ملخص
يستعيد “مشروع نوافذ” (أكاديمية شيراز للفنون) عبر تحقيق أربعة أفلام قصيرة لأربعة مخرجين سوريين سيرة الأفلام القصيرة كنمط تجريبي، يتناول كل واحد منطقة في مدينة دمشق في مقاربات تعكس التحولات الاجتماعية والاقتصادية.
بدأت السينما كأفلام قصيرة، وحتى عام 1913 كان طول جميع الأفلام يتراوح بين 15 دقيقة أو أقل، ومع مضي الوقت، وطغيان الصيغة الروائية الطويلة على مهرجانات السينما وجمهور الأفلام، صار هناك صيغ إنتاجية عدة للتذكير بالسينما القصيرة كنمط إنتاجي تجريبي، ومن هذه الأساليب التي تم اتباعها في الوقت الحاضر بالنسبة للفيلم القصير جمع ثلاثة أفلام كل منها أقل من ثلاثين دقيقة لتكوين فيلم يمكن تسويقه كفيلم طويل، ويتكون عادةً من ثلاثة أفلام أو أكثر يوحدها الموضوع، وليس موقع الأحداث، أو استخدام الممثلين أنفسهم.
وقد سوّقت شركات الإنتاج منذ ستينيات القرن الفائت بعض الأشرطة القصيرة كأفلام طويلة، مثل “مجموعة ستة” في باريس (1964) التي كانت مكوّنة من ستة أفلام قصيرة لستة مخرجين مختلفين كان على رأسهم جان لوك غودار (1930-2022)، وفي مثل هذه الحالة كان ما يوحد الفيلم ويجعله عملاً متكاملاً قابلاً للحياة، هو أن أحداث كل واحد من الأفلام القصيرة تقع في منطقة مختلفة من باريس، وتصوّر الحياة فيها.
التجربة ذاتها يستعيدها اليوم “مشروع نوافذ”- (أكاديمية شيراز للفنون) عبر تحقيق أربعة أفلام قصيرة لأربعة مخرجين سوريين. تناول كل واحد منهم منطقة في مدينة دمشق.
“نهاري ليلي”
جاء الفيلم الأول بعنوان “نهاري ليلي” للمخرج طارق مصطفى عدوان، وفيه يطل خريج أكاديمية يريفان العليا للسينما على الشوارع الخلفية للعاصمة السورية، فيختار محطة انطلاق الحافلات العامة لتكون مهداً لقصة شريطه الروائي (18 دقيقة). نطل في “نهاري ليلي” على حكاية فتى صغير يدعى كرم (غدي عقباني) يعمل كمعاون سائق لإحدى حافلات السفر بين حمص ودمشق، وهناك يقوم نهاراً بمساعدة إحدى السيدات المُسِّنات (صباح السالم) في بيع بضاعتها من الألبسة المستعملة (البالة)، لكن الشرطة سوف تصادر البضاعة، فيعود الشاب الصغير إلى عمله وهو لا يزال يحلم بأمه المتوفية بعد أن حدثته السيدة العجوز عنها.
في الحافلة المتجهة ليلاً نحو مدينة حمص تصعد سيدة شابة (رايسة مصطفى) للذهاب إلى مدينة طرطوس، إلا أن سائق الحافلة (محمد خاوندي) يقوم بالاعتداء عليها محاولاً سرقة مصاغها الذهبي بعد أن وعدها بتأمينها نحو وجهتها. الشاب الصغير سوف يقوم بالدفاع عنها بشكل مستميت بعد لقطات تُظهره نائماً يحلم بها كطيف يشبه أمه الميتة. ينتهي الفيلم بتأمين الشاب الصغير للسيدة في سيارة عابرة نحو طرطوس بعد أن يهربا سوية من سائق الحافلة.
