمع الدولي.

وفي ذلك الوقت كانت الفكرة الرئيسة هي خلق فرصة جديدة للخروج من الوضع المتوتر وغير المريح في الشرق الأوسط، من خلال اتفاقات السلام والتطبيع التي من شأنها توحيد المنطقة، وجعلها أكثر ارتباطا بعضها ببعض، من خلال بناء الطرق والقطارات وتعزيز البنية التحتية للطاقة الخضراء، وزيادة التجارة. وقد توقف ذلك كله جراء الوضع الراهن، بينما تجد الولايات المتحدة ودول العالم نفسها أمام مواجهة نار مشتعلة تهدد بالانتشار على نطاق أوسع.

 

خمس أولويات

هناك خمس أولويات جديدة للسياسة الأميركية تجاه أزمة الشرق الأوسط الراهنة؛ حيث سارعت إدارة بايدن إلى التحرك، مباشرة بعد هجوم “حماس” في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، في سياق رد فعل على الحرب التي بدأتها “حماس”. وسرعان ما قفزت إلى أسلوب إدارة الأزمات التكتيكي القائم على رد الفعل، والذي يمثل في كثير من النواحي منطقة الراحة لسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط عبر الإدارات المتعاقبة، سواء كانت ديمقراطية أو جمهورية. ويبدو كما لو أن إدارة الطوارئ هذه تقع في منطقة الراحة الأميركية، عندما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط، بدلا من القيام بدور أكثر استراتيجية واستباقية.

وقد أرسل الرئيس بايدن المزيد من المعدات والمرافق والأفراد العسكريين وكبير دبلوماسييه، أنتوني بلينكن، إلى المنطقة في الأيام التي تلت الهجوم، وطلب تمويلا إضافيا لتقديم مساعدات عسكرية إضافية لإسرائيل.

سافر بايدن نفسه إلى منطقة الحرب في إسرائيل لإظهار دعمه حق إسرائيل في الدفاع عن النفس، بينما تم إلغاء اجتماع كان مقررا عقده في الأردن مع الملك عبدالله ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، والرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بعد جدل حول هجوم مريب على مستشفى في غزة.

وفي الأسبوعين الأولين من حرب الشرق الأوسط الجديدة هذه، حددت إدارة بايدن خمسة أهداف في سياستها:

  • دعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها وتحقيق هدفها المتمثل في القضاء على التهديدات التي تشكلها “حماس” والجماعات الأخرى.
  • تأمين العودة الآمنة للرهائن والمواطنين الأميركيين المحاصرين في غزة.
  • منع نشوب حرب إقليمية أوسع نطاقا.
  • حماية المدنيين والاستجابة للأزمة الإنسانية المتفاقمة في غزة.
  • الحفاظ على علاقات عمل قوية مع الدول العربية وغيرها من الجهات المعنية بإدارة التداعيات والتخطيط للمستقبل.

وفي سعيها لتحقيق التقدم على كل من هذه الجبهات الخمس، تشهد إدارة بايدن بالفعل توترات بين تكتيكاتها التي تستخدمها لتحقيق التقدم نحو كل من هذه الأهداف الخمسة. وتعد إحدى المهام الأساسية في اجتياز لحظة الأزمة هذه، هي التوفيق بين التوترات الموجودة أو التي قد تنشأ في محاولة تحقيق النتائج.

 

وعلى سبيل المثال، فإن الدعم الأميركي للحملة العسكرية الإسرائيلية ضد غزة يجعل بالفعل هدف حماية المدنيين، وتقديم المساعدات الإنسانية، والحفاظ على علاقات جيدة مع الشركاء العرب أكثر صعوبة. وقد اتخذ كثير من أقرب شركاء أميركا العرب موقفا يدعو إلى وقف إطلاق النار أو وقف التصعيد، وهو ما ترى إدارة بايدن وإسرائيل أنه يتعارض مع هدف القضاء على التهديدات التي تشكلها “حماس”. وقد طلبت إدارة بايدن، من أجل دعم حق إسرائيل في الدفاع عن النفس وعملياتها العسكرية الهادفة للحد من تهديدات “حماس” والقضاء عليها، طلبت مساعدة إضافية بقيمة 14 مليار دولار لإسرائيل كجزء من حزمة أوسع بقيمة 105 مليارات دولار، تشمل دعم أوكرانيا وغيرها من أولويات الأمن القومي، المتضمن دعما لإسرائيل، بقيمة 10 مليارات دولار لدعم الدفاع الجوي والصاروخي وتجديد مخزون الأسلحة الأميركية الذي يتم سحبه لدعم إسرائيل.

