ما الذي يجري على صعيد بعض الدول التي كانت سائرة في فلك السوفيات سابقاً، وفي مقدمها بولندا ، تلك التي رسخت طويلاً جداً في أصفاد السوفيات وأغلالهم، وها هي اليوم تكاد تضحى مهدداً مثيراً بالقرب منهم، وإن لم تكن دولة نووية، إذ يكفي تحالفها الواضح والظاهر مع الولايات المتحدة الأميركية، من زمن “ليش فاليشيا”، نقيب العمال، وتظاهرات ميناء “غدانساك” أوائل ثمانينيات القرن المنصرم، التي كانت الشرارة التي أسقطت الستار الحديدي تالياً.
يتساءل المراقبون والمحللون اليوم، من السياسيين والعسكريين، هل بولندا مرشحة بالفعل لأن تضحى قوة عسكرية مهيمنة في القارة الأوروبية؟ وهل صحوتها هذه مقبولة من بقية الدول الأوروبية لا سيما ألمانيا وفرنسا؟ ثم ماذا عن الدب الروسي القابع على الحدود مع بولندا، وكيف ينظر لهذه الصحوة العسكرية والسياسية دفعة واحدة؟
المؤكد أن الذين تابعوا تطورات المشهد العسكري البولندي على الأرض أوائل شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، قد رسخ في أذهانهم كيف أن البولنديين ماضين قدماً في تشكيل قوة عسكرية تكاد تتفوق على جيرانها، فقد أعلن وزير الدفاع البولندي “ماريوس بلاشتشاك” عن إبرام بلاده صفقة لشراء 486 قطعة من وحدات الإطلاق والتحميل لأنظمة الصواريخ المدفعية عالية الحركة، الشهيرة باسم “هيمارس ” التي تنتجها شركة “لوكهيد مارتن” الأميركية.
للذين لا يعلمون ما هي صواريخ “هيمارس”، هي راجمة صواريخ مثبتة على شاحنة تزن خمسة أطنان، ويمكنها إطلاق ستة صواريخ موجهة في الدقيقة بشكل سريع، مع فترة إعادة تحميل تصل إلى خمس دقائق فقط.
ولعل الأهم في هذه الصفقة، هو الاستحواذ البولندي على التكنولوجيا العلمية الأميركية لتصنيع تلك المنظومة الصاروخية، الأمر الذي يطرح علامة استفهام مهمة جداً، هل باتت بولندا وكيل الولايات المتحدة الأميركية الجديد في القارة الأوروبية؟
العداء التاريخي بين بولندا وروسيا
في التاسع من أغسطس (آب) المنصرم، وفي خضم التوتر المتصاعد بين روسيا وبولندا على خلفية دعم الأخيرة لكييف في الحرب الدائرة بين القوات الروسية والأوكرانية، فتح وزير الدفاع الروسي شويغو نار الانتقادات ضد وارسو.
اعتبر شويغو أن بولندا أصبحت الأداة الرئيسة في يد الولايات المتحدة الأميركية المناهضة، بل والمعادية لروسيا، ولفت إلى أنها أعلنت عزمها على بناء “أقوى جيش” في أوروبا.
يبدو حديث شويغو من حيث المعلومات صحيحاً جداً، بخاصة في ظل صفقات الأسلحة الهائلة التي أبرمتها وارسو، وتسعى في إبرامها مع أميركا من جهة، ومع كوريا الجنوبية الحليف الأميركي من جهة ثانية.
هل تمثل تصريحات شويغو توتراً جديداً على صعيد العلاقات ما بين موسكو ووارسو؟
تاريخياً يعود الصراع بين الدولتين إلى قرابة خمسة قرون خلت، ذلك أن تتبع مسار العلاقات بين الجانبين، يأخذنا إلى القرن الـ16 الميلادي، عندما كانت روسيا عبارة عن “قيصرية موسكوفي” التي تأسست على يد القيصر “إيفان الرابع” عام 1547، فيما كانت “مملكة بولندا ودوقية ليتوانيا الكبرى”، هي الكيان السياسي الذي يسيطر على جزء كبير من المنطقة الحالية التي تشغلها بولندا وليتوانيا.
