كان من المفترض أن تجعلنا التكنولوجيا الحديثة، واستخدامنا اليومي للإنترنت، أكثر ذكاء وإنتاجية. لكن حدث العكس، وبوتيرة مقلقة، منذرة بتدهور قدراتنا العقلية والبدنية، خاصة الأجيال الجديدة المولودة في ظل هذه التكنولوجيا الحديثة.
المؤكد أننا قرأنا، ولا نزال، عن مشاكل وعواقب، وأيضًا مخاطر استخدام التكنولوجيا وتأثيرها على حياتنا بصفة عامة، وعلى علاقتنا بمحيطنا وأولادنا بصفة خاصة. وكيف أننا اكتسبنا مع الوقت ليس سلوكيات ضارة فحسب، بل أيضًا عادات إدمانية فعلًا، بدون أن ندري. وذلك بعدما صار الإنترنت، والهاتف المحمول تحديدًا، وما عليه من وسائط وتطبيقات متعددة، يقدم مادة إدمانية متاحة للجميع بطريقة شبه مجانية تقريبًا.
لا ينشغل كتاب “موسيقى العقل” لمؤلفه كارل مارسي إلى حد كبير بتأثير أضرار وسائل التواصل أو صناعة المحتوى على الإنترنت، ومدى جدية أو هزل، وصدق أو زيف ما يبث دون انقطاع، أو غيرها من الأمور التي صرنا نقرأ عنها كثيرًا خلال السنوات القليلة الماضية، سواء على نحو تحذيري جاد، أو كمجرد ذكر عابر لأضرار جانبية. إذ يمضي الكتاب عميقًا صوب مناقشة علمية تتناول كل ما يرتبط باستخدامنا، بالأحرى استهلاكنا، للتكنولوجيا الحديثة. وذلك من خلال أبحاث ودراسات وتجارب سريرية أجريت على مدى عقود، في أميركا وغيرها، باستخدام علوم الدماغ والعلوم السلوكية والعلوم الاجتماعية والنفسية والعصبية. والوصول إلى استنتاجات، مدعومة بالأرقام، عن مدى المخاطر الكارثية المعرضين لها فعلا إن لم ننتبه للأمر، ونحاول تداركه سريعًا على كافة المستويات.
كما يركز الكتاب كثيرًا على التحدي المتمثل في ضرورة تحقيقنا لجودة حياة تتسم بالانضباط والتوازن في استخدام كل مفردات العصر الرقمي الذي نعيشه. سيما وأن الدماغ البشري يمكنه بالفطرة إعادة برمجة نفسه. بمعنى أن تجديد شبكة الوصلات العصبية يحدث باستمرار، من يوم ولادتنا وحتى وفاتنا. وأن هذا يحدث بطرق مختلفة، وقدرات وسرعات متفاوتة أيضًا، لكن المشكلة أن هذه القدرة على التجدد أو إعادة البرمجة في طريقها إلى التناقص وفقدان الكفاءة. خاصة في ضوء العادات اليومية السيئة التي نمارسها، والمؤثرة على صحتنا العقلية والبدنية، والنفسية أيضًا. هنا، نصل لواحدة من أهم وأقوى النقاط الجوهرية فعلا في الكتاب. أي الربط والتدليل والتأكيد على أن تغيير سلوكياتنا، للجيد أو للأسوأ، يغير بالطبيعة أدمغتنا، وآلية اشتغالها، وطبيعة سلوكياتنا وعاداتنا وأنماط حياتنا.
فصول عن الوصلات العصبية
في كتابه “موسيقى العقل” يحاول الدكتور كارل مارسي، أحد رواد الطب النفسي وخبير علم الأعصاب الاجتماعي والاستهلاكي، والممارسة للطب النفسي، والمشتغل كأستاذ مساعد في كلية الطب بجامعة هارفارد الأميركية، الإجابة على أحد أهم الأسئلة المعاصرة المهمة فعلًا: كيف يستعيد الدماغ السيطرة على إيقاعه الطبيعي في العصر الرقمي؟ خاصة بعدما بات الإنسان البالغ يمضي ما يقرب من نصف يومه في استهلاك الوسائط التكنولوجية المتعددة. الإجابة لا يمكن وصفها بكونها طبية بحتة أو ذات صبغة أكاديمية صرفة، إذ تمزج إجابة كارل مارسي بين التناول العلمي الطبي البسيط، والتحليل النفسي والاجتماعي، وبشكل سهل ويسير، بدون أي تعقيد أو عائق يحول دون استيعاب القارئ العادي لها.
