اعلان عن تقسيط الهواتف المحمولة.

اعلان عن تقسيط الهواتف المحمولة.
يلجأ سوريون كثر إلى شراء مستلزماتهم بالتقسيط، بعد تعذر شراء الأشياء الجديدة نقداً بسبب التهاب الأسعار وانحدار القيمة النقدية للمرتبات الحكومية.
التقسيط الذي كان سائداً كمفهوم قبل الحرب تضاءل كثيراً بعدها بسبب التهاوي المستمر لقيمة العملة المحلية وكثرة المشكلات الأمنية والقانونية التي تحول بين البائع والمشتري، فتؤدي إلى تعذر التواصل بينهما لتنجم عن تلك العلاقة التجارية خسارات متعددة.
بيد أنّ التقسيط كفكرة لا يزال متأصلاً، إذ كان الموظفون وغيرهم دائماً ما يعتمدون على الشراء بالأقساط، وبالتالي يخففون الأحمال عليهم. ومع أنّ السنوات الأخيرة قبل الحرب شهدت طفرة معيشية وارتفاعاً قياسياً في سلّم الرواتب، إلا أنّ الشركات والمؤسسات والقطاعات المختلفة ظلّت تتسابق لتقدم عروض التقسيط.
 كان على رأس المقسطين شركات السيارات التي صارت تقدم سياراتها من دون دفعة أولى وبدفعات شهرية لا تتخطى 300 دولار وقتذاك، وهو رقم كان يغطيه أقل راتب حينها، إضافة إلى عدم وجود فوائد تذكر على المبلغ النهائي.
 
القسط الخاسر
الحال بعد الحرب تغيّرت كثيراً، ونسبة الشراء “الكاش” انحدرت، ما أدى إلى تعرّض مئات مؤسسات القطاع الخاص للخسارة وإغلاقها، لتلحقها معظم المشاريع المتوسطة والصغيرة، وحتى المتناهية الصغر، قبل أن تتحسن الأمور قليلاً مع انتهاء الظرف الأمني المباشر في المدن الرئيسية، لكنّ مشكلة الإحجام عن الشراء لم تتغير، ما دفع ببعض المشاريع لتفعيل نظام الأقساط لزبائنها علّها تتمكن من الاستمرار.
نظام الأقساط السائد الآن يركب فوائد كبيرة جداً على المشتري وزمن سدادٍ قصير، ويرجع ذلك بصورة رئيسية إلى تقلب سعر صرف العملة، فمع الأخذ بالاعتبار مثلاً أنّ الدولار الواحد كان يساوي 6 آلاف ليرة سورية في شباط (فبراير) الماضي، ووصل إلى 16 ألف ليرة سورية في آب (أغسطس)، فهذا يوضح أنّ البائع نفسه يُخضع مبيعاته لمغامرة كبرى تبرر له رفعه السعر النهائي مع القيمة الكلّية للمنتج المقسط، ومع ذلك قد يخسر أحياناً.
أبو محمد صاحب معرض أدوات منزلية في دمشق، يقول لـ”النهار العربي” إنّ ظروفاً غير متوقعة أحياناً تكبد البائع خسارات غير منطقية رغم أنّه يتقاضى ضعف ثمن الغرض المباع تقسيطاً، ويشرح عن ذلك بقوله: “بعت غسالةً كان ثمنها نقداً مليوني ليرة سورية في بداية هذا العام (نحو 330 دولاراً حينها)، بعتها بالتقسيط بمبلغ 4 ملايين ليرة، على أن يكون السداد على مدار ستة أشهر، وحين انتهت الأقساط وجدت نفسي خاسراً أمام المجزرة التي تعرضت لها العملة الوطنية، إذ بعتها بذلك الرقم وحين عاد لي ثمنها مع القسط كان قد خسر نحو مليون ليرة”. (باعها أبو محمد بـ330 دولاراً وحين استوفى حقها بلغ مجموع ما حصل عليه 250 دولاراً).
وإذا أردنا تقريب المشهد أكثر فإنّ البائع الذي باعها بمبلغ 4 ملايين قبل أشهر قبض ثمنها لاحقاً 3 ملايين، وإذا أراد شراء بديل لها ليعيد بيعه فسيجده بضعف هذا الرقم، وهذه واحدة من أعقد معادلات البيع التي تتبع الظرفية السببية وما يشبه القمار على سعر العملة، فمثلاً كل عمليات التقسيط التي بدأت منذ بداية أيلول (سبتمبر) وحتى الآن لا تزال متوازنة بفعل استقرار سعر الصرف التام، وكل ما وقع قبل ذلك التاريخ خضع لشرط الخسارة.
 
