آلبريخت آلتدورفر (1480 – 1538) (الموسوعة البريطانية)

نعرف أن عصر النهضة الاودوبية ومنذ بداياته اهتم بالطبيعة بقدر اهتمامه بالإنسان. وهو في معظم الأحيان جعلهما صنوين، يتواكبان معبرين عما يمكن وصفه بعنصري الـ”هنا والآن” مجتمعين في بوتقة واحدة كنوع من السير على خطى فلسفة جديدة من المؤكد أنها تلك التي أعاد الهولندي سبينوزا صياغتها فأغضب المتزمتين. فالفن النهضوي، في وقت واصل فيه اهتمامه بالغيب والماوراء، مع إضفاء أهمية أنثروبولوجية (أي مرتبطة بالوجود الإنساني الواعي) عليهما، أدرك أن أمامه موضوعاً فائق الأهمية يمكنه أن يغرق فيه وفي تفاصيله، ويعبر به عن ذاته وعن وجوده في هذا الكون. وهذا الموضوع كان، طبعاً، الإنسان وعلاقته بالطبيعة. وهكذا بالتدرج، إلى جانب الفنون الدينية التي ظلت على ازدهارها ولم تفقد مكانتها، التي – على أي حال – ستتضاءل أهميتها خلال القرون الثلاثة الأخيرة، ازدهر الفن الإنساني ومعه ازدهرت الفنون المعبرة عن المشاهد الطبيعية. وكان هناك أحياناً مزج بين الإنسان والمشهد الطبيعي. ولئن كان الوجود الإنساني قد ظل مرجحاً بوصفه العنصر الأساس في المشهد، بمعنى أن الطبيعة، كما لدى جورجوني وجيوفاني بلليني، ظلت تشكل خلفية المشهد الذي يشغل الكائن الإنساني مركزه، فإن مرحلة تالية أتت لتعطي الطبيعة نفسها مركز الصدارة في اللوحة، إذ تشغل أحياناً الموقع الأساس، طاغية على الوجود البشري الذي صار جزءاً مكملاً للطبيعة بوصف الإنسان جزءاً مندمجاً في هذه الطبيعة، وتشغل في أحيان أخرى المشهد بأكمله من دون أي وجود بشري. وفي هاتين الحالين يمكن القول إن الألماني، ابن مناطق الدانوب، آلبريخت آلتدورفر، كان رائداً كبيراً وإن لم يكن الأ

جزء من مشهد طبيعي

آلتدورفر، سار – حقاً – على خطى سابقين له من أمثال جورجوني، وبلليني، وحتى بيارو ديلا فرانشيسكا وتأثر مباشرة بسلفه الكبير آلبريخت دورر، ومع هذا نراه متفرداً بالتعبير عن طغيان عنصر الطبيعة. ففي لوحات له كبيرة وشهيرة مثل “معركة ايسوس”، أو مثل “معركة أربيل” أو “سان جورج في الغابة” نلاحظ الحضور البشري قائماً، غير أن الإنسان يبدو في كل هذه اللوحات من صغر الحجم والالتحام بالطبيعة، بحيث يصعب افتراض أن في الإمكان اعتباره سوى جزء كلي من المشهد الطبيعي، يوجد هنا من دون أي استقلالية، مثل الأشجار وأمواج البحر والغيوم والغابات وأشجارها. فإذا أضفنا إلى هذا الموقع الذي يلتقط منه الرسام مشهده، وهو دائماً موقع مرتفع عند نقطة تشرف على المشهد من أعلى من دون أن تبتعد عنه كثيراً، يمكننا أن نفترض أن آلتدورفر، أحدث نوعاً من الإبدال في اللوحة، بحيث إنه بدلاً من أن تكون مشهداً ينظر منه الإنسان إلى ما هو إلهي (اللوحات الدينية عموماً) صارت لديه مشهداً، ينظر فيه “الإلهي” إلى ما هو “دنيوي”.

فن نهضوي ولكن أين الإنسان؟

لكن آلتدورفر لم يكتف بهذا، بل حقق لوحات كثيرة أخرى تعمد أن يجعلها خالية تماماً من أي حضور بشري جسدي، معطياً الطبيعة المكان الأول والوحيد في المشهد. ومع هذا لن يفوت الناظر ملياً إلى مثل هذه اللوحات أن يستشعر وجوداً إنسانياً غير مرئي لكنه محسوس وبقوة. كأن آلتدورفر يريد أن يقول لنا إن الإنسان موجود في الطبيعة وفي الأحوال كافة. ويقيناً أن باحثين كثراً في أعمال آلبريخت آلتدورفر، توقفوا طويلاً أمام بعض لوحاته الخالية، ظاهرياً، من الوجود البشري، وراحوا يدققون في ثنايا عناصرها لعلهم يجدون أناساً مخبوئين أو يعبرون هنا وهناك. ورائد هؤلاء بالطبع لوحة “سان جورج في الغابة” التي تصور لنا القديس وحصانه والتنين صغار الحجم وسط ضخامة الغابة وكلية حضورها، تلك الضخامة التي تبدو، منطقياً، غير مبررة. إلى هذا النوع الأخير من أعمال آلبريخت آلتدورفر، تنتمي لوحته “مشهد مع جسر للعبور على الأقدام”، الموجودة الآن بـ”المتحف الوطني” في لندن، والتي تعتبر إحدى أجمل اللوحات، القليلة على أي حال، التي خلفها آلتدورفر.

