حين وسع فرويد دائرة اهتماماته الأدبية ليضم “حالة ريبيكا” إلى سلسلة تحليلاته الواقعية

هنريك إبسن: من الواقعية إلى شاعرية الميلودراما (غيتي)

في كل مرة يصار فيها إلى الحديث عن رائد التحليل النفسي فرويد  وعلاقته بالأدب كمادة أخضعها بشكل ممنهج إلى دراساته في المجال الذي ابتكره واشتغل عليه، يكاد الحديث يقتصر على بضعة أعمال تبدأ بأسطورة أوديب لتصل في أقصى الحالات إلى حكاية “الليدي غراديفا” لمعاصره جانسن، مع مرور أساسي حيناً على دوستويفسكي وقضية قتل الأب وحيناً على هاملت وعلاقته بأوديب نفسه. والحقيقة أن في هذا نوعاً من الظلم لمئات الصفحات الأخرى التي تناول فيها فرويد، وغالباً ببحث معمق يحاول من خلاله أن يؤكد نظرياته التحليلنفسية الخاصة ويتسلل من خلالها إلى الوعي البشري نفسه. والحقيقة أن كثراً من الباحثين الفرويديين والأقل فرويدية اشتغلوا على هذا الموضوع ليصلوا ولا سيما خلال النصف الأول من القرن الـ20 إلى نتائج مبهرة وسعت من دائرة الغوص في هذا الجانب من الجهد الفرويدي. ولعل المأخذ الأكبر على تاريخ الدراسات الفرويدية في هذا المجال كان أن صاحب العلاقة نفسه، فرويد، لم يتجه أبداً لا إلى تجميع تلك الدراسات العديدة التي كتبها حول هذا الموضوع في سياق واحد، ولا إلى استخلاص نتائج عامة عن علاقتها بحياة الإنسان ووعيه، سواء كان وعياً جلياً أو وعياً باطنياً. ومن هنا كان البحث والتنقيب عن دراسات وحتى عن فقرات قصيرة في ثنايا النصوص الفرويدية، مهمة قد تكون شاقة أحياناً، لكنها بدت في نهاية الأمر ممتعة لمن قاموا بها ولمن تلقوها. ولعل من أهم تلك الدراسات تلك التي نشرها فرويد ضمن إطار دراسة بعنوان “بضعة أنماط من النماذج البشرية انطلاقاً من عمل التحليل النفسي” وتوجد الآن في الجزء العاشر من الطبعة الألمانية لأعماله الكاملة.

وجه آخر لكاتب واقعي

ولعل اللافت في الفقرة التي تهمنا هنا هو أن فرويد يتناول فيها ولمرة شبه نادرة عملاً للنرويجي هنريك ابسن  (1828 – 1906) معاصره تقريباً، ليس بالتأكيد واحداً من تلك الأعمال التي اشتهرت لإبسن أكثر من غيرها، أي الأعمال التي تنتمي إلى مرحلة إبسن الأكثر واقعية (من “بيت الدمية” إلى “عدو الشعب” ومن “هيدا غابلر” إلى ما يشبهها من أعمال تبناها هواة الواقعية مبكراً ورأوا فيها وجهاً لإبسن جمدوه عنده، باعتباره مناضلاً اجتماعياً محارباً للفساد ومناصراً لحقوق المرأة وما إلى ذلك)، ففي مثل هذه الأعمال لم يجد فرويد بالأحرى مجالاً لاستعراض همومه التحليلنفسية وتطبيقها على الأدب المسرحي باعتباره صورة ما للحياة. لكنه في المقابل وجد ذلك المجال في مسرحيات أخرى أكثر شاعرية بل حتى ميتافيزيقية من نتاج إبسن، مثل “بير جنت” و”براند” وصولاً طبعاً إلى “روزمرزهولم” (1886) التي على رغم كونها الأقل شهرة حتى اليوم بين مسرحيات إبسن الكبرى، يتوافق باحثون ومؤرخون ونقاد كبار على أنها يمكن أن تعتبر، وعلى الإطلاق، مسرحية إبسن الكبرى. وهذا ما يوافقهم عليه فرويد ولو من خلال خصه المسرحية بتحليل بديع على اختصاره. ولقد كان من الأمور المهمة أن يعنون فرويد ما كتبه حول هذه المسرحية بـ”حالة ريبيكا” أسوة بما عنون به “حالات” حقيقية أخرى عرضت له في بداياته (حالة دورا… حالة الصغير هانس… حالة الرئيس شريبر… إلخ). والواقع أن هذا النمط من العنونة الذي اختاره فرويد للحالة التي يعرضها إبسن في مسرحيته خير دلالة على اهتمامه الاستثنائي بها.

