فاروق يوسف
ضمن تداعيات حرب غزة، اتضح أن ثمة مسافة واقع سياسي تفصل إيران عن محور المقاومة المتمثل بالميليشيات التابعة لها. كان صحيحاً ما قيل عن أن خامنئي طلب من رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية في لقائهما بطهران أن يُسكت الأصوات الفلسطينية التي تطالب إيران بتدخل مباشر في الحرب، وصحيح أيضاً أن رئيس الحركة في الخارج خالد مشعل كان قد أثنى على مواقف “حزب الله”، غير أنه طالبه بأن يشتبك مع العدو أكثر. وهو ما كان الحزب حذراً في الاستجابة له تنفيذاً لأوامر إيرانية صارمة. أما لماذا سمحت إيران لأذرعها في العراق بأن تكون طرفاً في حرب خلفية حين استهدفت بصواريخها القواعد العسكرية الأميركية، فذلك ما يكشف عن رغبتها في الإبقاء على حركة “حماس” ضمن محورها وسد الباب أمام إمكان أن تنقلب الحركة عليها بعدما اتخذ الرد الإسرائيلي طابعاً تدميرياً حظي بتأييد غربي غير مسبوق.
غير أن زيارة هنية لإيران في ذروة العدوان الإسرائيلي كشفت عن أن الحركة لا تملك خيارات كثيرة خارج المعسكر الإيراني. حقيقة سيكون لها تأثير واضح على مستقبل الحركة التي لن يكون في إمكانها أن تنكر الواقع الذي انتهت إليه الأوضاع الكارثية في غزة إذا ما قررت إسرائيل أن لا تكتفي بما فعلته من إجراءات انتقامية. فمقابل إطلاق سراح 300 أسير أو معتقل فلسطيني، سيواجه أهل غزة ما لا يمكنهم تجاوزه من آلام وخراب وعذابات وخسائر بشرية ومادية لا يمثل نزوح أكثر من مليون ونصف مليون منهم إلا الباب الذي انفتح على كارثة، ولن تستطيع حركة “حماس” إغلاقه عن طريق الدعاية لانتصار تحقق من خلال إطلاق سراح ذلك العدد القليل من الأسرى الذين يمكن أن تعود إسرائيل إلى اعتقال معظمهم، وهو ما فعلته في مرات سابقة.
 
الميليشيات تدافع عن سلاحها
وبالعودة إلى ما شهدته جبهة محور المقاومة في العراق من خلال عودة “كتائب حزب الله” التي هي جزء من الحشد الشعبي إلى قصف القواعد العسكرية الأميركية، ينبغي الالتفات إلى البعد المحلي في ما جرى بعيداً من التهويل الدعائي للمشاركة في الحرب، وكان هنية نفسه قد وجه الشكر إلى محور المقاومة في العراق. فرغم أن الوضع السياسي في العراق ليس مستقراً تماماً في ظل استمرار النظام الطائفي في تصفية زعاماته بتهم يقع معظمها في دائرة الفساد، وكانت إزاحة رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي آخر تلك التصفيات، غير أن الحشد الشعبي وقد انتقل معظم زعمائه إلى العمل السياسي ضمن تحالف الإطار التنسيقي الحاكم، كان قد فقد قدراً من أسباب استمراره قوة عسكرية رديفة للجيش في مواجهة الإرهاب الذي اختفى بغياب تنظيم “داعش” عن الساحة العراقية.
صار العراقيون على يقين من أن “داعش” وسواه من التنظيمات الإرهابية يمكن إيقاظها من سباتها في أي لحظة. لكن الميليشيات لا تفكر بالطريقة ذاتها. ذلك لأن عامل الزمن قد لا يكون في مصلحتها وقد ينقلب الحزبيون عليها تبعاً لمصالحهم في الدولة. ذلك ما يشير إلى وجود اختراق دائم في الحشد الشعبي الذي ليس مؤسسة متماسكة قائمة على التناغم بين مكوناتها وخاضعة لضوابط قانونية تُلزم الجميع بما تفرضه من سلوك. هناك نزاعات مسكوت عنها بين الميليشيات، وبخاصة بين زعمائها، يمكن أن تؤدي إلى صراعات مسلحة إذا شعرت قيادة الحشد بضرورة التخلي عن هذه الميليشيا أو تلك مسايرة للموقف الأميركي. لذلك وجدت تلك الميليشيات في حرب غزة متنفساً لها تؤكد من خلاله أهمية أن يبقى سلاح المقاومة مشهوراً.
لعبة خطرة لا تدفع إيران ثمنها
ولكن إيران تظل هي اللاعب الذي يمسك بكل الخيوط. وما زيارة هنية لطهران سوى محاولة لتذكير ذلك اللاعب بمسؤوليته. واقعياً فإن إيران لم تقع في فخ الدعاية التي سوقتها “حماس” وراهنت من خلالها على أن محور المقاومة سيكون طرفاً في حربها. شيء من ذلك لم يقع. لم تشهد شوارع المدن الإيرانية أي تظاهرة لنصرة أهل غزة على خلاف ما شهدته مدن العالم. لقد ضبط النظام الإيراني أوقاته بحسب الساعة الغربية بعدما صار هتاف “الموت لأميركا، الموت لإسرائيل” جزءاً من الماضي. تصرفت إيران كعادتها بطريقة ذرائعية ولم تفاجئ نفسها ولا العالم. وهو ما يعني أن النظام الإيراني يعرف جيداً كيف يقيس حجم خطواته في اللحظات الحرجة. فحين كشف نتنياهو عن همجيته وحين أفصح الغرب عن تخليه التام عن قيمه الأخلاقية والإنسانية بوقوفه وراء تلك الهمجية، أدركت إيران أن اللعبة أكبر منها، لذلك كان موقفها بمثابة تصريح عن عدم مسؤوليتها عما جرى. وهو ما تناقلته وكالاتها الإخبارية من خلال نقل كلام المرشد الأعلى الواضح “لم تبلغونا بما سوف تقومون به” وكان ذلك الكلام تفنيداً للتوقعات التي جرى تداولها والتي تكهنت بأن تكون “حماس” قد نسقت مع إيران في ما يتعلق بهجومها يوم 7 تشرين الأول (أكتوبر). ولأن قيادات الحرس الثوري تأتمر بأوامر المرشد الأعلى، فإنها لم تقم بأي عملية ضد المصالح الأميركية، يمكن أن تضع إيران موضع شكوك. ولكن كان من اليسير عليها أن تدفع بأتباعها في الحشد الشعبي في العراق إلى أن يستثمروا في حرب غزة من أجل استعادة وضعهم على الخريطة السياسية الداخلية.