–
جاء إعلان الرئيس السوري، أحمد الشرع، تشكيل حكومة انتقالية في سورية كي ينهي فترة انتظار عاشها السوريون، وامتدّت ما يقارب 14 شهراً بعد سقوط نظام الأسد. والأهم أن تشكيلها استكمل ركناً أساسياً من أركان السلطة التنفيذية الجديدة، وبالتالي، باتت الأنظار تتوجّه، ليس فقط نحو الخطوات التي ستقوم بها الحكومة، والمهام التي ستنجزها، ومدى تطابقها مع تطلّعات السوريين، بل أيضاً نحو تشكيل مجلس الشعب كي يكتمل الركن الأساس في السلطة التشريعية، ما يعني سدّ الفراغ الحاصل في السلطة، وبدء مرحلة جديدة في تاريخية جديدة، يتوقّف عليها مستقبل سورية، ويأمل السوريون بأن تلّبي تطلعاتهم وطموحاتهم، وتخفّف من معاناتهم الطويلة من كارثية مرحلة الاستبداد.
ما يسجّل في هامش ولادة الحكومة السورية الجديدة، أنها المرّة الأولى التي يشهد فيها السوريون مراسم ولادة حكومتهم مباشرةً، ويعرض الرئيس خلالها برنامج عمل الحكومة، التي اعتُبر تشكيلها بمثابة إعلان لإرادتهم المشتركة في بناء دولة جديدة، كاشفاً أن خطّتها المستقبلية تحمل وعوداً كثيرة، بالاعتماد على عدّة محاور، منها “الحفاظ على الموارد البشرية وتنميتها، وإعادة بناء مؤسّسات الدولة على أساس من الشفافية، ومعالجة القضايا المعيشية، إضافة إلى مواصلة معالجة الوضع الأمني”. إضافة إلى استقطاب الموارد البشرية السورية في الخارج، وإنشاء بيئة استثمارية لجذب الاستثمارات… وسوى ذلك.
جاء تشكيل الحكومة الانتقالية تلبيةً لضرورات والتزامات داخلية بالدرجة الأولى، وليس لإقناع الغرب برفع العقوبات
إذاً، تسجّل ولادة الحكومة وعوداً كثيرة، تنتظر التنفيذ والتجسيد في أرض الواقع، خاصّة أن التحدّيات الكثيرة التي تواجهها لا تتوقّف فقط على ضرورة إشراك جميع السوريين في إعادة بناء ما خربّه نظام الأسد، بل تتطلّب التعاون مع المجتمع الدولي في هذا الخصوص. ولذلك تبدو التشكيلة الحكومية وكأنّها محاولة للجمع بين متطلّبات التمثيل الداخلي لمعظم أطياف الشعب السوري، وفي الوقت نفسه مراعاة المطالب الخارجية، وخاصّة التي طرحتها كلّ من الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي لرفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على سورية، إذ أرادت السلطة الجديدة إظهار التنويع في تولّي المناصب الوزارية بين شخصيات من لونها الإسلامي، وشخصيات أخرى من التكنوقراط وأصحاب الخبرات، وآخرين ممّن شغلوا مناصب خلال فترة نظام الأسد البائد.
تُظهر النظرة إلى التشكيلة الوزارية إسناد حقائب سيادية مهمّة، ممثلةً بالدفاع والخارجية والداخلية إلى شخصيات من “هيئة تحرير الشام” (يفترض أنها حلّت نفسها)، إلى جانب وزارتي العدل والطاقة، فيما ذهبت بقية الوزارات إلى شخصيات من التكنوقراط وذوي الخبرات والمؤهّلات. ولعلّ تمثيل المرأة الوزاري جاء في حدّه الأدنى ممثلاً بسيدة وحيدة، ما لا يتناسب مع نسبة المرأة في المجتمع السوري، ولا مع أهمية مشاركتها في بناء بلدها، فضلاً عن تضحياتها وأدوارها في الثورة السورية. وكان من غير اللائق التركيز ليس في مؤهلاتها ودورها في خدمة مجتمعات الثورة، بل على انتمائها المسيحي. وفي السياق، جرى التركيز في إبراز تعيين وزراء من المكونات العلوية والدرزية والكردية، بغية الإيحاء بالصفة التمثيلية الجامعة لمختلف المكوّنات المذهبية والإثنية، في محاولة لإرضاء قوى الخارج. مع أن رفض مبدأ المحاصصة لم يمنع أن تضمّ التشكيلة الوزارية وزراء من أطياف سورية مختلفة، لكن ذلك لا يحظى بأهمية كبيرة في النظام الرئاسي الذي حدّده الإعلان الدستوري المؤقت، ومُنح فيه الرئيس سلطات تنفيذية واسعة، بما يمكّنه من القبض على مفاصل السلطة، وإرضاء مختلف التكوينات والأطراف التي يريد تقريبها من حضن السلطة.