ينقسم كتاب “موسيقى العقل” (ترجمة: أحمد عبد الفتاح، وصدر العام الماضي عن “دار صفصافة” للنشر والتوزيع في القاهرة، في 420 صفحة)، إلى ثلاثة فصول كبيرة. لكن، يتفرع كل فصل إلى ثلاثة أقسام ذات عناوين جانبية شارحة. وجاءت عناوين الفصول على النحو التالي: “تشكيل الوصلات العصبية – العقول المتصلة”؛ “إعادة تشكيل الوصلات العصبية – أدمغتنا المنتهكة”؛ وأخيرًا، “ما بعد تشكيل الوصلات العصبية – أدمغة أفضل”.
باستعراض عناوين الفصول الثلاثة، نلاحظ تكرار المصطلح الطبي “الوصلات العصبية”، سواء فيما يتعلق بتعريفها أو كيفية عملها أو ما يحدث لها من ضرر وانتهاك، وكيفية إعادة تأهيلها أو الحفاظ عليها قدر الإمكان. ما يدل على أهميتها البالغة، لدرجة تمحور فصول الكتاب حولها. واللافت في هذا الصدد أن الكتاب يتمحور في هذه الجزئية تحديدًا حول الأطفال والمراهقين. وذلك، لخطورة الأمور وفداحتها بالنسبة لهم أكثر منها بالنسبة البالغين، الذين يعانون بدورهم، لكن معاناتهم أقل حدة، نظرًا لقدرتهم على الانتباه ومراجعة التصرفات وتوجيهها، ومن ثم الإقلاع عن العادات الإدمانية أو التخفيف منها. وهذا، مقارنة بالأطفال الذين أثبتت الدراسات، مثلا، أن مهارات اكتسابهم للغة تقل بشكل ملحوظ نتيجة استخدام الأجهزة الحديثة. أو أن المراهقين متخلفون مقارنة بغيرهم ممن يستهلكون الأجهزة الحديثة لساعات أقل.
لم يشر كارل مارسي صراحة إلى أن القاسم المشترك بين الاضطرابات التي تصيب الأطفال والبالغين هو نقص الانتباه أو التشتت
أضرار بالجملة
تعد القشرة الجبهية أفضل وسيلة دفاع لدينا ضد العديد من مصادر التهديد في العصر الرقمي. يوفر هذا الجزء القوي من الدماغ حماية لنا ضد الاستسلام للمحفزات الفائقة، والخدع الأخرى التي تلاحقنا عبر الإنترنت. كما يحمينا من القرارات السيئة، وبالتالي يخفف من تأثير السلوكيات غير الصحيحة التي يمكن أن تقود إلى عادات إدمانية تؤدي بنا في النهاية إلى انخفاض قدرتنا على إصدار الأحكام والقرارات الصائبة على الصعيد الشخصي والعائلي والمجتمعي. هذا تقريبًا أهم ما يتناوله الفصل الأول من الكتاب. ناهيك باضطرابات أخرى يرصدها المؤلف في غير مكان عن الضرر العاطفي والفكري والإبداعي، ومشاكل مهارات اللغة والتفكير والاستدلال، وبالطبع فرط الحركة أو التشتت وغيرها.
اللافت للانتباه هنا أن المؤلف لم يربط ولم يشر صراحة إلى أن القاسم المشترك بين الاضطرابات التي تصيب الأطفال والبالغين هو نقص الانتباه أو التشتت. ناهيك بضعف الذاكرة قصيرة وطويلة المدى، ومشاكل التذكر، وصعوبة تنفيذ المهام أو المواظبة عليها لفترات طويلة. ما يؤكد على نقص التركيز المؤدي للعجز المعرفي، والذي يفضي قطعًا إلى اضطرابات في الصحة البدنية وفرط الإجهاد. وهي من الأمور التي باتت شائعة في معظم البلدان أو المجتمعات والأسر. سيما وأن 98% من المنازل لا تخلو الآن من مختلف الأجهزة الحديثة المحملة بشتى التطبيقات، والتي باتت للأسف من صميم إنجاز المهام الوظيفية أو حتى الواجبات المدرسية.
