ملخص
يكشف كتاب تيموثي ريباك “مكتبة هتلر الخاصة” أن ما تبقى من مكتبة هتلر، والمحفوظ اليوم في مكتبة الكونغرس، يخلو تقريباً من كتب الفلاسفة الكبار الذين ادعى تأثره بهم، مثل كانط ونيتشه، ويزخر بدلاً من ذلك بكتب عن السحر والعنصرية والعداء للسامية. وعلى رغم من أن مكتبة هتلر كان تضم حوالى 16 ألف كتاب إلا أن ما تبقى لا يتعدى نحو 1200 كتاب.
في فيلم عرض منذ سنوات قليلة بعنوان “آخر لوحات فيرمير”، وتناول في حبكته موضوعاً طريفاً يتعلق بذلك المزور الهولندي الذي اشتهر في القرن الـ20 بتزويره المتقن للوحات رسام الواقعية الهولندية الشهير يوهان فيرمير، تنكشف حقيقة التوجه الأيديولوجي لهذا المزيف من خلال كتاب، يخبرنا الفيلم، أن جندياً أميركياً عثر عليه بين ما تبقى من أوراق في مكتبة خاصة لهتلر، بعد مقتل هذا الأخير وعليه إهداء من مؤلفه المزور إلى الزعيم النازي. والحقيقة أن حكاية هذا الكتاب مزورة تماماً، لكنها لا تتنافى مبدئياً مع أن ثمة مكتبة هتلرية، جرى العثور عليها بالفعل يوم سقوط هتلر. ولئن كانت تلك المكتبة ضخمة وكانت تضم مبدئياً نحو 16 ألف كتاب، فإن ما بقي منها محفوظاً حتى اليوم وتحديداً في مكتبة الكونغرس الأميركي، لا يتعدى نحو 1200 كتاب. والحال أنه لم يحدث حتى نهاية العقد الأول من القرن الجديد، أن اهتم مؤرخ بتلك المكتبة وذلك حتى مجيء تيموثي ريباك الباحث والصحافي الذي أصدر عام 2009 كتاباً بعنوان “مكتبة هتلر الخاصة: الكتب التي صاغت حياته”.
نسف أساطير نازية
والحقيقة أن كثراً تساءلوا حين صدور هذا الكتاب، لماذا ترى لم يهتم أحد بإصداره من قبل؟ وكيف فات المعنيين والمؤرخين الاهتمام بمكتبة كان من شأن الكشف عنها أن ينسف، كما فعل كتاب ريباك، كثيراً من الأساطير التي صاغها هتلر من حول تكونه الثقافي و”تعمقه” في الفلسفة، وبنائه نظريات النازية بناء فكرياً محكماً. وبالتحديد نسف الفكرة التي كثيراً ما روج لها هتلر نفسه وتبناها مناصروه بحماسة، أنه حين كان معتقلاً خلال ثمانية أشهر في سجن لاندسبرغ، لمشاركته عام 1923 بانقلاب ميونيخ الشهير، أمضى تلك الأشهر وهو منكب على قراءة مؤلفات كانط وشوبنهاور ونيتشه، يستعين بعبقرية هؤلاء في صياغة فصول كتابه “كفاحي” الذي من المعروف أنه صاغه في السجن، فكان أن تساءل كثر من المعلقين لاحقاً، وبقدر كبير من الاستغراب، عما إذا كان صحيحاً أن ذلك المؤلف قرأ كل أولئك الفلاسفة كي يصيغ ذلك النص المتهافت؟ وها هو ريباك يؤكد في كتابه اليوم أن ليس ثمة من بين كل ما تبقى من أرشيف هتلر ما يدل على أنه قرأ يوماً حقاً لأي من أولئك الفلاسفة، ولا سيما في زنزانة سجنه، وإلا فأين كتبهم؟ صحيح أن ألوفاً فقدت من بين ما كان يشكل مكتبة هتلر، ولكن يا لها من صدفة غريبة تلك التي جعلت الكتب الأكثر جدية تفقد والأكثر تهافتاً تحفظ!
