ملخص
يبرز المتخصص في العلاقة بين التاريخ والفولكلور عمرو عبدالعزيز منير في دراسة أرفقها بتحقيقه لكتاب “الفاشوش في حكم قراقوش” للأسعد بن مماتي (ت 606هـ- 1209م) والروايات المتعددة له في العصر الأيوبي والعصرين المملوكي والعثماني، ما تنتجه الثقافة الشعبية فيرقى في الذاكرة الجمعية إلى مرتبة “الحقيقة”، في مواجهة ما يسطره المؤرخون الرسميون.
لعل الدراسة التي يتضمنها كتاب “الفاشوش في حكم قراقوش بين التاريخ والحكي الشعبي” (دار العين) تعد كما يقول الباحث عمرو عبدالعزيز منير محاولة لتجديد التساؤلات حول ذلك الكتاب “الذي واجه الإهمال والازدراء بشجاعة”.
ويرى منير أنه على رغم الصورة الإيجابية التي رسمتها المصادر التاريخية لشخصية بهاء الدين قراقوش، فإن الثقافة الشعبية المصرية رسمت صورة مخالفة للشخصية نفسها، وهي تلك التي يظهر فيها قراقوش شخصاً سفيهاً، غبياً، متسرعاً، يحكم بما يخالف العقل والمنطق، مما جعل من قصصه ونوادره أضحوكة يتناقلها المصريون فيما بينهم، ويضربون بها الأمثال. ومن هذا المنطلق يذهب منير، وهو أكاديمي مصري سبق له العمل أستاذاً لتاريخ وحضارة العصور الوسطى في جامعة أم القرى، إلى أن “مقدار الأمانة والصدق اللذين يحتويهما هذا الكتاب المغبون لا يدانيهما إلا مقدار الضيم الذي يشيع في أرجائه، إذ يروي وجهة نظر مشروعة في السلطة، وبغض النظر عن صحة هذه الوجهة أو خطئها، فإنه لا يمكن إنكار وجودها، بخاصة على مستوى الدال والمدلول”.
وهو يوضح في هذا الصدد أن كتاب “الفاشوش” دل على عمل ذهني لشريحة اجتماعية كان لها موقف من السلطة وآليات عملها، وهو أيضاً يقدم مدلولات ثقافية تاريخية تتجاوز الأحداث والشخصيات الواقعية، لتشتغل على وظائف السلطة بشخصياتها الرمزية، وآليات عملها داخل سياق اجتماعي تاريخي، ومن خلال سرد يختلط فيه الواقعي بالمتخيل.
المؤلف الأول
قسَّم منير، وهو أيضاً عضو في هيئة المخطوطات الإسلامية في كامبردج – لندن، الكتاب إلى قسمين: قسم للدراسة، وآخر للنصوص المحققة للحكايات المتصلة بشخصية “قراقوش”، بروايات متعددة لأزمان متعاقبة (الأيوبي، المملوكي، العثماني). وجاء القسم الأول في أربعة أجزاء، تسبقها مقدمة، تناول أولها حكاية “الحكايات”، أو بمعنى أدق تناولت كتاب “الفاشوش” بين التاريخ والفن والحكي الشعبي، وقدم المحقق خلالها وصفاً وتحليلاً لكلتا الخلفيتين لهذا الكتاب. والثاني، “كان من نصيب الشخصية الأكثر فعلاً وتأثيراً في هذا النص، والتي نعدها البطل الحقيقي، وهو ابن مماتي المؤلف الأول لهذه الحكايات”. والثالث خصص للحديث عن الشخصية الأشهر “قراقوش”، أو كما تظهره حكايات الكتاب “البطل الزائف”. أما الرابع فكان من نصيب شخصية المحكومين، “التي مهما تغيرت ذواتها فهي مدار لفعل الآخرين، اللهم إلا في لحظات التجلي الروحي، أعني الاحتجاجات والرفض” (ص16).
