…………………………
استمعت وشاهدت جلسة حوارية لمشتغلين ومهتمين بالأدب والثقافة، وذوو ثقافة واسعة والاهم أنهم من منتجي الثقافة: الدكتور، الناقد والمفكر السعودي سعد عبد الرحمن البازعي، والشاعرة والمذيعة السودانية روضة الحاج محمد عثمان، والروائية الكويتية بثينة العيسى. وكانت الجلسة تدور حول سؤال: لماذا نقرأ الأدب؟
قدم المشاركون رؤى عميقة وقيمة، كل من خلال تجاربه واهتماماته. شغلني هذا السؤال لمدة أسبوع كامل، ثم بدأت أفكر بتقديم اجابة عليه من وجهة نظري، واستغرق الامر خمسة أيام..
أرى أن للأدب والفن عموماً دوراً عميقاً في حياة الإنسان، فهو كان الأداة الأولى للتعبير عن مشاعر وأفكار الإنسان البدائي قبل أن يتكلم، من خلال الرقص والرسم، وبالتالي هو مرتبط بشكل أو بآخر بأعماق الإنسان النفسية، التي يصعب، إن لم يكن من الممكن، أن يبوح بها من خلال وسيلة خارج الأدب والفن. فالرقص، كان وما يزال، تعبيراً عن اختلاجات النفس البشرية في تشكلاتها البدائية.
وهو حالياً نافذة يمكننا من خلالها فهم العالم من حولنا وفهم أنفسنا بشكل أعمق. قراءتنا للأدب تحملنا إلى عوالم مختلفة، سواء كانت حقيقية أم خيالية، وتمنحنا فرصة استكشاف شخصيات وأحداث وتجارب مختلفة، مما يثري رؤيتنا للحياة ويوسع مداركنا.
الأدب يساعد وبشكل جوهري في تعميق فهمنا للإنسان الفرد وللإنسانية والمجتمع، ويعكس طبيعة الإنسان ومشاعره وصراعاته، كما يقدم لنا فهماً أعمق للثقافات والمجتمعات المختلفة. الأدب الكلاسيكي مثلاً، مثل أعمال تولستوي، وديستويفسكي، وماركيز، وهمينغواي، وغيرهم كثر، يستعرض تحديات الإنسان وقيمه بطرق تتجاوز الحواجز الزمانية والمكانية. عبر قصصهم، نكتشف تجارب بشرية عميقة مثل الحب، الفقدان، الصداقة، والخيانة وشرور النفس البشرية.
أرى أن تولستوي، وهي وجهة نظر شخصية وأتحمل مسؤوليتها، في روايته الحرب والسلام ليس فقط أدان الحرب، بل أبرز أهوالها وبشاعتها، وكشف الثمن الفادح، من إزهاق أرواح البشر وتدمير المدن والدول، الذي تدفعه الإنسانية نتيجة لأطماع الجنرالات وأوهام العظمة التي تسكنهم. تولستوي صور الحرب كمأساة جماعية، تذهب فيها أرواح الآلاف ويدفع الشعب ثمنها الباهظ، بينما يتبارى القادة في اتخاذ قرارات مصيرية باسم “الوطنية” والمجد الشخصي، غالباً بدوافع ذاتية أو بطموحات زائفة. ينقد تولستوي بحدة فكرة البطولة الحربية، ويظهر في سرده كيف أن الحروب لا تخدم إلا مصالح قلة على حساب معاناة الجميع، محطماً بذلك الأسطورة الرومانسية للحرب ويكشف عن قسوتها وعبثيتها.
نحتاج إلى أن نقرأ عشرات كتب السوسيولوجيا والتاريخ والبسيكولوجيا لنصل إلى المفاهيم التي حملتها لنا الحرب والسلام بطريقة ممتعة وشيقة.