إدمان الهواتف والتطبيقات
بعد استعراض أوجه انتهاك أدمغتنا وإعادة تشكيل أو البرمجة الخاطئة لوصلاتنا العصبية، يتناول المؤلف في الفصل الثاني كيفية دخول الهواتف المحمولة أو الذكية إلى حياتنا وتأثيراتها على البشر خلال المراحل العمرية المختلفة. وتحديدًا، آثار استخدام الهاتف على القشرة الجبهية ونمو دماغ الإنسان، وعلى أنشطة الإنسان المختلفة. وكيف تؤثر على إنتاجيته، ليس بزيادتها، بل بتقليل سرعتها وكفاءتها وجودتها. وكيف أننا في النهاية ننجز أقل، رغم المجهود الكبير الذي نبذله في حضرة هذه الأجهزة. لكن، كيف لمجرد آلة إحداث مثل هذا التأثير على وصلاتنا العصبية؟ ببساطة، يحدث الأمر تدريجيًا، وبدون أن ندري أبدًا. ويضرب المؤلف أمثلة كثيرة. مثلا، ألم تعد أدمغتنا مبرمجة، دون وعي، على استجابتنا التلقائية لكل إشعار يصلنا من تطبيقات الهاتف، أو غيره. وذلك، بغض النظر عن مدى انشغال الفرد بمهام ما. ومن هذه المهام ما قد يؤثر فعلًا على سلامة الفرد وأمنه، كوقوع حوادث سير تصيب المنشغل بهاتفه أو جهازه لدرجة قد تفقده حياته مثلًا في حال كان يقود سيارة. من هنا، ندرك أنه ليس ثمة ما يدعو للدهشة بخصوص توصل بعض الأبحاث إلى أن تشتيت الانتباه عبر الهاتف يمكن أن يضر بمهارة القيادة أكثر مما يفعله الكحول.
“بدلًا من أن تعزز وسائل التواصل الاجتماعي مثلًا من مشاعر التعارف والتقارب والألفة والتسامح وغيرها، عزّزت بل ورسخت مشاعر الانفصال والوحدة والضيق والحسد والحقد”
تنقلنا هذه النقطة إلى إيضاح الفارق الكبير بين العادات والإدمان، سلوكيًا ودماغيًا، وأثرهما على تصرفاتنا وعلاقاتنا بمحيطنا، وبالطبع صحتنا العقلية وعافيتنا البدنية. لكن الخلاصة، ومن دون مبالغة على الإطلاق، أن العادات التي بتنا ننتهجها لم تعد تختلف كثيرًا عن توصيفها بالإدمان. بعيدًا عن هذا، يكفي أنه، على مدى سنوات، جرى رصد كيفية تأثيرها مثلًا على الحرمان من النوم، أو على النوم العميق، وتسبّبها في النعاس المفرط أثناء النهار، أو حتى الإفراط في النوم. ناهيك بارتباطها الأكيد بمشاكل البدانة، والإرهاق المزمن وآلام المفاصل، وعيوب الإبصار. تحديدًا قصر النظر، الذي تشير بعض التقديرات إلى أن ما يقرب من ثلث سكان العالم يمكن أن يصابوا به بحلول العقد القادم.
حتى تصرفات البشر، ومنها مراعاة الآداب العامة وأبسط السلوكيات الاجتماعية، تأثرت بهذه العادات أو إدمان الهواتف. وبات من أفدحها الملل أو الضجر، وعدم القدرة على التحلي بالصبر. عن هذه الجزئية يقول المؤلف: “مررنا جميعًا بتجربة التحول إلى هواتفنا الذكية عندما نشعر بالملل ولو قليلًا. عند الانتظار في طابور السوبر ماركت، وفي المصعد، وفي الحافلة أو في السيارة… وأننا لدرء الملل عبر الأجهزة الرقمية، أصبحنا أقل تسامحًا مع المهام المملة، وبالتالي نشعر بالملل بسهولة أكبر”. الأفدح أن الأمر ليس قاصرًا على الملل أو نفاد الصبر فحسب، بل أيضًا التشتت أو نقص الانتباه وانعدام التركيز، والتوتر والعصبية والسلوك العدواني. وأحيانًا، في حال عدم توفر الهاتف (نظرًا لنفاد البطارية أو عدم توفر إنترنت أو غيرهما)، التوتر البالغ أو البكاء أو الوجوم أو الإحباط أو حتى الاكتئاب. وهذا ينقلنا إلى نقطة أخرى تناقش، بجدية وعمق وتجارب ودراسات وإحصاءات، الربط بين الوقت المستهلك أمام الشاشة وزيادة معدلات الإصابة بالاكتئاب، وغيره من أنواع الأمراض العقلية.