تبادل الجانبان الحروب بينهما، ففي الفترة ما بين 1558 و1562، تعاظمت أطماع بولندا في أراضي روسيا القيصرية الزراعية، ولهذا جرت الحرب الأولى بينهما التي تعرف باسم حرب “ليفونيا” الأولى عام 1577، واستمرت حتى عام 1582، واستغلت فيها بولندا موت القيصر فيودور لتتحالف مع قوزاك الجنوب، وتمد سيطرتها على معظم أوكرانيا.
غير أن روسيا صعدت من جديد في عام 1654 وخاض الطرفان حرباً استمرت مدة 13 عاماً.
تأججت نيران العداوة وتأصلت جذور الكراهية عبر 500 عام، وصولاً إلى الحرب العالمية الثانية، فبعد 16 يوماً من اجتياح ألمانيا لغرب بولندا، اجتاح الجيش السوفياتي أواخر سبتمبر 1939 شرق بولندا، وعندما قرر هتلر الانقلاب على ستالين والهجوم على روسيا، ضمن ما يعرف بعملية “بارباروسا” الخاسرة شكلت القوات البولندية ركيزة الجيش النازي المقاتل وانضمت له في الحملة ضد موسكو.
عاد السوفيات لبسط هيمنتهم على بولندا بعد خسارة النازي للحرب، وأذاق الشيوعيون البولنديين العذاب طوال نحو أربعة عقود، والجميع يتذكر حكومة الجنرال البولندي “ياروزلسكي” التابع لموسكو، واستمر الوضع حتى عام 1989، عندما شكلت خسارة الحزب الشيوعي في الانتخابات إرهاصات انهيار الاتحاد السوفياتي.
بولندا ومخاوف من سيناريو أوكرانيا
يتساءل المراقبون هل التحضيرات والتجهيزات العسكرية البولندية، هي رد فعل طبيعي لقيام القيصر بوتين بالهجوم على أوكرانيا، أم أن البولنديين يخشون من أن الاتحاد الأوروبي بشكله الحالي، ربما لن يقدر له البقاء طويلاً، وخوفاً من أن يعيد التاريخ صفحاته، سيما في ضوء الاهتمام العسكري الألماني بإعادة التفوق، ومباشرة التسلح والعسكرة مرة جديدة؟
المؤكد أن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، باشرت بإحداث تحول جيوسياسي كبير، بل وخطير في الداخل الأوروبي، فقد تم نقل مركز ثقل حلف الأطلسي من فرنسا وألمانيا إلى دول مثل بولندا وجيرانها في منطقة البلطيق.
أدركت بولندا أن التاريخ يمكن أن يعيد أحداثه، أو أن تتشابه مع “قراءة في المعكوس”، إن جاز التعبير، بمعنى أنه بدلاً من أن يأتيها الخطر من الغرب، كما الحال سابقاً مع هتلر والنازية، ربما هذه المرة تجد الخطر على حدودها الشرقية، وهو ما ألمح إليه بالفعل وزير الدفاع الروسي شويغو، الذي أكد على أن بلاده ستعزز القوات على الحدود مع المحور الاستراتيجي الغربي بالفعل، حيث بولندا في المقدمة، بل ذهب في تصريحاته إلى أن موسكو تفكر بجدية في إنشاء منطقتي ليننغراد وموسكو العسكريتين مع التعزيز المتزامن لمجموعات القوات المسلحة لروسيا على حدود روسيا الغربية.
أمر آخر يجعل بولندا تقلق بعمق، وهو ما نطالعه في تقرير نشره موقع “نيوز ري” الروسي، وفيه أن بولندا قلقة جداً من أي تطورات قد تحدث على حدود البلاد بعد وفاة زعيم “فاغنر” يفغيني بريغوجين بتحطم طائرته الخاصة بالقرب من موسكو.