والقسم الثاني يتضمن الحكايات المحققة برواياتها المتعددة من مصدرين هما: “المختار من كتاب الفاشوش في حكم قراقوش” للأسعد بن مماتي، “الفاشوش في أحكام قراقوش” مما جمعه جلال الدين السيوطي (ت 911هـ)، ثم ما ورد في المصادر التاريخية، ومنها: “الفاشوش في حكم قراقوش” مما جمعه غرس الدين خليل بن شاهين الظاهري الحنفي (ت 873هـ) في كتابه “زبدة كشف الممالك وبيان الطرق والمسالك”، إضافة للحكايات المتناثرة في بطون المصادر والمخطوطات، وأخيراً “الطراز المنقوش في حكم السلطان قراقوش” مما جمعه الشيخ عبدالسلام اللقاني المالكي (ت 1078هـ) في مجموع له محفوظ في مكتبة بافاريا في ميونيخ بعنوان “مقدمة في العشق والمحبة”.
الدلالات الثقافية
وفي التمهيد رأى منير أن استراتيجية البحث في نص على هذه الشاكلة تستلزم التحرك نحو رصد الدلالات الثقافية وتحليلها في إطارها التاريخي، وهذا ما يستلزم اللجوء إلى مقاربة تنطلق من إشكالية النص، وما يقدمه من دلالات في سياقه التاريخي، ولاختيار المقاربة المنهجية التي يمكنها أن تشتبك مع تلك الإشكالية، كان لا بد من الرجوع إلى حكايات كتاب “الفاشوس في أحكام قراقوش” ذاته، لنجد أن المحور الأساس له هو الأحكام والحكايات التي قدمها على الشخصية الفاعلة لها “قراقوش”، والتي يمكنها في الحقيقة أن تتجرد من واقعيتها فتخرج من إطار الشخصية الواقعية إلى الشخصية الرمزية المعبرة عن السلطة، لكنها كذلك ليست أية سلطة، بل هي سلطة مؤطرة بسياق تاريخي وواقع اجتماعي محدد، لذا فإن وظائفها وتقييم تلك الوظائف، من الممكن أن تكون المقاربة الأكثر عملية لمعالجة إشكالية الدراسة.
ولاحظ منير أن الروايات المتعددة لحكايات الفاشوش في نسخها المخطوطة، تتميز بسمات معينة وظواهر لغوية ولهجية وإملائية، وذلك لأنها في الأساس قائمة على الشفاهية والإلقاء على السامعين، والحاكي يتكلم بالعامية، وأحياناً يمزج العامية بالفصحى، والعكس. بالتالي يقدم شهادة عن مدى الحرية الاستثنائي الذي وصلت إليه كتابة، أو بالأحرى وضع كتابة على يد فئة من الكتاب والناسخين الذين يدخلون في تيار التقليد الشفهي، والذين يكتبون أو ينقلون الكلمات كما يسمعونها. ورأى كذلك أن حكايات الفاشوش تؤكد أن “الفن والأدب الشعبي هما وسيلة للتعرف على الحياة الفكرية للشعب المصري”، كما سبق أن أكد المؤرخ المصري الراحل قاسم عبده قاسم.