من ناحية أخرى، وفيما يخص العلاقات، بدلًا من توجيه وقتنا وقدراتنا وأدمغتنا، المحدودة أصلًا مقارنة بطاقة وقدرات وذاكرة الأجهزة الحديثة، لبناء اتصالات اجتماعية عالية الجودة في العالم الحقيقي فإننا نستنزفها في اتصالات سطحية عبر الإنترنت. ومن ثم، بدلًا من أن تعزز وسائل التواصل الاجتماعي مثلًا من مشاعر التعارف والتقارب والألفة والتسامح وغيرها، عزّزت بل ورسخت مشاعر الانفصال والوحدة والضيق والحسد والحقد، وغيرها من المشاعر السلبية للغاية، التي قد تنجم عن عدم الحصول على إعجابات أو صدقات افتراضية مرتجاة، فنصاب بما يطلق عليه “تأرجح المشاعر”. لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحدّ، إذ يصل أحيانًا إلى حد الإيذاء الفادح، جراء السخرية أو الإهانة أو العدوان أو التحرش أو التنمر. أما من الناحية المعرفية، فقد أدى ما يعرف بـ”تأثير غوغل” إلى فقدان الذاكرة الناجم عن نسيان المعلومات التي نعتقد أنه يسهل العثور عليها عبر غوغل. المثير أن هذا كله فيما يتعلق بالأصحاء أو الأذكياء أو من يتمتعون بالتوازن النفسي، أما من هم على قدر من الهشاشة أو الحساسية أو عدم الاتزان فإنهم عرضة لأخطار هائلة فعلًا.
وهم “تعدد المهام”
من بين أبرز وأهم النقاط الموجودة في الكتاب، والتي تستحق فعلًا التوقف طويلًا، وتكون محل دراسات مستفيضة، ما يرد تحت مسمى “تعدد المهام”. يبدو من التوصيف أن الأمر يصف حالة جيدة أو حتى مميزة وخارقة للمعتاد. لكن، بالنظر والتمحيص يتضح أن “تعدّد المهام”، أي القيام بأكثر من عمل أو استخدام تكنولوجي، أيًا كان، ومنه الانخراط في أكثر من شاشة أو جهاز، وما عليه من وسائط، في نفس الوقت، يزيد من تشتت انتباهنا، ويؤدي إلى خفض إنتاجيتنا، وليس العكس. فالأشخاص الأكثر اعتيادًا على “تعدّد المهام” يسهل تشتيت انتباههم. والدراسات تظهر باستمرار أن الشباب لديهم ذلك الحس المتضخم بأنهم أكثر إنتاجية أثناء “تعدّد المهام”، وأنهم بامتلاكهم ناصية هذه المهارة ينجزون الكثير. الحقيقة، إنهم يستنزفون المزيد، ويبذلون الكثير من الجهد، والأدهى أنهم يتسببون في إرهاق مناطق بعينها من الدماغ. ويعمق من المشكلة أكثر، كون ممارسة “تعدّد المهام” عادة ما تترافق والقيام بأنشطة أخرى، مثل القيادة أو ممارسة التمارين في صالة الألعاب أو تناول الطعام أو رعاية الأطفال، وغيرها. وهذا أيضًا يخص الشخص البالغ أو الناضج، فما بالنا بما يحدث للدماغ في مرحلة التكوين أو النضج لدى الصغار أو المراهقين. وسواء كنا نحاول القيام بمهام متعددة في وقت واحد أو التبديل بين المهام، فإن تأثيرات هذا النوع من الاحتيال العقلي باهظة ومرهقة جدًا على القشرة الجبهية تحديدًا في أدمغتنا.
لم يفت الأوان بعد
في النهاية، صحيح أن الصورة العامة المنسوجة على امتداد فصول الكتاب ليست مطمئنة بالمرة. ولا تبشر إلا بأسوأ ما يمكن توقعه، هذا إن مضت حياتنا بنفس الإيقاع، ولم تتدهور أكثر. ولكن، رغم هذه الصورة السوداوية المرعبة، يؤكد المؤلف أن الفرص لحماية أدمغتنا وحيواتنا لا تزال في أيدينا، وأن الأوان لم يفت بعد. لذا، يقدّم في الفصل الأخير الكثير من النصائح أو الإرشادات، وأحيانًا التمارين التطبيقية البسيطة، التي يمكن أن تساعدنا. من ناحية أخرى، يؤكد أيضًا على مدى فوائد المعرفة الرقمية وجوانبها الإيجابية غير القابلة للجدال، والتي أسهمت في تسهيل وتعزيز حياتنا بطرق لا يمكن تصورها، وأن ما يطالب به ليس التجنب أو الابتعاد عنها، بل أن تكون لنا اليد العليا، ولسنا ردة فعل في هذا العالم المتطوّر بجموح.
عنوان الكتاب: موسيقى العقل المؤلف: كارل مارسي