نقل الموقع الروسي “نيوز ري”، أواخر أغسطس (آب) الماضي عن رئيس الوزراء البولندي “ماتيوش مورافيتسكي” قوله “إن وفاة بريغوجين تثير مخاوف كبيرة بالنسبة إلى وارسو على المستوى الأمني”.
مورافيتسكي أضاف، “بالنسة لي، ستستخدم وحدات فاغنر بقوة أكبر من ذي قبل، أو بالقدر نفسها، كأداة للاستفزاز والابتزاز وتنفيذ هجمات في إطار انتهاك السياسة الأمنية وزعزعة استقرار البلدان المتاخمة لروسيا وبيلاروس”.
هل هناك أحداث على الأرض دفعت رئيس الوزراء البولندي للخوف على هذا النحو؟
المؤكد أن ما زاد من مخاوف وارسو، هو وقوع أحداث يمكن اعتبارها مؤشرات لكشف نوايا الجار البيلاروسي، وبينها رصد طائرتي هليكوبتر تابعتين للقوات المسلحة البيلاروسية من طراز “سي 24″، و”سي 8” كانت تحلقان في مجال منطقة “بيلو فيجيا” الحدودية البولندية، ثم عادتا أدراجهما.
هل تستعد بولندا بالفعل لسيناريوهات كارثية يمكن لموسكو أن تتسبب لها فيها، ومن غير ظهور أياد مباشرة؟
ربما هذا ما حدث بالفعل من قبل بعض الهاكر الروسي الذين حاولوا في أغسطس (آب) الماضي اقتحام شبكة الاتصالات اللاسلكية لخطوط السكك الحديد البولندية بالقرب من منطقة “شتشين” في شمال غربي البلاد، مطلقين إشارات توقف ما تسبب في توقف وتأخير حوالى 20 قطاراً، وأستؤنفت حركة المرور بشكل طبيعي بعد بضع ساعات.
ما جرى كان كفيلاً بإطلاق أجراس إنذار داخل منظومة الأمن البولندي، لاحتمالات وقوع حوادث إرهابية مماثلة، ما حدا بالمتحدث باسم الأجهزة الخاصة البولندية، “ستانيسلاف زارين” لأن يصرح بالقول، “نعلم أنه منذ أشهر عدة بدأت محاولات لزعزعة استقرار الدولة البولندية”، وأضاف أن “مثل هذه المحاولات تقوم بها روسيا الاتحادية بالتعاون مع بيلاروس”.
هل بناء قوة عسكرية بولندية فائقة في أوروبا هو الطريق لتخفيض سقف المخاوف؟
بولندا ورؤية سياسية للقوات المسلحة
أخيراً أعلن قادة حزب القانون والعدالة الحاكم في البلاد أن “بولندا تمضي في تعزيز تفوقها العسكري في أوروبا القارية (لاحظ لفظة قارية) على رغم أن التكلفة العالية لهذا التفوق تشكل مصدر قلق لبعض الخبراء، وإذا سارت الأمور وفقاً للخطة، فسوف تحظى أوروبا قريباً بقوة عسكرية عظمى جديدة ممثلة في الجيش البولندي”.
يعن لنا أن نتساءل، ما هو وضع الجيش البولندي في الوقت الحاضر؟
إنها الإرث التاريخي للقوات المسلحة ذاتها منذ القرن التاسع عشر، التي لاتزال تؤدي مهمتها حتى الآن في حماية بولندا، وتتكون من القوات البرية والبحرية والجوية.
عطفاً على ذلك هناك القوات البولندية الخاصة وقوات وزارة الدفاع البولندية، في عام 2009 صنفت القوات البولندية في المرتبة 20 دولياً، وآخر العمليات التي قامت بها هي إرسال وحدات للمحاربة في العراق وأفغانستان.