رواية الجريمة والعقاب هي واحدة من أعظم الروايات العالمية للروائي العظيم ديستويفسكي، وتتمحور حول الصراع الداخلي لشخصية روديون راسكولنيكوف، وهو طالب فقير يرتكب جريمة قتل بدافع تحقيق “عدالة” ذاتية. الرواية تتناول موضوعات فلسفية عميقة حول الخير والشر، والمسؤولية الأخلاقية، والندم، وتسلط الضوء على تأثير الذنب وتأرجح العقل البشري بين تبرير أفعاله والخضوع للعدالة. من خلال تصوير الاضطراب النفسي لراسكولنيكوف، يعالج ديستويفسكي أسئلة جوهرية حول حدود الأخلاق وهل يحق للفرد تجاوزها إن كان يعتقد أنه “متفوق” أو يمتلك رؤية خاصة لتغيير العالم. الرواية، في النهاية، تقدم رؤية معقدة عن العدالة والخلاص، وتدخل إلى معضلة أخلاقية ــ فلسفية، معضلة تقول أو تطرح السؤال التالي: هل يجوز أخلاقياً محاربة الشر بالشر؟ هل يجوز أن يقتل راسكولنيكوف، بحجة أن عمله يخلص الإنسانية من مرابية شريرة، أن يقتلها؟
في رواية الأخوة كرامازوف، التي تعتبر قمة إنتاجه الأدبي والفكري، يجسد ديستويفسكي جوانب النفس الإنسانية: الشهوة والعقل والإيمان في أبناء عائلة كرامازوف، الأخوة الثلاث: ديمتري، وإيفان، وأليكسي.
يمثل ديمتري الجانب الشهواني والعاطفي في الإنسان، فهو شخص تسيطر عليه رغباته الجسدية وشغفه الشديد بالحياة، سواء كان ذلك في سعيه وراء المتعة، أو في علاقاته العاطفية المعقدة، خاصة علاقته مع غروشنكا التي تتسم بالغيرة والعاطفة المتفجرة. تتضح شهوانيته أيضاً في صراعاته المالية وتصرفاته المتهورة، مما يجعله رمزاً للجانب الغريزي من النفس البشرية الذي يسمى “الهو”، وهو مركز خزّن فيه كل الغرائز منذ أن تشكل الكائن البشري وقبل أن يؤنسن، حسب عالم النفس فرويد.
بينما إيفان يمثل الجانب العقلاني والفكري في الإنسان. يتميز إيفان بذكائه الحاد وتفكيره النقدي، كما يظهر في فلسفته حول الدين والأخلاق. يعبر إيفان عن الشك في وجود الله، ويطرح أسئلة عميقة حول الشر والمعاناة. إيفان يظهر سطوة العقل ونزعته النقدية والشك في كل شيء.
أما أليكسي كرامازوف فيمثل الإيمان والروحانية، وهو الشخصية التي تعبر عن الطهارة الأخلاقية والتفاني الديني. يظهر أليوشا في بداية الرواية كتلميذ للمُعلم الروحي الأب زوسيما، ويمتاز بشخصية متواضعة ومتعاطفة، مما يجعله رمزاً للإيمان والتسامح. أليوشا يسعى دائماً لتحقيق السلام بين أفراد عائلته ونقل تعاليم المحبة، فيجسد الجانب الروحاني من الإنسان وقيم المسيحية التي يؤمن بها ديستويفسكي، بل يمكن القول أن أليوشا هو ديستويفسكي.
لقد أظهر ديستويفسكي وبعمق صراعات النفس البشرية، ومنها يطرح أسئلة عميقة عن معنى الحياة والأخلاق والوجود.
كما أن الأدب لا يساعدنا فقط على فهم الآخرين، بل يعزز قدرتنا على التعاطف معهم. عندما نقرأ قصة تُروى من منظور شخصية تعاني من صراعات معينة، نشعر بما تشعر به ونرى العالم من خلال عينيها، ويجعلنا نتعاطف مع الشخصية. هذا التعاطف الذي نكتسبه يساعدنا على التعامل بفعالية مع الآخرين في حياتنا. وفقاً لدراسات، فإن قراءة الأدب، وخاصة الأدب الذي يركز على تطوير الشخصيات، يعزز من قدرتنا على فهم وجهات النظر المختلفة وتطوير مهاراتنا الاجتماعية.
