منذ سقوط نظام بشار الأسد في سورية في 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي وفراره برفقة عائلته إلى روسيا، لم يتوقف سيل التكهنات حول مستقبل العلاقات بين موسكو والسلطات السورية الجديدة بقيادة رئيسها أحمد الشرع، ومصير قاعدتي حميميم الجوية وطرطوس البحرية في الساحل السوري، والثمن الذي قد يدفعه الكرملين مقابل الإبقاء عليهما، وما إذا كان سيصل الأمر إلى تسليم بشار الأسد إلى سورية. وشهدت الأيام القليلة الماضية تجدداً للجدل حول هذه المسألة، بعد انتشار أنباء حول تقديم الشرع طلباً رسمياً إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتسليم بشار الأسد بهدف محاكمته على الأراضي السورية، واسترداد الأموال السورية المودَعة في روسيا، وسط تشكيك في واقعية تجاوب بوتين مع مثل هذا الطلب. ثمة إجماع بين محللين سياسيين على ثبات موقف بوتين في مسألة تقديم نفسه على أنه “رجل لا يسلم رفاق السلاح” ممن خدموا مصالح بلاده ذات يوم، وتسويق روسيا نفسها أمام شركائها، من خارج الكتلة الغربية، على أنها دولة ذات ثوابت راسخة لسياساتها ولا تتخلى عن حلفائها، على عكس الولايات المتحدة.
استبعاد تسليم بشار الأسد
ويستبعد المترجم العسكري الروسي السابق، أندريه مورتازين، احتمال موافقة بوتين على طلب تسليم بشار الأسد نظراً لتعارضه مع ثوابت السياسة الخارجية الروسية في القرن الـ21، والتي تقتضي ضمان سلامة الحلفاء. متوقعاً، في الوقت نفسه، أن يؤثر هذا الموقف سلباً على المصالح الروسية في سورية، بما فيها آفاق وجود قاعدتي حميميم وطرطوس في الساحل. ويقول مورتازين، الذي خدم في سورية في ثمانينيات القرن الماضي وزارها بضع مرات بعد اندلاع الأزمة بصفته مراسلاً حربياً، في حديث لـ”العربي الجديد”: “على عكس عهد آخر زعماء الاتحاد السوفييتي، ميخائيل غورباتشيف، وأول رئيس روسي ما بعد السوفييتية، بوريس يلتسين، يخلو تاريخ روسيا المعاصر، منذ صعود بوتين إلى السلطة، من سوابق تسليم من مُنحوا حق اللجوء، ولذلك لا أتوقع أن يتم تسليم بشار الأسد، لأن ذلك سيشكل ضربة كبيرة لهيبة روسيا وبوتين شخصياً، وسيفقده دعم قادة دول الجنوب العالمي. كما يدرك بوتين جيداً أن بشار الأسد سيواجه في سورية الإعدام أو السجن المؤبد في أحسن الأحوال”.
أندريه مورتازين: يخلو تاريخ روسيا منذ صعود بوتين للسلطة من سوابق تسليم من مُنحوا حق اللجوء
وحول رؤيته لتأثير عزوف موسكو عن تسليم الأسد على العلاقات الروسية السورية، يوضح مورتازين: “أتوقع أن يؤثر الرفض الروسي تسليم بشار الأسد سلباً على العلاقات الروسية السورية، وقد يصل الأمر إلى المطالبة بإنهاء وجود القاعدتين العسكريتين الروسيتين في الساحل السوري، أو المطالبة بتعويضات، أو ثمن باهظ مقابل الإبقاء عليهما. والخيار الثاني قد تقبل به موسكو بصورة غير معلنة، مع تقديم الأمر على أنه تقديم دعم لسورية في مرحلة حرجة، ولكن حتى في هذه الحالة لن يكون الوجود الروسي في سورية مستقراً، نظراً لمخاطر اندلاع موجة جديدة من الاقتتال الداخلي”.