على أن ما رشح من تصريحات لقيادات وزارة الدفاع البولندية ومسؤولين سياسيين وعسكريين، يشي بأن هناك سيناريو آخر للقوات البولندية قادم في الطريق… ماذا عن ذلك السيناريو؟
المقطوع به أن أربعة عقود من الكابوس الروسي الجاثم فوق صدر بولندا، منعها بالفعل من تكوين جيش قوي حديث ونموذجي، وأن البولنديين لم يقدر لهم التفكير خارج مربع السطوة السوفياتية، إلا بعد تحررهم من نير الشيوعية.
خذ إليك على سبيل المثال ما صرح به رئيس الوزراء البولندي “مورافيتسكي”، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، فبينما كانت البلاد تحتفل باستقلالها عن المعسكر الشيوعي أوضح أنه “يجب أن يكون الجيش البولندي قوياً إلى درجة أنه لا يضطر إلى القتال بسبب قوته وحدها”، كما وعد بأن يكون للبلاد “أقوى القوات البرية في أوروبا”.
أما وزير الدفاع “ماريوش بوشكزاك”، فبدا وكأنه تبع نهج القاعدة الذهبية في عالم القوى الكبرى “تكلم عن السلام وأمسك بعصا غليظة” أو “إذا أردت السلم فاستعد للحرب”.
يقول بوشكزاك، “نريد السلام وإذا أردنا ذلك، فيجب علينا الاستعداد للحرب، وفي هذا الصدد، فإننا نعزز الجيش البولندي على عكس أولئك الذين حكموا حتى عام 2015”.
يتساءل بعض المراقبين، هل ما يجري في بولندا أمر مدفوع بالتيارات الشعوبية واليمينية التي تزخر بها القارة الأوروبية حالياً؟
هناك من يقطع بأنه من المحتمل جداً أن يكون هذا النطاق الكبير من الأوامر المخططة مدفوعاً بالشعبوية السياسية، التي تهدف إلى اكتساب شعبية في الداخل البولندي في هذا التوقيت، بدلاً من أن تكون هناك خطط حقيقية ومدروسة جيداً لتعزيز القوات المسلحة بشكل متناغم.
يعتقد الخبير العسكري البولندي “روبرت كزولدا”، أن المشهد البولندي العسكري، يبدو الآن وكأنه مفاضلة بين “البندقية والزبده”، أي بين أكلاف الحياة الاعتيادية، وبين فاتورة الإنفاق العسكري.
يقطع كزولدا بأنه “يجب على بولندا التأكد من أن برامج المشتريات هذه مستدامة وبأسعار معقولة على المدى الطويل، ويجب على البلاد أن تتجنب خطر الإفراط في الإنفاق، الذي يبدو الآن مرتفعاً للغاية”.
ملامح القوات المسلحة البولندية الجديدة
ما الذي ترغب فيه وارسو عسكرياً في مقبل الأيام؟
مؤكد أنها تتطلع إلى تجنيد 150 ألف جندي خلال العقد المقبل، وهو ما من شأنه أن يرفع عديد جيشها من 128 ألف جندي نشط و36 ألف جندي إقليمي إلى 300 ألف جندي بحلول 2035.
ومع القوات الجديدة سوف تنشئ البلاد ست فرق مدرعة، مع العلم أن مخططات الجيش الفرنسي لا تتجاوز إنشاء فرقتين، والأمر نفسه ينسحب على ألمانيا، فيما لا تمتلك المملكة المتحدة سوى فرقة واحدة.
تعطي بولندا اهتماماً كبيراً لتطوير قواتها الجوية، فقد طلبت 32 مقاتلة متعددة المهام من طرز “أف- 35” بموجب صفقة قيمتها 4.6 مليار دولار مع الولايات المتحدة، فيما تمتلك بولندا بالفعل 48 طائرة مقاتلة من طراز “أف- 16″، غير أن وزير الدفاع البولندي أشار في سبتمبر الماضي إلى أن القوات المسلحة البولندية بحاجة إلى سربين إضافيين على الأقل من الطائرات المقاتلة متعددة المهام.