في البؤساء للروائي العظيم فيكتور هيغو، نرى حياة جان فالجان، الرجل الذي يُجبر على العيش في ظروف قاسية بعد أن قضى سنوات في السجن بسبب سرقة قطعة خبز لإطعام أسرته. الرواية تستعرض معاناته المستمرة في مواجهة الظلم الاجتماعي والقانوني، والصراعات الداخلية التي يمر بها. من خلال قصته، يشعر القارئ بتعاطف عميق مع معاناته ويحاول فهم دوافعه وقراراته في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها.
من خلال هذه الرواية، يمكن للقارئ أن يتعاطف مع جان فالجان، وأن يرى العالم من خلال عينيه، مما يساعد في تعزيز فهم وجهات النظر المختلفة وتطوير مهارات اجتماعية تتعلق بالرحمة والتسامح والعدالة، ويشعر القارئ بالتطهر..
كما أن الأدب يساعدنا على الولوج إلى عوالم مدهشة. فنجد أنفسنا، من خلال قراءة الأدب، ننغمس في عالم مليء بالألوان، الأصوات، والمشاهد التي لا توجد بالضرورة في واقعنا. الأدب الخيالي مثلاً، مثل روايات “أليس في بلاد العجائب” للويس كارول أو “مغامرات هاري بوتر” لجاي كي رولينغ، يدفعنا إلى استخدام خيالنا والانفتاح على أفكار وقصص غير معتادة. هذه الرحلة الخيالية لا توسع فقط إدراكنا، بل تساعدنا على التفكير الإبداعي واختبار عوالم جديدة نادراً ما نتعرض لها في حياتنا اليومية.
في مئة عام من العزلة، ومن خلال حياة عائلة بوينديا في بلدة ماكوندو، تناول الروائي العالمي موضوعات إنسانية واجتماعية مثل العزلة، السلطة والحرب، والحب، والصراع بين الأجيال. تُعكس هذه الأحداث بشكل واقعى في الظاهر، من خلال صراعات الإنسان مع ظروفه، ومع العلاقات الأسرية المعقدة، والحروب، والظروف الاجتماعية والسياسية في أمريكا اللاتينية. كما يتداخل الخيال مع الواقع بشكل متقن، مما يجعل الرواية تنتمي إلى ما يُعرف بـ “الواقعية السحرية”، حيث يدمج ماركيز بين الأحداث اليومية والظواهر الخارقة بطريقة تبدو طبيعية تماماً في سياق الرواية. على سبيل المثال، هناك شخصيات تحيا لعدة قرون (مثل جوزيفا بوينديا)، أو شخصيات تطير في السماء (مثل ريناتا ريميديوس “التي تحلق” في السماء). وتظهر أحداث غير منطقية ومفاجئة مثل الولادات الغريبة أو تحول الأشياء اليومية إلى رموز ذات دلالات سحرية، لكن هذه الأحداث لا تُعتبر غريبة في سياق الرواية؛ فهي تتماشى مع منطق عالم ماكوندو الغريب، حيث يتداخل الخيال مع الواقع لتقديم ليس فقط رواية مُدهشة، بل أيضًا للتعبير عن الحقيقة الإنسانية.
لا ريب أن الادب وقراءته يقدم خدمات رفيعة للإنسان، من الصعب الإحاطة بها جميعها في هذا المقالة. كما أنني لم اعط كل الروايات المذكورة أعلاه حقها في الدراسة والتقييم، ومن جهة أخرى هناك مئات الروايات العظيمة والروائيون العظماء لم أستطع ذكرهم. هي محاولة متواضعة للمساهمة في الإجابة على سؤال ” لماذا نقرأ الادب”.