 

أهداف متنافسة

وفي الأسبوعين الثاني والثالث من الصراع، كانت هناك حالة أخرى من التوتر الناجم عن الأهداف المتنافسة؛ فقد كان هناك هدف تأمين إطلاق سراح أكثر من مئتي رهينة، وهو ما اصطدم بشكل مباشر مع الحملة العسكرية الرامية إلى القضاء على التهديد المباشر الذي تفرضه جماعات مثل “حماس”، و”الجهاد الإسلامي” في فلسطين، والتي كانت تطلق الصواريخ بشكل متكرر على إسرائيل. ربما تكون إسرائيل قد أرجأت هجومها البري المتوقع لإتاحة المزيد من الوقت لمفاوضات الرهائن بقيادة قطر ووسطاء إقليميين آخرين.

وقد يكون التوتر الأكثر أهمية هو المتمثل في دعم الأعمال العسكرية الإسرائيلية في إطار حقها في الدفاع عن النفس، ومنع نشوب حرب إقليمية أوسع نطاقا؛ ففي الأيام الأولى من الصراع شنت إيران وشبكتها من الميليشيات المسلحة التابعة لها، ضربات في جميع أنحاء المنطقة ضد إسرائيل والولايات المتحدة. وقد أعفى محور إيران، لغاية الساعة، شركاء أميركا العرب في الأغلب من هذه الضربات، بينما ردت كل من الولايات المتحدة وإسرائيل بالمثل على مثل هذه الهجمات. ولكن أحد المخاطر الكبرى التي تواجه المنطقة  أن النيران المشتعلة في أخطر المناطق، إسرائيل وغزة، قد تمتد إلى أجزاء أخرى.

ربما ستكون المحادثات الجارية بين دول الخليج العربي وإيران أحد أكبر العوائق أمام تصعيد إقليمي أوسع، لكن لا يزال من غير الواضح، في هذه اللحظة، ما إذا كان من الممكن احتواء هذا الصراع. وفي الوقت الحالي، فإن الأحداث في المنطقة هي التي تصوغ السياسة الأميركية، وليس الداخل الأميركي.

انقسام أميركي

ولا تزال الولايات المتحدة منقسمة حزبيا وسياسيا بشكل حاد، بشأن أغلب القضايا هذه الأيام، حيث لا تزال العقلية الطائفية التي هيمنت على السياسة الأميركية لعدة سنوات متماسكة. ولا يزال الوقت مبكرا في حرب الشرق الأوسط هذه، لكن أغلبية كبيرة من الأميركيين تدعم تصرفات إسرائيل ضد “حماس”، وتدعم أيضا تصرفات أميركا حتى الآن.

 

وفي استطلاع للرأي أجري مؤخرا قال 76 في المئة من الأميركيين إن دعم إسرائيل يصب في المصلحة الوطنية الأميركية. وترتبط كيفية تقييم الناخبين لتصرفات إدارة بايدن، حتى الآن، بشكل كبير، بالانتماء الحزبي، حيث يقدم الديمقراطيون تقييمات أقوى لأداء بايدن من الجمهوريين.

لا شيء مفاجئ في هذا كله، ومن غير المرجح أيضا أن يحدد مسار السياسة الأميركية الأحداث بقدر ما ستفعله الأحداث نفسها. ولكن في مثل هذه البيئة المتقلبة الغامضة في الشرق الأوسط اليوم، فإن هذه الأهداف السياسية والديناميكيات السياسية المحلية يمكن أن تنقلب رأسا على عقب في أية لحظة.