ضمانات قاسية
الأقساط تبدأ بالهاتف المحمول ولا تنتهي بالمنزل نفسه، فكلّ ما يمكن أن يباع أو يشترى ثمة طرق لتقسيطه، ولكن غالباً تكون شروط التقسيط مجحفة وتمسك المواطن من “اليد التي تؤلمه”، فالبراد نفسه اليوم صار يتطلب جمع مرتبات سنين متواصلة للحصول عليه، وقد صار سعر الجيد منه 10 ملايين ليرة (700 دولار)، أي مجموع رواتب 4 سنوات وبضعة أشهر.
تتنوع طرق ضمان البائع لحقوقه بين توقيع المشتري على سندات أمانة (شيكات فارغة)، أو رهن شيء مقابل الغرض إذا ارتفع ثمنه، والكثير من الإجراءات الإضافية، وينطبق الأمر بتعقيد أكبر عند شراء هاتف محمول، إذ تلجأ محال الاتصالات إلى تقسيط الهاتف المحمول لقاء إمضاء المشتري على مجموعة سندات أمانة تعادل عدد أشهر السداد بالقيمة المالية المتفق عليها، مضافة إليها الفوائد، وعلى أن تكون الأقساط ضمن مدة زمنية تقاس بأشهر قليلة.
وعن ذلك النوع من التقسيط سأل “النهار العربي” سميح البر، صاحب أحد محال المحمول الذي قال: “بدايةً نقبض 30 إلى 50 في المئة من ثمن الجهاز كدفعة أولى، ثم نأخذ صورة عن هوية المشتري، ونجعله يوقع على سندات أمانة بقيمة بقية الأقساط، وحين يدفع القسط كل شهر نمنحه واحداً من تلك الإيصالات ليتلفها، ولكن الأهم من ذلك كله أنّنا نحجز لدينا علبة الهاتف حتى تمام السداد لأنّها تعتبر أقوى وثيقة قانونية ضده في حال تخلفه عن السداد أو هربه”.
ورغم تلك الاحتياطات كلها، يورد البر حالة غريبة تعرض لها: “في مرحلة لاحقة من الحرب صرنا نطلب من الشخص المشتري ألّا يوقع هو السندات، فثمة أشخاص يتخلفون ولا يأبهون ويكون عليهم أجرام قانونية أصلاً، لذا صرنا نطلب أن توقع على السندات أخت المشتري أو زوجته، وفعلاً وقعت زوجة أحد المشترين على السندات”.
ويضيف: “وبعد فترة من المبيع تخلف ذلك المشتري عن السداد وغيّر رقم هاتفه، فقدمنا السندات إلى المحكمة وكانت باسم زوجته، والمفاجأة غير المتوقعة أنّه طلق زوجته في وقت سابق بسبب خلافات بينهما، بالتأكيد ليس بسبب الموبايل، ولكن ماذا نفعل؟ هل نسجن الزوجة؟ تنازلنا عن الشكوى بكل بساطة”.
ماذا تفعل البنوك؟
وبالانتقال إلى القيم المالية الكبرى التي يمكن أن تمنح للسوري فيتم ذلك عبر البنوك الرسمية، ولكن بطريقة لا يمكن وصف الشكل الذي تقوم عليه إلّا بكونها جباية أكثر منها مساعدة، لا سيما إذا كان الحديث عن دعمه لشراء منزل. والمعلوم أنّ سوريا بنصفها مدمرة، وبنصفها القائم ثمة جيل شاب لم يتمكن من العمل لشراء منزل.
البنك العقاري مثلاً مستعد لإعطاء قرض شراء منزل بقيمة 200 مليون ليرة (14 ألف دولار) على أن يسترده خلال 10 سنوات بقيمة 500 مليون (35 ألف دولار) وفق أسعار الصرف الآنية، والضمان هو رهن العقار نفسه للبنك حتى استكمال السداد، أو رهن عقار آخر قيمته أعلى، وفي حال التعثر يتم سجن المقترض وبيع العقار في المزاد العلني.
الأسوأ في ذلك أنّ مبلغ الـ200 مليون وإن بدا خيالياً للسوري، لكنّه مبلغ مدروس وفق شروط البنك الذي يعطي مبلغاً يغطي أقل من نصف قيمة العقار المراد شراؤه، ومبلغ 200 مليون هو رقم افتراضي هنا، قد يزيد أو ينقص.
الأمر رغم هول المبلغ، يستدعي المغامرة بالتعويل على الانهيار المستمر لليرة السورية ما دام السداد بالليرة ولا يتم تثبيت القيم على الدولار، هذا ما يقوله سوريون أقبلوا على هذه القروض، معتبرين إياها شراء عقار بالتقسيط.
عيسى اسم مستعار لشاب حصل على قرض شراء عقار في حمص، حصل على مبلغ 250 مليون ليرة سورية (17800 دولار)، واشترى على الفور عقاراً في منطقة جيدة، ولكن بضعف هذا الرقم بالتأكيد، فالبنك لا يغطي كامل القيمة.
يقول: “بشق الأنفس حصلت على ذلك الرقم، لم يكن الحصول عليه سهلاً إطلاقاً، فالروتين قاتل، والقسط الشهري لا يعقل أيضاً، عليّ أن أدفع نحو 4 ملايين ليرة كل شهر (285 دولاراً)، ولكن بحسبة بسيطة هذا الرقم (أي الـ4 ملايين) كان قبل 3 سنوات ألف دولار، الآن 285 دولاراً، بعد سنة سيكون 150 دولاراً أو أقل وفق المنطق، وهكذا، وقرضي على 10 سنوات، لذا مع كل شهر يمضي لن أشعر بما أدفع. أمر واحد يقهرني، أنني أخذت 250 مليوناً وسأعيدها نحو 600 مليون، الحكومة هكذا لا تساعد الشعب، لو أرادت مساعدته لأعطته قروضاً بأرباح بسيطة وليس بأرباحٍ هائلة، وخصوصاً أنّها تستعيد أموالها بالليرة السورية وأعتقد أنّ لدينا فائضاً من العملية المحلية”.
الشاطر يخسر
في موضوع الأقساط الجميع يبدو خائفاً، البنوك، الباعة، المشترون، فإحكام منهج اقتصادي يكبل الدولار في الداخل السوري لم ينجح في أيٍّ من مراحل الحرب، وهو ما يجعل البلد على صفيح ساخن تحكمه علاقة مجتمعية تجارية قلقة.
علاقات تجارية فردية أو جماعية تتريث في شراء السيارة وبيعها، في العقار، في أدوات المنزل، في الهواتف المحمولة، في كل شيء، ثم يكسب في النهاية من ابتسم له الحظ في سوق الصرف الذي لا يمكن توقعه، لا من كان شاطراً، وفي المعادلة السورية لا أحد شاطرٌ بالتنبؤ.