لم يقتصر الأمر على المناصب الوزارية فقط، بل حاول وزراء في تقديمهم رؤاهم وخططهم إرسال رسائل تطمئن قوى المجتمع الدولي الفاعلة، من خلال إبراز توجّههم نحو بناء دولة “طبيعية مسالمة، وصديقة للجميع”، وتعتمد على إشادة شراكات اقتصادية والانفتاح، وتبنّي علاقاتها الخارجية وفق “مبادئ حسن الجوار والاحترام المتبادل” بين الدول، الأمر الذي يشي بأن السلطة الجديدة تدرك مدى حاجتها للتحاور والتعاون مع مختلف أطراف المجتمع الدولي، وأنها ستسعى جاهدةً من أجل إقناع حكومات الغرب بضرورة رفع العقوبات الاقتصادية، بوصفها العامل الأساس في استمرار معاناة السوريين من تردّي أوضاعهم المعيشية، والمعيق عمليات التعافي المبكّر ومساعيه، والشروع في إعادة الإعمار، وتكمن أهمية تعليقها أو إزالتها في توفير مقوّمات نجاح العملية الانتقالية في سورية.
قد تكون تشكيلة الحكومة محاولةً لتكريس تمثيل مكوّنات المجتمع السوري وفقاً لرؤية السلطة الحاكمة، لكنّ الأمر الحاسم داخلياً هو العمل على تأسيس دولة المواطنة والقانون
ما يسجّل أيضاً أن تشكيل الحكومة الانتقالية جاء تلبيةً لضرورات والتزامات داخلية بالدرجة الأولى، ومواجهة التحدّيات المطروحة، وليس مجرّد إجراء غايته إقناع الغرب برفع العقوبات. وبالتالي، ينبغي على السلطة السورية الموازنة ما بين متطلّبات الداخل والخارج، شريطة عدم الوقوع في فخّ المحاصصة الطائفية والإثنية داخلياً، وفي فخّ الرضوخ لابتزاز قوى الخارج، خاصّة أن الولايات المتحدة تخفي خلف شروطها المُعلَنة لرفع العقوبات شروطها غير المُعلَنة، التي تتمحور حول التطبيع بين السلطة السورية الجديدة وإسرائيل، إذ لم يخفِ مسؤولون أميركيون الربط بين رفع العقوبات المفروضة على سورية والتطبيع مع إسرائيل، عبر عقد اتفاقية سلام مذلّة معها، تتخلّى فيها سورية عن هضبة الجولان المحتلة، وعن أراضٍ أخرى احتلّتها إسرائيل بعد سقوط نظام الأسد، بمعنى قبول مقايضة السلام في مقابل رفع العقوبات الجزئي والمشروط، وبشكل يضمن أمن إسرائيل وتفوّقها عسكرياً، ويؤدّي إلى تجريد سورية من ممكنات أن تكون قوّيةً عسكرياً مستقبلاً.
قد تكون تشكيلة الحكومة محاولةً لتكريس تمثيل مكوّنات المجتمع السوري وفقاً للرؤية التي تحملها السلطة الحاكمة، عبر توفير أولوية الاعتماد على أصحاب الكفاءات في شغل المناصب الوزارية، خاصّة غير السيادية، ومن دون الاستناد إلى منطق الانتماء الإثني والمذهبي، لكنّ الأمر الحاسم داخلياً هو العمل على تأسيس دولة المواطنة والقانون، وعدم سعي السلطة إلى فرض هيمنتها على المجال العمومي، الأمر الذي يقتضي تعديل الإعلان الدستوري بما يتماشى مع توفير مساحات تتيح المجال أمام ممارسة الحرّيات وتنظيم الحياة السياسية للسوريين كافّة.