الكاتبة الأميركية كيت زامبرينو (صفحة الكاتبة – فيسبوك)

الخدعة الأولى التي تطالعنا بها الكاتبة الأميركية كيت زمبرينو (1977) في كتابها الصادر حديثاً، مترجماً إلى العربية  (2023) بعنوان “أن تكتب كما لوكنت ميتاً”، والصادر عن دار منشورات تكوين (ترجمة: إيمان أسعد)، وهي إيحاؤها بأن ما تكتبه يندرج في بابالسيرة  الذاتية المنقوصة، أي المحددة في إطار زمني هو إطار عملها الحالي، أستاذة في كلية، وهي فعلاً أستاذة الكتابة الإبداعية في جامعة كولومبيا، ومباشرتها، في الآن نفسه، إعداد دراسة عن كاتب فرنسي هو هيرفيه غيبير. فيتبين للقارئ أن الكاتبة تعرض فيه طروحات، لتناقشها تالياً، من مثل أطروحة “موت المؤلف” لمطلقها الباحث الفرنسي رولان بارت، ثم لا تلبث أن تعقب على آرائها بمقطع سردي، تحكي فيه حملها وتربية طفلتها وعن الصدمات التي تتوالى عليها لدى محاولتها إصدار روايتها الجديدة، وغيرها من الحوادث العارضة التي تصير جزءاً لا يتجزأ من نسيج الكتاب.

تقول مترجمة الكتاب، إيمان أسعد، في “كلمة المترجمة” إن سؤالاً ظل متداولاً بينها وبين الناشر، وهو “كيف نصنف الكتاب؟”. وهي لا تنفي أن طابع الكتاب العام هو سردي، إلا أنه ليس رواية بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، ذلك أن فيه كلاماً على معضلة الصداقة بين الكتاب، وفيه قدراً لا بأس به من السيرة، وكلاماً على مرض الإيدز أو السيدا، بالتوازي مع أمراض الكاتبة المترافقة مع حملها، وبالتزامن مع شهادات شخصية تتصل بجائحة كورونا، واضطرار الكاتبة إلى الانعزال مع زوجها وطفلتها، وسرد لوقائع مرض طفح جلدي أصابها بسبب مضاعفات الحمل، وسط انهيار النظام الصحي في المدن الأميركية الكبرى، وموت عشرات الآلاف من عدوى هذا المرض…

إذاً، ولئن كان الكتاب خليطاً بين أنواع وأنماط مختلفة، قد يكون خيط السرد الواهي الرابط الشكلي بينها، فإن الثيمة الفكرية هي القاسم المشترك بين جزأي الكتاب: الأول بعنوان “اختفاء”، والثاني بعنوان: “أن تكتب كما لو كنت ميتاً”، وهذه الثيمة هي: مدى ارتباط الكتابة الإبداعية بالمؤلف، وأثر الموت أو تهديد الموت على مؤلف الكتاب، بل على مؤلفي الكتب والفنانين والمبدعين بعامة، ذلك أن الكاتبة زمبرينو الأميركية لا تخفي إحالتها على بعض من تراث فلسفي حديث ومعاصر بمعظمه صادر عن فلاسفة وكتاب فرنسيين وألمان، أمثال: ميشال فوكو ورولان بارت وروبير موزيل وهيرفي غيبير وجان جينيه وغيرهم.

اختفاء المؤلف

في الجزء الأول من الكتاب، بعنوان “اختفاء”، لا تزال الكاتبة تورد مراجع وأمثلة عن اختفاء المؤلف تدليلاً على الأطروحة التي خرج بها رولان بارت والتي تقول، إن “موت المؤلف” يعني أنه لا فضل للكاتب على ما يكتبه، بل إن فضله الوحيد هو في كونه “نساخاً وناسجاً لنصوص متناصة، التي لا يدعي أحد أنه مبتدعها… وأن المؤلف أشبه ما يكون بفنان التجهيز أو بالفنان العادي الذي يستخدم أدوات وألواناً مسبقة التكوين ومشاهد ووضعيات وغير ذلك مما لم يسبق له ابتكاره! وهذا بالطبع ما قد لا يوافقه عليه آخرون ليس الآن مجال لتفصيل آرائهم”.

 أما الكاتبة كيت زمبرينو، فتضيف إلى هذا التصور -الحاصر وظيفة المؤلف في اللغة وحدها- بعداً إنسانياً درامياً، إذ تقصت مراحل حضوره في الدنيا وعيشه فيها، فقيراً، منفياً، مفتضحاً، مهزوماً، مطروداً من العالم، هو ما يعزز فكرة مأساة المؤلف في زمننا المعاصر من جهة- على ما تبرزه الكاتبة عبر سرديات متصلة بكل من مانيه أعظم رسامي الانطباعية وبودلير رائد قصيدة النثر والتجديد في الشعر الفرنسي، وكيف أن المذكورين، وعلى الرغم من أثر إبداعهما الحاسم في فني الشعر والفن، قضيا مخذولين من محيطهما، محرومين من نعمة التمتع بفوائد الريادة والإبداع. ومن جهة ثانية فإن موت المؤلف، والفنان تاليا، يتيح بقاء أثرهما من بعدهما متداولاً، ومقدراً، وعرضة للتداول والاقتباس، والأخذ، والتوسع، من دون الحاجة إلى الشخص الكائن وراء هذه الأعمال.