تدني مستوى العلاقات
من جهته، يجزم الأكاديمي السوري المقيم في موسكو، محمود الحمزة، بأن روسيا لن تسلم بشار الأسد لدوافع قد تكون شخصية أكثر منها سياسية، معتبراً، في الوقت نفسه، أن ذلك يؤثر سلباً على العلاقات بين موسكو ودمشق والتي تبقى عند مستوى متدنٍ. ويقول الحمزة، الذي عارض النظام السوري من الداخل الروسي منذ عام 2011، في حديث لـ”العربي الجديد”: “في تقديري الشخصي، طرحت مسألة تسليم بشار الأسد وضباطه والأموال المنهوبة منذ بدء الاتصالات الروسية السورية، بما في ذلك أثناء زيارة الوفد الروسي إلى دمشق في فبراير/شباط الماضي، ولكنني أستبعد احتمال قبول القيادة الروسية بذلك لأبعاد شخصية أكثر منها سياسية، رغم تخليها فعلياً عن الأسد منذ دخول الفصائل المسلحة إلى حلب العام الماضي”.
ويعتبر أن الغموض لا يزال سيد الموقف في مسألة مستقبل العلاقات الروسية السورية، مضيفاً: “على مدى 14 عاماً، دعمت روسيا نظام الأسد بشكل شامل، عسكرياً وسياسياً ودبلوماسياً، ما يضع على عاتقها دَيناً يجب أن تعوضه للسوريين. تفكر موسكو في تطبيع العلاقات مع السلطات السورية الجديدة، وتطوير التعاون مع دمشق، ولكن السلطة السورية تبدي تحفظاً حيال عدم تجاوب روسيا في تحقيق المطالب مثل تسليم بشار الأسد، وتقديم مساعدات، وإبداء بوادر حسن نية، وإثبات الدعم الروسي للشعب السوري لا النظام السابق. ولكن المساعدات الروسية لا تزال رمزية حتى اليوم رغم قدرتها على تقديم العون في شكل إمدادات القمح وغيره من السلع الأساسية”.
بدوره، يستبعد المحلل السياسي المقرب من دوائر صنع القرار الروسية، رامي الشاعر، احتمال قبول روسيا بتسليم بشار الأسد في المرحلة الراهنة على الأقل. معتبراً، في مقال له بموقع قناة روسيا اليوم الناطقة بالعربية في 23 مارس/آذار الماضي، أن “مصير الأسد قضية محسومة وليست قابلة للنقاش”، معرباً عن قناعته بأن “القيادة السورية الحالية تعي ذلك تماماً”، ومذكراً بإعلان الكرملين بعد سقوط النظام السوري أنه استقبل بشار الأسد وعائلته لدواعٍ إنسانية لا سياسية.
وكان الأسد وصل إلى موسكو مساء يوم سقوط نظامه، حيث حصل على حق اللجوء له ولأفراد عائلته لما تقول موسكو إنه “دواع إنسانية”، فيما أكد المتحدث باسم الرئاسة الروسية، دميتري بيسكوف، حينها، أن بوتين بشخصه اتخذ قرار منح اللجوء للأسد وأفراد عائلته، بعد سيطرة فصائل المعارضة المسلحة على دمشق. وفي وقت لا يزال فيه موقع وجود بشار الأسد مجهولاً، تشير تقارير إعلامية غربية إلى أن أفراد عائلته وأقاربهم اقتنوا بين عامي 2013 و2019 نحو 20 شقة فاخرة بقيمة إجمالية تبلغ 40 مليون دولار في حي “موسكو سيتي” الذي يحتضن مقار كبريات الشركات والمصارف وبعض المؤسسات الحكومية الروسية ويعد واجهة لروسيا الرأسمالية ما بعد السوفييتية. والأسد ليس أول رئيس يلجأ إلى روسيا خلال عقد مضى، إذ استقبلت موسكو في 2014 الرئيس الأوكراني الهارب والموالي لها، والذي يشاع أنه مقيم في مدينة روستوف جنوبي روسيا.