كيف ينتهي هذا؟

إن إعادة اكتشاف أميركا مؤخرا للشرق الأوسط وأهميته الجيوستراتيجية يشكل واحدا من أكثر الاختبارات تعقيدا التي واجهتها في السنوات الأخيرة. على عكس الحرب التي بدأت عام 2014 لهزيمة تنظيم داعش أو حرب عام 1991 لإخراج عراق صدام حسين من الكويت، سوف تكافح الولايات المتحدة من أجل بناء- والحفاظ على- تحالف إقليمي موحد للتقدم نحو الأهداف الخمسة الرئيسة التي حددتها لنفسها. وترجع هذه الصراعات في الغالب إلى الديناميكيات المتغيرة إلى حد كبير في المنطقة، حيث تعمل المزيد من الدول بشكل حازم من أجل تحقيق مصالحها الذاتية وتحديد أجندات سياستها الخارجية بشكل أقل ارتباطا بالقوى الخارجية وأكثر ارتباطا ببيئتها المباشرة. لقد ولت الأيام التي كان بوسع الولايات المتحدة فيها التلويح بعصا سحرية، إن استطاعت، لحمل شركائها في الشرق الأوسط على أن يحذوا حذوها.

ومما يزيد من التعقيدات حقيقة أن هذه الحرب تتمحور حول الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، وهو صراع له صدى عاطفي عميق في جميع أنحاء المنطقة لدى القادة والشعوب أيضا. وفي السنوات الأخيرة، عمل بعض القادة الأميركيين ونظراؤهم في المنطقة كما لو كان بوسعهم أن يصرفوا أعينهم عن الأزمة المستمرة على الجبهة الإسرائيلية- الفلسطينية، واعتقد البعض أن بإمكانهم إخفاء هذه الديناميكيات تحت السجادة. إن هذه الحرب الأخيرة هي بمثابة تذكير بأن الرؤى الكبرى لمنطقة أكثر أمانا وتكاملا وازدهارا لن تتحقق أبدا دون معالجة محنة الملايين من الفلسطينيين. إن الحرب- وخاصة الهجمات الوحشية الأولية وعمليات اختطاف المدنيين، وأيضا صور الأطفال الذين قتلوا بسبب القصف الجوي- تذكير حي للجميع بضرورة إعادة النظر في إنسانية الفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء.

 

وتلوح في الأفق أسئلة أوسع، بما في ذلك: ماذا سيحدث مع إيران، التي لا تزال تلعب دورا يقوض الأمن الإقليمي الأوسع؟

ولكن مع اندلاع الحرب يجب الأخذ بعين الاعتبار أن للحروب طبيعة لا يمكن التنبؤ بها عند تغيير الديناميكيات السياسية في المجتمع؛ فعندما غزت الولايات المتحدة العراق عام 2003، فعلت ذلك بطريقة فشلت فيها في ديناميكيات ترتيب السلطة في العراق عبر العمليات العسكرية. ومن خلال القضاء على ديكتاتور كان اسميا مسلما سنيا في دولة ذات أغلبية شيعية تضم ملايين من الأكراد غير العرب، كانت أميركا تفعل أشياء كثيرة عن غير قصد، بما في ذلك التأثير على سياسة ذلك البلد بطرق معقدة تتحدى الفئات البسيطة من الشيعة والسنة وانقسام العرب والأكراد.

وعلى نحو مماثل، سوف تخلف العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة تأثيرا سياسيا داخل المجتمع الفلسطيني، فضلا عن التكاليف المادية والاجتماعية المدمرة. إن هذه الأعمال العسكرية لها بالفعل أصداء في جميع أنحاء المنطقة، وإذا ما توسعت الحرب أكثر، فستكون لها تداعيات سياسية أوسع، بما في ذلك داخل النظام السياسي الإسرائيلي نفسه.

 

وعند طرح السؤال حول كيفية انتهاء هذا الصراع، غالبا ما يبحث مخططو السياسات والتكنوقراط عن إجابات أو حلول لا تأخذ في الاعتبار، بشكل كامل، التحولات في السلطة والسياسة الناتجة عن الحرب.

ويختصر التركيز على الحديث عن حجم قوات الأمن التي ينبغي تشكيلها للحفاظ على القانون والنظام، أو عن كيف يمكن إنشاء هيئة حكم جديدة، أو نموذج اقتصادي جديد. ولكن الحرب تجلب معها شيئا أكثر جوهرية وتأسيسية، وطبيعة النهاية ستعتمد على كيفية تطوره.

هناك عاصفة كبيرة تتفاقم، ويبدو أنها تزداد قوة.