“سلامًا أيتها الخيول” هو العنوان الذي أطلقه بيت الشعر في المغرب على الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر المغربي أحمد الجوماري (1939-1995)، والتي يرجع الفضل فيها لصديقه الشاعر المغربي إدريس الملياني. كان الجوماري قد عُرف بمجموعة شعرية واحدة عنوانها “أوراق الليل” والتي نُشرت سنة 1989 في بالدار البيضاء. وبذلك حقَّ القول إننا أمام شاعر مقلّ، ظل طوال حياته القصيرة (56 سنة) يظهر ويغيب، قبل أن يغيب نهائيًا إثر نوبة قلبية مفاجئة سنة 1995 بالدار البيضاء “مثلما يموت في العين فجأة بريق لهفة الرؤى”، كما يقول في قصيدته “أناشيد للوجه الضائع”. أما السياق الشعري الذي وُجد فيه الجوماري فهو جيل القصيدة الحديثة الرائدة، إلى جانب أمجد المجاطي ومصطفى المعداوي وأحمد صبري (1939-2022) وغيرهم من شعراء الدار البيضاء في مطلع المرحلة الستينية التأسيسية الخصبة والساخنة بأيديولوجيات اليسار الغاضبة وموجة الرومانسيات البديعة والغنائية الرقيقة الباكية. لكن، يمكن الجزم أن اتخاذ الموقف السياسي الثابت من قضايا السياسة والمجتمع كان السمة الغالبة على شعر الجوماري، ونلمسها منذ قصائده الأولى في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات، وهي هكذا تعلن عن نفسها: “كيف الهروب؟ وأين؟/ يا أفيون أمتي المخدرة الضمير/ سنظل نرتقب الربيع مع الرفاق/ مع الجموع…/ مع الجموع…/ لا تيأسوا فغدًا تزغرد أمنيات/ كفاحنا، وغدًا نفيق…” (من قصيدة “أحمد”، 1960).
كان الجوماري يريد أن يكون صوت جيله، “جيل الكآبة والقيود”، الذي وجد نفسه داخل تاريخ غامض، مضطرب وغير واضح المسالك، فالتبست عليه الطريق وتعتمت أمامه المسالك التي عبّر عنها شعريًا وهو حائر. وكانت مسؤوليته كشاعر راسخة في إطلاق نشيد حزين لرفاق دربه: “يا أحباب الدرب، يا رفاقي الطيبين/ لكم، لوحدكم، أسطّر الحروف/ هذه الحروف./ لكم أهدي نشيدي الباكي/ مقطعي المجرّح الكئيب”.
وحتى القصائد التي ألبسها ثوب الحبّ عساه يرتاح من الكآبة وحيرة التيه، عمقتها جراح الوعي الشقي وروح الخطيئة ملأتها من الداخل نبرة حزن واحتجاج: “على كتفي نَمْ يا حبيبي نَمْ/ واصبر فسنكتم سرنا… ونبقيه/ طيَّ الخفاء…/ تحت غطاء اللحد/ في كفن النسيان…/ بين رعشات الضلوع، وبين سطور الذكريات…” (قصيدة “خطيئة”).
“كان الجوماري صوت جيله “جيل الكآبة والقيود”، الذي وجد نفسه داخل تاريخ غامض، فالتبست عليه الطريق وتعتمت أمامه المسالك التي عبّر عنها شعريًا”
لا يمكن أن تتوغّل في قراءة الأعمال الشعرية بدون الوقوف على فكرة “الوحدة” وشقيقاتها من الكلمات التي تعبّر مباشرة عن نفس الملفوظ والدلالة. إن الوحدة نتيجة لأحزان قديمة، احتفظت بها الذاكرة كما احتفظ بها الجسد الفاني. متى تحدث الوحدة في هذه القصائد الحزينة؟ حين تغادر النفس الأصحاب والأبناء ورفاق الدرب بوداع هو دموع لا تنتهي. يكتب الشاعر في قصيدة “الهندي… والمعبد” (ص. 72): “الهندي الفقير/ بالأمس فارق الأبناء والأصحاب بالدموع/ وسار في العراء حافيًا يُدميه الشوك في طريقه الطويل/ يصارع الأمطار والليالي الحبالى… والهجير/ وزاده الكلمات في عميق جرح نفسه”. إن الشاعر هنا هو مصارع بشكل تراجيدي، لكن ما ينتجه هو المعنى المأساوي المتماسك والمؤثر، مثله في ذلك مثل جميع الأصوات المأساوية التي تدافع بقوة الحجة على موقف أن الإنسان وُجد ليعيش تجربة مأساوية. وقد يستدعي في ذلك، إن استدعى الأمر، حكايات وقصصًا وتجارب من شأنها تهذيب المشاعر وتوجيه تصرّف القارئ. وهي في مجملها تشدّ انتباه وعاطفة هذا القارئ بمجرّد أن تُذكر مجموعة من الأحياء المشهورة في مدينة الدار البيضاء.
أما عن شكل عدد كبير من القصائد، خصوصًا المكتوبة في نهاية الستينيات وعلى امتداد عقد السبعينيات، فإنها تتبنّى شكل القصيدة التقليدية، مما جعل معجمها يتّسم بالضّيق في الرسم والدلالة، ومن إيقاعها ووزنها يشدّان انطلاقة التعبير والكتابة (مثال على ذلك قصيدة “أناشيد للوجع الضائع”). لكن هذه القصائد، رغم شكلها، تثير حماسة غريبة وشجية، لم تعد موجودة في أغلب ما يُكتب اليوم من شعر، ربما يلعب عنصر الصدق والتجاوب السريع مع المجتمع المغربي في تلك العقود، هنا نحيل على قصيدة في غاية الجمال “لماذا؟ لماذا؟” (ص. 226)، المكتوبة في منتصف السبعينيات، ذلك الفُرن المتوهج الذي يعرفه أبناء جيل الجوماري حقّ المعرفة. الجيل الذي قال عنه “ونحن عرايا، نتيه، نفتش عن قطرة من مطر/ وحين نلحّ نرى بقعًا من دماء” (ص. 226).
يتمنى الجوماري لكل حروفه أن تكون ثائرة، يخاطب بها رفاقه، والعواصم التي أنارت دروب الشعوب والشهداء بدمائهم التي سالت في المعارك العادلة، وفي السجون المظلمة، وفي الرعب الذي ظل يمتص الكرامة. لا ينسى الجوماري رفاقه، بل رفيقاته، الذين ظلوا يبعثون له برسائل الأمل والنصر من ساحات الشرف. وحتى الذين استشهدوا هم في الحقيقة رمز وزهرة توضع على القبور المقدسة.
إن هذه الأعمال الشعرية الكاملة، التي تضمّ ثلاث مجموعات فقط، لشاعر يكاد يكون مجهولًا عند الكثيرين، والذي لم يُثر انتباه النقاد والباحثين، ربّما سيكون لبيت الشعر في المغرب، ولأصدقاء الشاعر، ولأسرته، على رأسها ابنه يونس الجوماري، سيكون لهم جميعًا الفضل في إعادة هذا الشاعر الصادق إلى الحياة. شاعر غنّى للحياة وللثورة وللشهداء على طول مسيرته الشعرية التي انطفأت قبل الأوان. لم يبق منها سوى هذه القصائد ومجموعة من الحكايات التي يرويها أصدقاؤه محاولين تقديم صورة عن شاعر عاش ومات في الدار البيضاء، وغنى وأنشد للثورات والشهداء والرفاق والوطن.
شارك هذا المقال