في الأدب والفن
اشتملت الدراسة على فصل تحت عنوان “تاريخ قراقوش بين الأدب والمسرح والسينما”، رأى في مستهلها أن شخصية بهاء الدين قراقوش، المولود على الأرجح في بداية القرن السادس الهجري، مرت بتحولات عدة، فقد رأى بعض المؤرخين والحكائين في شجاعته تجاه الصليبيين “تنشئة طيبة لرجل نبيل”، بينما أفاض عنها عباس العقاد في كتابه “جحا الضاحك المضحك”، وتحديداً في فصل بعنوان “النوادر القراقوشية”، أورد فيه العديد من الحكايات “التي تعكس رؤيته لاستبداد قراقوش في كل عصر”. ولاحظ منير أن حكايات قراقوش ظلت تروى على ألسنة الناس في القاهرة حتى نهاية الأربعينيات من القرن الماضي، “أي إنها عاشت في وجدان الشعب كمأثورات شعبية مروية نحو ثمانية قرون”. وينقل عن عبدالمنعم شميس قوله في كتابه “قهاوي الأدب والفن في القاهرة” أن هذه المرويات الشعبية لم يسجلها أحد كما سجلها ابن مماتي مما سمعه في عصره عن قراقوش. ورأى شميس أن لقب “قره – قوش”، ويعني بالتركية النسر الأسود، أطلقه صلاح الدين الأيوبي على وزيره بهاء الدين الطواشي، بعدما أنشأ قلعة القاهرة وسورها “بهمة عالية وإرادة حديدية”.
حكايات متخيلة تحمل كثيرا من البهجات الصغيرة
حكايات الصبي النوبي الذي اكتشف القاهرة وعاد إلى قريته
ويرى منير أن قراقوش ترك بصمات واضحة في وجدان الشعوب العربية، وشكل نوعاً فريداً من “القوة الناعمة للحكي الشعبي”، التي امتد تأثيرها إلى خارج حدود مصر، وما زالت نوادره وحكاياته تلقى رواجاً حتى الآن، وأضحى “حكم قراقوش”، “هو قمة التاج الذي يكلل مهمة هذا الرجل بعدما شكلت هاتان الكلمتان مثلاً من أكثر ما يستشهد به الناس في منطقة الشرق الأوسط، للإشارة إلى الحكم الظالم والمتعسف الهزيل، ويرى الجمهور أنه مثال للديكتاتورية والاستهتار والجهالة في بلاد العرب” (ص53، 54)، بحسب مقال لخالد القشطيني نشرته صحيفة “الشرق الأوسط في 27 مايو (أيار) 2019.
جدل مستمر
في عام 1953 أنتجت السينما المصرية فيلم “حكم قراقوش” للمخرج فطين عبدالوهاب، وفيه يظهر بهاء الدين “مستبداً لا يعرف الرحمة”، بينما صوَّره يوسف شاهين في فيلم “الناصر صلاح الدين” 1963 على أنه حاكم عكا “الوغد الخائن للقومية العربية الاشتراكية”! بعدما قدمه نجيب الريحاني عام 1935 في مسرحية “حكم قراقوش” في صيغة كوميدية رومانتيكية. وفي بيروت عام 2007 حرك اللبناني منير كسرواني أوجاع الناس – بتعبير منير – وجسدها بفكر كوميدي ناضج في عمل مسرحي ألفه منصور عيد وأخرجه بسام لحود، عنوانه “حكم قراقوش”، “فيه إسقاط على الواقع اللبناني” (ص71).
وعلى أية حال فإن الجدل في شأن الهوة بين “قراقوش” الشخصية التاريخية، و”قراقوش” الذي ابتدعته المخيلة الشعبية في حكايات ونوادر يعد ابن مماتي أول من ألفها، لم ينقطع منذ نحو ألف عام. وابن مماتي الذي يشكك البعض في كونه شخصية حقيقية، ويرى البعض أنه ليس المؤلف الحقيقي لحكايات قراقوش كان وفق دراسة عمرو عبدالعزيز منير، “نموذجاً للمثقف الذي يطوع وعيه، في خدمة الجماعة الشعبية وتوجهاتها”، بصرف النظر عن صحة ما نسبه إلى قراقوش وحوله بالتالي من شخصية تاريخية إلى “بطل زائف”، يرمز إلى الحاكم المستبد الأحمق في أي مكان وزمان، فيما تمتع ابن مماتي، “بكل صفات البطل الشعبي، على رغم ملاحقته حياً وميتاً من قبل مؤرخي السلطة”، وبقي تاريخ الحكاية الشعبية “أصدق من التاريخ” (ص102).