اعتمد عدوان في “نهاري ليلي” على حساسية مغايرة في تصوير أحداث فيلمه، وانتقل بسلاسة بين أجواء نهارية وأُخرى ليلية لافتة في بنيتها البصرية عكست وجوه مشرّدي الشوارع وعمالة الأطفال وسوء معاملتهم من أرباب العمل، واعتمد عدوان في ذلك على توظيف ما يسمى بـ “الصور السمعية” لتوسيع ما يظهر بصرياً على الشاشة، فقام المخرج باستخدام الصوت كاستعارة مجازية عن أجواء الشارع، واستدعى بذلك صوراً إلى مخيلة المتلقي من خارج الكادر، إذ يمكن للصوت أن يُحدث بُعداً موازياً لصور المَشاهد المرئية، وهذا ما جعل الصور الصوتية في “نهاري ليلي” تعطي مساحة أكبر للتعبير عن الواقع وما وراء الصورة، لا سيما أن المخرج هو نفسه من حقق الموسيقى التصويرية لفيلمه بالتعاون مع الفنان محمد شحادة، وحافظ في كل لقطة على حدِّة اللقطة وكثافة السرد البصري كشرط فني من شروط البينة الخاصة ببنية الفيلم القصير.
“خِلص الشحن”
الفيلم الثاني في هذه الرباعية السينمائية حمل عنوان “خِلص الشحن” لمخرجه يزن أنزور، وفيه يروي قصة كل من كفاح (محمد حسن) وأمل (تالا نيساني) الشابان اللذان يحضران لحفل زفافهما وسط ظروف مادية صعبة. اتخذ هذا الروائي (25 دقيقة) نمط الرحلة في سرد أحداثه، وكانت هنا عبارة عن وقائع تجري في شوارع دمشق وحاراتها القديمة. فالعريس الشاب سائق تاكسي يجول بنا منذ المشاهد الأولى أحياء وطرقات العاصمة وصولاً إلى شركة تحويلات مالية، ومن ثم يطوف بنا نحو مبنى القصر العدلي لإتمام مراسم عقد زواجه. صعوبات عديدة وعقبات لها أول وليس لها آخر يطلعنا المخرج أنزور عليها عبر سيناريو محكم (نور الدين نجار)، ولقطات عامة تُظهر بؤس وشقاء السوريين، ووقوفهم الطويل على كوات المصارف وطوابير الغذاء والمحروقات.
اللافت في “خلص الشحن” هو الإيقاع المنضبط لمشاهد خارجية تم تصويرها من دون أن يفقد الفيلم حرارته وتشويقه، فالشخصيات تتخطى عقبات الحياة اليومية ببسالة، وتنقل بقالب كوميدي ساخر مرارة العيش بعد سنوات الحرب الطويلة. إدارة الممثلين كانت هي الأُخرى لافتة لجهة ردود أفعالها وتمكن أنزور من صياغة أداء تلقائي أمام الكاميرا، فالفيلم ارتكز على إبراز مفارقات صادمة عن حال الإنسان السوري، وكيف يتدبر أمره في ظل غياب أدنى مقومات المعيشة، ولعل هذا ما جعل صديق العريس (درويش عبد الهادي) شخصية طريفة في نصائحها وحلولها لرفيق العمر الذي يجد نفسه أخيراً في ليلة الدخلة وقد أنهكته متاعب اليوم الطويل، فبعد ساعات طويلة من السعي لتأمين مستلزمات العرس وتحمله لغضب والد العروس (عدنان عبد الجليل)، يغط الشاب في نومٍ عميق، بينما تجلس عروسه الشابة بقربه على السرير وهي ترتدي فستانها الأبيض المُستأجر من أجل ليلة العمر.
“إيجابي”
المخرج رامي نضال قدم بدوره فيلماً بعنوان “إيجابي” والذي يروي قصة زوجين شابين يستعدان للهجرة إلى أحد البلدان الأوروبية، لكن الزوجة (إيليانا سعد) سوف تكشف لزوجها (جبريل الدين) أنها حامل، وهذا ما قد يتعارض مع شروط البلد الذي سوف يهاجران إليه، مما يحمل الزوجة على إجهاض جنينها تحت إلحاح الزوج بذلك، لكنهما وبعد القيام بعملية الإجهاض، سوف يكتشفان أنه ليس من عائق لهجرتهما بسبب الحمل، مما يجعل خسارتهما فادحة، لا سيما أن البلد الذي سوف يهاجران إليه يقدم امتيازات للأبوين الذين لديهما أطفال. مفارقة أًخرى تسوقها أحداث الروائي القصير (17 دقيقة)، فكل شيء حول الزوجين الشابين سلبي ما عدا اختبار الحمل كان إيجابياً. جرت أحداث “إيجابي” في مكان واحد هو بيت الزوجين، وهو المكان الذي حاول المخرج رامي نضال من خلاله أن ينقل قسوة الظروف التي تواجه جيل الشباب في سوريا، وذلك عبر لقطات مؤثرة لجدران البيت التي تأكلها الرطوبة، ومعالم وجهي الزوج والزوجة في لقطات قريبة وقريبة جداً حاول من خلالها رامي نضال أن يعكس الحصار النفسي للشخصيتين الوحيدتين في الفيلم.