ولكن، ليس هذا ما تركز عليه الكاتبة وحده، وإنما تنطلق منه لتقارن ما بين حالها ككاتبة وأحوال الكتاب، لا سيما روايته السير ذاتية “إلى الصديق الذي لم ينقذ حياتي” التي ألفها هيرفيه غيبير (1955-1991)عن علاقته المثلية بميشيل فوكو وكيف نقل الأخير إليه عدوى الإيدز أو السيدا، بل إن تقابل ما تحياه في لحظاتها إلى جوار ابنتها وزوجها، ومداولاتها مع صديقتها الشاعرة وصلتها الملتبسة بصاحب الدار وغيرهم، بما كان يحياه كل من ميشيل فوكو ورولان بارت وهيرفيه غيبير والمصور كارجا وما كان البعض يظنه تخليداً للواقع، في حين أنه “ابتذال واقعي مهما يكن إيجابياً” (ص:24) على حد ما كان يقول بودلير، ثم لا تلبث الكاتبة كيت زمبرينو أن تعرض للمراسلات بين الأدباء والشعراء أمثال روبير موزيل وكافكا، في ما خص التوصية بإحراق أعمال كليهما بعد الوفاة، فتنتقل بالتداعي إلى مراسلاتها الإلكترونية مع صديقتها الشاعرة وصورها وتدويناتها ومسألة الهوية والشخصيات المتخيلة والكاتب الفعال وغيرها من الأفكار التي لا تتوانى عن رفدها بالمراجع، مشفوعة بسرد لحظات حميمة من واقع كونها أماً وزوجة وكاتبة وأستاذة جامعية مكافحة وغير ميسورة.

الكتابة موتاً

في الجزء الثاني من الكتاب، المعجون بالخلطة نفسها، والمعنون “أن تكتب كما لو كنت ميتاً”، تركز زمبرينو أكثر على تحليل خطاب الكاتب غيبير، عبر كتابه “بروتوكول الشفقة”، طبعاً من دون أن تنسى سردها الذاتي المتصل بأحوالها المتغيرة على مدار أيام تدويناتها. ففي 56 مشهداً، يتراوح الواحد منها بين مقطع بالحد الأدنى، وخمس صفحات بالحد الأقصى وذات عناوين، تدخل الكاتبة إلى صلب النوع الذي عزمت على إنشائه، وهو ليس بالرواية ولا بالسيرة الذاتية ولا بالبحث، إنما هو خليط من جميع هذه الأنواع، معتمدة تقنية التمرئي المتنقل بين سيرة غيبير الذاتية عبر كتابيه (إلى الصديق، وبروتوكول الشفقة) وما تعلق به، وبين يوميات الكاتبة كيت زمبرينو وما يتصل بفكرة موت الكاتب والمؤلف والكتابة، وغيرها مما يحفل به كل مقطع. ولم تخطئ المترجمة والناشر في إدراج هذا الكتاب في باب “مرايا”.

 

إذاً، يتناول هذا الجزء عودة الكاتبة زمبرينو إلى مسألة الكتابة ودوافعها لا سيما إذا كان الكاتب المعني بالدرس يواجه الموت المحتم، عبر توجسه منه أو بسبب مرض فتاك كالإيدز، كما جرى لغيبير، الذي قال “الموت دافعي إلى الكتابة” (ص:115)، فإن القارئة الباحثة (أعني زمبرينو)، وفي ذروة لعبة التمرئي هذه، يحدث أن ينتقل وسواس غيبير إلى جسدها، فتحضر عوارض مرضه فيها، حيناً بالهربس النطاقي، وحينا آخر بالطفح الجلدي والتورم، وغيرها. وكيف لا تشف الكاتبة، وتتفاعل مع آلام غيبير المحتضر والماضي إلى موته المحتم بسبب الإيدز، وهي الآن حامل وتعاني الإرهاق وفقد الشهية وآلاماً من أمراض الحمل الجانبية ومن رعب التأمين الصحي. وكأن في قراءة أثر سير ذاتي، كالذي يحسنه غيبير، نوعاً من السلك المعدي أو التيار العابر جسدين، والمنتقل من جسد المريض فإلى نصه، ومن هذا النص إلى جسد القارئ الحي والمتفاعل.

وإذ تدرك الكاتبة أنها استغرقت كثيراً في هذه الحلولية الخاصة، وأنه حان لها الخروج منها لتظل في النص المقرؤ تقول، “سأحاول انتشال نفسي من الاستغراق في ذعري من جسدي وأعود إلى جسد غيبير، إلى جسد كتابه” (ص:143)

كتاب وإن يكن أميركياً، فإنه مصوغ بفكر غربي وحساسية شعرية ورغبة في تجاوز الحدود بين الأنواع وذهاب إلى أقصى ما تتيحه النظريات الحديثة حول الكاتب والمؤلف وأبعاد الكتابة وهوية الكاتب الحقيقية والمستعارة، وغيرها مما تحفل بها الدراسات شبه العلمية، التي لم تقفل فيها أبواب التأويل والاعتراض بعد.

وفي أي حال، للكاتبة كيت زمبرينو الأميركية عديد من الإصدارات، منها: “الملاك الهابط”، “بطلات”، “دراسات سيميائية”، “فتاة خضراء”، و”كتاب موتر”، وغيرها.