ومن المقرر تسليم مقاتلة جيل خامس متعددة المهام ذات المقعد الواحد والمحرك الواحد مخصصة لأداء مهام التفوق الجوي والهجوم في جميع أحوال الطقس، وتعد من أفضل المقاتلات في العالم إلى جانب أنها قادرة على خوض الحرب الإلكترونية عبر إمكاناتها الواعدة في الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع.
شرعت بولندا بالفعل في تنفيذ الخطة التي ستقودها لامتلاك أقوى جيش في أوروبا، فهي تمر بمرحلة انتقالية وقدمت طلبات لشراء مئات المركبات الأميركية والألمانية والكورية الجنوبية، كما قامت بتوسيع إنفاقها الدفاعي لأكثر من ثلاثة في المئة من ناتجها بحسب “فرانك ليدويدج”، وهو محام وضابط سابق، خدم في البلقان والعراق وأفغانستان.
هل هناك اعتمادات حقيقية في الموازنة العامة البولندية تسمح بمثل هذا التحول العسكري غير المسبوق؟
المؤكد أن ذلك كذلك، ففي العام الماضي، وقع رئيس بولندا، الدولة التي أصبحت كاملة العضوية في حلف شمال الأطلسي منذ عام 1999، على مشروع قانون يسمح للحكومة بإنفاق اثنين في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع اعتباراً من عام 2023، وهي نسبة تفوق رقم إنفاقها الحالي، الأمر الذي لم يكن متوقعاً من أعضاء الحلف.
هل هناك جزئية ما بعينها تجعل حظوظ بولندا العسكرية قوية جداً مقارنة ببلدان أوروبية أخرى تسعى لنهضة عسكرية مثيلة؟
يبدو أن الإقبال بين الشباب البولندي على الالتحاق بالقوات المسلحة، أمر بات يفوق بكثير جداً ما يحدث في ألمانيا مثلاً، التي تكافح من أجل جذب متطوعين جدد.
هنا يصرح “غوستاف غريسيل”، الضابط العسكري النمساوي السابق، الباحث الأمني الآن في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية بالقول، “البولنديون لديهم موقف إيجابي تجاه جيشهم أكثر من موقف ألمانيا مثلاً، ذلك لأنهم اضطروا للقتال أكثر من مرة من أجل حريتهم، وفي الدوائر العسكرية لا أحد يشكك في جودة الجيش البولندي”.
هل يعني ذلك أن القوة العسكرية البولندية سوف تترجم إلى نفوذ سياسي في أوروبا؟
تبدو هذه مسالة أخرى في حاجة إلى متابعة سيما في ظل التوتر الموجود بين الاتحاد الأوروبي وبين وارسو، والخلافات حول مسألة الحريات والديمقراطية.
على أن الجانب العسكري البولندي لا يستقيم الحديث عنه دون مشاغبة العلاقة الأميركية – البولندية، سيما أن واشنطن تعتبر وارسو خنجراً في خاصرة موسكو، فيما وراسو، ترى في واشنطن نافذتها على ما بعد السلاح التقليدي… ما الذي نعنيه بذلك؟
قاعدة “بوزنان” وطموحات بولندا النووية
تبدو بولندا وكأنها باتت جاراً مزعجاً لروسيا إلى أبعد حد، لا سيما من خلال القاعدة الأميركية القائمة على أراضيها بالقرب من قرية “ريدزيكوفو”، التي تبعد نحو 100 ميل من الأراضي الروسية، الأمر الذي يعد بالفعل كابوساً لبوتين وللعسكرية الروسية.
لا ينفك الكرملين يطالب البيت الأبيض بالإعلان عما تحويه هذه القاعدة السرية من أسلحة أميركية.