ولم يلجأ رامي نضال في “إيجابي” الذي كتب السيناريو له بنفسه، إلى حبكة معقدة أو حبكات فرعية كما هي الحال في الفيلم الروائي الطويل، بل حافظ على بنية الفيلم القصير، موجزاً لحظة خاصة من حياة رجل وامرأة وضعا في ظرف صعب للغاية، وأمام مواجهة عكست أثر الخارج على حياتهما داخل بيت معزول وكتيم، لكن في المقابل كان هناك ضعف واضح في إيقاع المشاهد واللقطات العامة التي حدّت من تدفق القصة بشكل سلس وتلقائي، وهذا ما كان واضحاً في تكرار بعض الحوارات التي بدت ذات صبغة تلفزيونية وبعيدة من شروط الفن السينمائي، فظهر الحوار في مواضع عديدة من الفيلم كمشاحنات وثرثرة فائضة، لا سيما تحدث الزوج إلى صديقه عبر خدمة “الواتساب”، أو شرح الزوج لزوجته عن المصائب التي سيجلبها عليه تعطل سيارته الأجرة، والتي هي مورد رزقهما الوحيد.
“العنزة”)
“العنزة” هو الفيلم الرابع والأخير في هذه السلسلة السينمائية، وجاء بتوقيع مخرجه ومؤلفه عبد اللطيف كنعان. ابتعد هذا الشريط (20 دقيقة) عن العلاقة السببية للأحداث، وذهب نحو خيار التجريب على مستوى تقديمه للأجواء الغرائبية التي ساقها عبر قصة فتى يافع يدعى حسن (غدي العقباني) يحاول استرجاع عنزته المسروقة كي يدفع أجرة البيت لصاحبه المتصابي (جهاد الزغبي). صاحب البيت ذو رائحة الفم الكريهة يضع الطفل ووالدته (أمارجي العبد الله) في خيار الزواج من الأم أو طردهما من منزله. يطوف الفيلم عبر رحلة الصبي بحثاً عن عنزته أزقة البلدة القديمة في دمشق، ونتعرف إلى أسواقها الأثرية وتاجر أغنام (كرم شنّان) يعتنق إحدى الطرق الصوفية، ولديه هوس بتربية الماعز الشامي، وهو التاجر نفسه الذي تمت سرقة إحدى عنزاته، وقام أحد المساعدين باستبدالها بعنزة الصبي.
ووفق مونتاج متوازٍ ولغة بصرية باذخة يدمج عبد اللطيف كنعان بحرفية بين مشاهد ذبح الماعز الشامي في دكاكين جزارة المدينة، وبين مشهد اغتصاب الأم من قبل صاحب البيت، وصولاً إلى هرب كل من الأم وابنها، واسترجاع الصبي لعنزته الضائعة. إشارة لا تخلو من أبعاد تعبيرية، وكاميرا محمولة تتابع سرد أحداثها من خلال لقطات سريعة ومتداخلة توجه سبابة الاتهام للاضطهاد والعنف الذي يتعرض له الأطفال والنساء في سورية، إذ يقدم كنعان رؤيته بسلسلة من اللقطات العامة والمتوسطة وبزوايا تصوير (شادي سلمان) صادمة ومفاجئة لحوانيت ومحال تتراصف فيها قطعان من الماعز بموازاة عشرات من النساء المرميات لأقدارهن في عراء الحاجة والعوز والاستغلال الجنسي.