img

من الطبيعي أن ينتظر عشاق السينما أي عمل جديد لمارتن سكورسيزي، فهو مخرج الروائع وصاحب الرسالة الفنية التي لا يستهان بها، وهو أيضا ناقد ساخر، ترسّخت صورته على مدى العقود الماضية كفنان له آراء مثيرة للجدل في ما يتعلق بأميركا، التي بنيت بحسبه على أكتاف رجال العصابات (فيلم “عصابات نيويورك”) لا على أيدي الآباء المؤسسين الفضلاء. هذه من آرائه التي يكرهها كثير من الأميركيين، لكنه لا يبالي. ظهر اسم سكورسيزي بداية مع فيلمذي نغمة ماركسية واضحة هو Boxcar Berthaعام 1972. وفي ما بعد يبدو أنه تحوّل عن الفكر الشيوعي، كمعظم الناس، إلا أن نقده لسلوك أميركا السياسي والأخلاقي، ونقده للرأسمالية، بقي على حاله.في فيلمه “الصمت” 2016 سخر من البعثات الدينية الأوروبية التي كانت تهدف إلى تحويل بسطاء اليابانيين إلى أعداء لثقافتهم ودين بلادهم. وفي “عصابات نيويورك” تساءلت الكاميرا عن حال من يتقاتلون ويدعون الرب ذاته إلى أن يحقق لهم النصر على الأعداء.

في فيلمه السابق “الأيرلندي” كانت هناك جملة مفتاحية استخدمها سكورسيزي كمدخل للفيلم: “سمعت أنك تطلي البيوت”. طلاء ليس بالأصباغ، بل بالدم، فالذي يطلي البيوت بالدم هو رجل العصابات وليس الدهان أو عامل الطلاء العادي. وفي الفيلم الجديد هناك عبارة تعمل بالطريقة نفسها. يقرأ إرنست بركهارت (ليوناردو ديكابريو) على زوجته مولي (ليلي غلادستون) من كتاب فيقول النص: “هل ترين الذئاب في الصورة”؟ ولا يشعر بركهارت أنه يفضح نفسه، وأن هذه العبارة فاضحة، فلا تلبث أن تكتشف الزوجة مع مرور الأحداث أن زوجها هو أحد الذئاب المفترسة التي ستفتك بها وبأسرتها. الذئاب التي في الصورة، أو في الفيلم، هم هؤلاء الذين أكملوا مسيرة إبادة الأميركيين الأصليين في القرن العشرين، وهم سلالة واحدة مع من ارتكبوا أكبر مذبحة في تاريخ الإنسانية.

وبالتالي فإن الحديث عن الذئاب التي في الصورة يدل على أن قضية الشر هي الموضوع الفلسفي للفيلم. الشر القابع في الوجود، الكامن في النفوس، نراه في الصورة ولا ندري كيف أتى ولا كيف استحكم. هنا سنرى توماس هوبز وهو يقول: “الإنسان ذئب أخيه الإنسان” بصورة واضحة تماما.

وعلى الرغم من القضية الفلسفية (الشر)، إلا أن الفيلم “قتلة زهرة القمر” لا يخرج عن سياق أفلام مارتن الناقد للحضارة الأميركية، إذ يعود لتجريم أميركا على نوع جديد من تعاملها مع الأميركيين الأصليين، لا يصل إلى إجرام الرواد الأوائل لكنه يبقى في إطار جرائم القتل. الفرق هو أن هؤلاء القتلة قد قُبض على بعضهم وحوكموا في الحادثة المتأخرة.

ما المقصود بالعنوان؟ زهرة القمر أو كرمة القمر هي نوع من زهور الصباح التي تزهر ليلا فقط، تتفتح في الليل ويكبر حجمها. موطنها الأصلي المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية في أميركا الشمالية والجنوبية، من الأرجنتين إلى شمال المكسيك وأريزونا وفلوريدا وجزر الهند الغربية، وهي من زهور الجنائز، وقد تعطي انطباعا عن سوء الحظ. وهي هنا ترمز إلى الأميركيين الأصليين من قبيلة الأوساج وجرائم القتل التي وقعت بحقهم في عشرينات القرن العشرين، فيصبح العنوان “قتلة الأميركيين الأصليين”، أو “قتلة تعساء الحظ” أو شيء من هذا القبيل.

 

عمل إبداعي عظيم وسيبقى الخلاف بين النقاد حول مقصود سكورسيزي بعدد من المشاهد والعبارات التي وردت في الفيلم

 

 

يمتد الفيلم لثلاث ساعات وست وعشرين دقيقة، أطول أفلام سكورسيزي، ربما لأنه أراد توثيق تلك القصة وتغطية تلك الحقبة. تبدأ المأساة بالترحيل. فبعد طردهم من مناطقهم إلى الأراضي القاحلة المفترضة في أوكلاهوما في مطلع القرن الماضي، صُدمت قبيلة الأوساج عندما وجدت النفط ينتظرها في الأرض الجديدة، ولم تلبث أن وجدت نفسها بين عشية وضحاها وقد أصبح أفرادها من أغنى الناس بطول البلاد وعرضها من حيث نصيب الفرد نسبيا. وبطبيعة الحال، سال لعاب الرجل الأبيض من جديد وبدأ الصراع الذي حول تاجر مواش يدعى ويليام كينغ هيل (روبرت دي نيرو) إلى أحد أكبر المؤثرين في المنطقة، فقد كان قادرا على ممارسة الألعاب السياسية التي جعلته حليفا لكل من الأوساج والبيض في المنطقة، بينما كان يعمل خلف الكواليس لمصالحه الخاصة. وكما سنعلم من الفيلم هو العقل المدبر لمقتل كل أولئك الأميركيين الأصليين الأغنياء، بمساعدة قريبه بركهارت الذي عمل سائقا مستأجرا في فيرفاكس، المدينة المزدهرة التي لا تزال تنفض غبار القرن التاسع عشر، حيث تتسابق السيارات الحديثة أمام الخيول والعربات على الشوارع الترابية، وينحني بائع أبيض على ركبته ليتوسل عائلة من الأميركيين الأصليين لشراء سيارة فاخرة أخرى. وسط هذه الأجواء، يلتقي إرنست بمولي فيقعان في الحب ويتزوجان.تتطور علاقة إرنست ومولي بطبيعية رشيقة، إلا أن هناك عاملا مؤثرا أكثر من تأثير الحب والزواج، لينقلب الزوج، بدلا من الدفاع عن زوجته، إلى أن يكون واحدا من القتلة.

عمل إبداعي عظيم وسيبقى الخلاف بين النقاد حول مقصود سكورسيزي بعدد من المشاهد والعبارات التي وردت في الفيلم، خصوصا الكلمة الأخيرة التي تحدث بها سكورسيزي نفسه متقمصا شخصية “منتج محطة إذاعية”. ربما في هذه العبارة يرى نفسه.