هذه القاعدة تحوي أسلحة تراها موسكو قد تغير موازين القوة في المنطقة، ذلك لأنها تحتوي على نظام “إيجيس” المضاد للصواريخ الباليستية، وعلى رادارات متطورة قادرة على تتبع الصواريخ المعادية، وتوجيه الصواريخ الاعتراضية لإخراجها من السماء، وهي مجهزة أيضأ بقاذفات صواريخ من طراز “أم كيه 41″، التي يخشى الروس من إمكانية إعادة استخدامها بسهولة لإطلاق صواريخ مثل “توماهوك”.
والثابت أنه في مارس (آذار) الماضي، أعلنت بولندا افتتاح قاعدة “بوزنان” بشكل رسمي، لتضحى أول قاعدة عسكرية أميركية على الأراضي البولندية، يمكنها عند لحظة بعينها من الرؤوس الساخنة أن تطال موسكو وبقية المدن الروسية الكبرى بالصواريخ الفرط صوتية، وحتى من دون الحديث عن الأسلحة النووية.
هذه القاعدة أنشئت بناء على قرار الرئيس الأميركي جو بايدن، عام 2022، بهدف “دعم البنية التحتية للقوات الأميركية المتمركزة في بولندا، وقيادة وإدارة المواقع المتقدمة للقوات الأميركية فيها”.
وتعد القاعدة حامية دائمة للقوات الأميركية في أوروبا، حيث يتواجد حالياً في بولندا قرابة 10 آلاف جندي من دول حلف “الناتو” غالبيتهم من الأميركيين.
على أن التساؤل المثير، بل المقلق للروس، هل يمكن لبولندا الجار الأقرب، أن تضحى دولة نووية في زمن منظور؟
المعروف أنه منذ الحرب الباردة دخلت دول غربية عدة لا تملك القنبلة النووية في برنامج مشترك لنشر الأسلحة النووية مع الولايات المتحدة، أبرزها بلجيكا وألمانيا وإيطاليا وتركيا.
وبحسب بيان صدر في شهر يونيو (حزيران) الماضي، عن رئيس الوزراء، فإن بولندا بدورها تسعى للدخول في “خطة المشاركة النووية”، مع الولايات المتحدة الأميركية.
ما الذي تريده وارسو من واشنطن على وجه التحديد؟
باختصار غير مخل، تريد بولندا من واشنطن نشر قنابل نووية من نوع “B-61″، في البلاد وأن تدرب القوات الجوية البولندية على تشغيلها، وقد برر رئيس وزراء بولندا هذا الطلب بقوله “إن نشر روسيا أسلحة نووية على أراضي بيلاروس جارتها، يدفع البلاد في هذا الاتجاه”.
هل ستكون بولندا هي نقطة صراع عسكري في أوروبا عام 2040، ضمن سياقات حروب عالمية مجزأة؟
هذا ما أشار إليه جورج فريدمان، رجل استخبارات الظل في مؤلفه “الـ 100 عام المقبلة”.
في مايو (أيار) 2022 كتب رئيس وزراء بولندا وقتها، “ماتيوز موراويكي”، عبر صحيفة “تليغراف” البريطانية متحدثاً عن ضرورة تدمير أيديولوجية العالم الروسي، يقول “لا يمكننا أن نحمل أوهاماً، هذا ليس جنوناً (هجوم روسيا على أوكرانيا)، لكنه استراتيجية مدروسة فتحت بالفعل أبواب الإبادة الجماعية”، ويضيف “العالم الروسي سرطان لا يلتهم معظم المجتمع الروسي فحسب، بل إنه يشكل أيضاً تهديداً مميتاً لأوروبا بأسرها، لذلك لا يكفي دعم أوكرانيا في صراعها مع روسيا، بل يجب أن نقضي تماماً على الأيديولوجية الوحشية الجديدة”.
من قال إن الإرث السيئ للشيوعية في بولندا قد انمحى من الصدور؟
حكماً هو قائم ومقبل، والليالي حبلى بالمفاجآت.