مواضيع عدة لمساحة صغيرة

وهي كذلك واحدة من أصغر لوحاته، إذ لا يزيد عرضها على 36 سنتيمتراً، وارتفاعها على 42 سنتيمتراً. ومع هذا حمل الرسام، هذه المساحة الصغيرة، كل العناصر والأحاسيس، وكذلك الأبعاد الروحية التي أراد التعبير عنها. والحال أننا إذا بحثنا عن الحضور الإنساني في هذه اللوحة التي قد تبدو للوهلة الأولى محايدة، نجده في ثنايا المزاج الذي تعبر عنه. كأننا هنا أمام لوحة رائدة سبقت الفن الانطباعي بقرون، الانطباعية هنا تبدو ممتزجة بنوع من الرومانسية لتعملا معاً على إبراز أحاسيس الرسام نفسه وهو يلتقط المشهد، لأن ما تقوله هذه اللوحة، ليس ما فيها، بل حضور ما هو غائب ظاهرياً عنها، إذ إن كل شيء في اللوحة: زاوية التقاطها، والثقل اللافت لمنطقتها الوسطى الدافعة باتجاه الأسفل من طريق الجسر وجذوع الأشجار، والتجاور المدهش بين جدار صخري (يذكر ببعض ما كان يرسمه جوتو في خلفيات لوحاته التي كانت من أول ما أعطى الطبيعة دلالة سيكولوجية وموضوعية في المشهد الذي يرسمه)، والتشابك بين أعشاب الأرضية، ثم ذلك التنامي بين العناصر الطبيعية التالية: صخور ومياه وأعشاب ومضغوطة بين عنصرين قد يكونان منطقياً دخيلين على هذه الطبيعة التي تتسم ببكورة مدهشة: جدار القصر في مقدم اللوحة، ومجموعة المباني خلف الجسر في عمق المشهد (وإنما من دون أن تكون حقاً في عمقه).

 

الطبيعة وما أضافه الإنسان إليها

 لكن هذين العنصرين (اللذين يشيان بعد كل شيء بـ”الحضور” البشري في اللوحة)، لا يبدوان في العمق دخيلين ما دام الرسام عاملهما فنياً تعامله مع العناصر الطبيعية الصرفة، هذا البعد يأتي ليقول إن ليس لنا، بعد، أن نفرق بين ما هو موجود أصلاً كجزء من الطبيعة البكر، وما أوجده الإنسان من إضافة… لأن الاثنين واحد في نهاية الأمر، وذلك هو واحد من الدروس الأساسية التي يبدو أن آلتدورفر استخلصها من تربيته الإنسانية وانفتاحه على الطبيعة، وشاء أن ينقلها إلى مشاهدي لوحاته. ومن المؤكد أنه نجح في هذا: نجح في لوحة “مشهد مع جسر للعبور على الأقدام” وكذلك في لوحاته الأخرى، مما جعل منه رائداً من رواد الفن الذي ينهض بالحضور الإنساني إلى مراتب سامية، إن لم يفرد في معظم لوحاته للإنسان كحضور مباشر إلا مكاناً صغيراً. والمعادلة على أي حال بسيطة: إن الحضور الإنساني أولاً وأخيراً لا يجوز حصره في الحضور الجسدي، بل يجب التركيز على كونه حضوراً روحياً. لعل نظرة الرسام نفسه، ومن ثم الموقع الذي ينظر منه مشاهدو اللوحة أنفسهم، عنصره الأساس.

عاش لفنه ومن فنه

آلبريخت آلتدورفر الذي عاش بين عامي 1480 و1538 يعتبر من كبار رسامي عصر النهضة الألمان، بل إن مؤرخين كثراً يرون أن المشاهد الطبيعية الخالصة التي رسمها، ومنها لوحة “مشهد مع جسر للعبور على الأقدام”، هي أول مشاهد من هذا النوع في تاريخ الفن. ولد آلتدورفر في مدينة راتيسبون على ضفة نهر الدانوب، وسط مناطق طبيعية ساحرة، وكان أبوه رساماً من قبله. درس الرسم في آمبرغ، وعاد إلى مسقط رأسه ليزاول مهنة الرسم قبل عام 1505، وكانت أعماله أول الأمر دينية تشمل الرسم وهندسة المباني، وكان من أول أعماله الهندسية تشييده كنيسة للعذراء في مسقط رأسه، على أنقاض معبد يهودي بعد طرد اليهود من المدينة. حقق ثروة كبيرة من رسومه وأعماله فحين توفي في عام 1538 خلف لورثته ميراثاً ضخماً. واعتبر آلتدورفر زعيم مدرسة “الدانوب” التي اشتهرت برسم المشاهد الطبيعية والأعمال المستقاة من الأساطير القديمة. ولئن كان ما بقي من أعمال آلتدورفر حتى يومنا هذا ينم عن فن كبير، فالمؤسف أن ثمة أعمالاً كثيرة له، لا تزال غير مكتشفة، أو ضاعت إلى الأبد.