مأساة في بيت الكاهن

و”حالة ريبيكا” يعرضها فرويد على أية حال باعتبارها نصاً يتناول أزمة عائلية موضعها في إطار بيت الكاهن يوهان روزمر. ولقد أتت الأزمة هنا من خلال تلك المأساة التي عرفها الكاهن إذ وضعت زوجته المريضة منذ فترة، حداً لحياتها انتحاراً بسقوطها قرب طاحونة وهي في رفقة وصيفة البيت ريبيكا التي كانت تعنى بها منذ سنوات. ولقد أحدث ذلك الرحيل المفاجئ قلبة أساسية في حياة الكاهن الذي قرر على الفور أن يتخلى عن معتقداته المتوارثة أباً عن جد ويكرس نفسه وحياته مذاك وصاعداً لخدمة الشعب وتحريره وذلك بتأثير مباشر من ريبيكا نفسها. غير أن اجتماعه ذات لحظة بشقيق زوجته الراحلة بيات، سرعان ما يزرع شكوكاً قوية في نفسه تتعلق خاصة بريبيكا وبكونها وراء الجنون الذي كان قد أصاب الزوجة ودفعها أيضاً تحت تأثير ريبيكا نفسها إلى رمي نفسها حيث ماتت. وهكذا يقوم الكاهن بتحقيق معمق يوصله إلى الحصول على اعتراف واضح من ريبيكا، أولاً بكونها مغرمة به، وثانياً بكونها هي التي جرت بيات إلى نهايتها جنوناً ثم انتحاراً، وثالثاً وهذا ليس أقل الأشياء طبعاً، أنها تعيش وهي في ظل ماضيها الذي ستكشف بالتدرج كيف أن أباها بالتبني الذي رباها صبية كان في الحقيقة أباها الحقيقي واغتصبها في صباها المبكر، مما أوصلها إلى الحال التي تعيشها اليوم بفعل علاقة المحارم التي تكبدتها.

على درب التضحية

والحقيقة أن ما أثار مزيداً من اهتمام فرويد في هذه الحالة إنما كان القلبة التي بفعل هذه الاعترافات إنما تفسر سلوك ريبيكا، كما تفسر ما سبق ذلك وتلاه من رفض هذه الأخيرة الزواج من الكاهن، إذ عرض عليها ذلك بعد موت زوجته كأمر ينتمي إلى “تحصيل الحاصل”. فهي بفعل هيامها به، الهيام الذي دفعها إلى التخلص من زوجته التي “باتت عبئاً عليه” كما ستقول بكل وضوح – وهو أمر كان من ضمن الأمور التي أقنعت الزوجة بها خلال حواراتهما الطويلة كما تعترف أثناء تحقيق الكاهن معها، مما دفع الزوجة إلى الانتحار في نوع من التضحية. والآن ها هي ذي الآية تنقلب وها هي ذي ريبيكا تتحول بدورها تحولاً يجعلها تقرر سلوك درب التضحية نفسه الذي سلكته بيات من قبلها. وبالطريقة والوسيلة نفسها. على غرار ما فعلت بيات ستنهي ريبيكا حياتها ولكن هذه المرة… في رفقة روزمر نفسه الذي ستصحبه إلى جوار الطاحون حيث سيلقي الاثنان بنفسيهما معاً من على أعلى المهوار الذي رمت بيات نفسها منه. وهكذا ستتوحد ريبيكا مع “حبيبها” في الموت مضحية هي الأخرى في سبيله كما سبق لبيات أن فعلت من قبلها.الكابوس السعيد في عالم يتغير

طبعاً للوهلة الأولى قد يبدو أمراً عصياً على التصديق أن يهتم “كبير كتاب المسرح الواقعي عند بدايات القرن الـ20” بمثل هذا الموضوع الميلودرامي جاعلاً منه موضوعاً لمسرحية متأخرة له. ولكن التعمق في الشغل الذي اشتغله فرويد في مجال تحليله هذه المسرحية مذكراً بأن إبسن إنما كتبها مباشرة بعد انتهائه من كتابة “البطة البرية” التي نُظر إليها دائماً باعتبارها مسرحية انتقالية في مساره، يكاد يقدم ما يكفي من التفسير لولوج الكاتب المسرحي النرويجي الكبير هذا اللون من المواضيع التي تعتمد التحليل النفسي بدلاً من اعتماد التحليل الاجتماعي كما كانت الحال سابقاً. وفي سياق هذا البعد النفسي الذي يتزامن على أية حال مع ما كان قد بدأ يلوح من اهتمامات بالسلوك الشخصي ولا سيما انطلاقاً من فيينا التي كانت قد بدأت تعيش جملة من المسالك التي جعلتها تسمى بعد حين “مدينة الكابوس السعيد”، كان قد بات من الواضح أن ثمة أموراً كثيرة تدفع الاهتمام بالفرد إلى جوانيته بدلاً من كونه محصوراً في برانيته. ولقد كانت فيينا وغيرها من عواصم أوروبا الوسطى مركز تلك الحركة التي كان من الطبيعي لإبسن أن يتلقاها وبالتالي يتوقف عنده وعندها ابن فيينا ومواكب “كابوسها السعيد” فرويد الذي رأى في “حالة ريبيكا” نموذجاً أدبياً، ولكن حياتياً أيضاً، يؤكد نظرياته ولا سيما بالنسبة إلى علاقات المحارم التي بنى عليها الجزء الأكبر من نظرياته الجنسية، تلك النظريات التي يتعين علينا ألا ننسى أبداً أنها كانت في خلفية القطيعة بينه وبين يونغ بعدما كان قد عينه… خليفة له ووريثاً أول الأمر!