غلاف كتاب تيموثي ريباك (اندبندنت عربية)
هنات عابرة
وذلك على أية حال سؤال استنكاري طرحته مجلة “فرانكفورت الخامني تسايتونغ” في سياق تعليقها على كتاب ريباك عام صدوره، والمجلة حيت على أية حال الجهد الذي قام به ريباك في هذا العمل، كما توقفت بإعجاب عند الاستنتاجات التي توصل إليها، حتى وإن كانت أخذت عليه بعض الهنات. غير أنها أنصفته، إذ أشارت إلى أن تلك الهنات لا تطاول ما هو جوهري في تناوله لموضوعه، وما هو لافت حقاً في أصناف الكتب التي تمكن من مراجعتها والحديث في شأنها، مستخلصاً من ذلك ما اعتبره “ثقافة هتلر الحقيقية” التي وجدها في نهاية الأمر شديدة البعد مما اعتاد الهتلريون التبجح به، من “عمق ثقافة زعيمهم” و”دقة معلوماته التاريخية” و”صوابية استناتاجاته” التي كانت هي ما أهله لزعامة أمة عرفت تاريخياً بكونها واحدة من أكثر أمم الأرض من ناحية وعيها الثقافي وعمقها الفكري.
ولعل الاستنتاج الأساس الذي أكده ريباك استناداً إلى المكتبة الهتلرية، يقول لنا إن ليس ثمة أي شيء من ذلك كله. ففي نهاية الأمر، لئن كان هتلر حشى “كفاحي” بكل أنواع الخزعبلات موحياً باستخلاصها من أصحاب المفاهيم الفلسفية الكبرى، فإن الحقيقة تقول لنا إن ما هو محشو في الكتاب ليس أكثر من جمل وعبارات وتأكيدات تغري أرباع المثقفين وتحير أنصافهم، كما يفعل أي ديماغوجي يملك القدر المطلوب من الدهاء وهو يعرف أنه يوجه خطابه إلى حثالة القراء.
مرجعية هتلر الحقيقية
ولعل ما يورده ريباك عن المرجعية الحقيقية التي غشيت بها مكتبة هتلر، أو ما تبقى منها على أية حال، يضيء لنا الطريق للتيقن مما سبق. ولا شك أن هذا يبدو واضحاً أن نحن أدركنا أن أكثر من عشر الكتب المحفوظة في مكتبة الكونغرس اليوم، أي ما يزيد على 130 كتاباً تتحدث عن السحر والشعوذة وكل تلك الأمور المشابهة التي تتناول شؤون ما وراء الطبيعة. واللافت أن معظم صفحات تلك الكتب، تحمل تأشيرات بالأحمر والأسود يؤكد ريباك أن هتلر هو الذي أشر عليها وهو يستنتج ذلك من خلال كون معظم تلك العبارات التي تلفت التأشيرات إليها، ترد في مكان أو آخر من فصول “كفاحي” من دون إشارة إلى مصادرها، حالها حال الإسنادات إلى كل ما يتعلق بالمسائل المرتبطة بكل ما له علاقة بالأمور المناهضة للسامية.
هكذا وضع هتلر مكافأة على رأس ألبرت آينشتاين – واقتص من عائلته
هل كانت لهتلر عائلة سرية في المملكة المتحدة؟
كيف طاردت يونيتي ميتفورد حد الهوس هتلر؟
والحقيقة أن المؤلفات الأساسية التي كانت كثيرة الحضور في التثقيف الأيديولوجي النازي لاحقاً، يمكن العثور عليها من دخول هتلر المعتقل، ولكن لاحقاً بعد ذلك. واللافت حقاً في هذا المضمار أن العدد الأكبر من المؤلفات في ذلك المجال يحمل على الغلاف إهداءات إلى “المعلم الأكبر”.
و”الصديق الأعز” و”الملهم الاستثنائي”، وما إلى ذلك مما يشير بكل وضوح إلى أن هتلر كان غالباً ما يقرب مؤلفي تلك الكتب منه، جاعلاً منهم حلقة فكرية خاصة محيطة به تستلهمه ويستلهمها. وما يقال عن الفكر اللاسامي في هذا المجال، ينطبق تماماً على الفكر المكمل له، الفكر المتعلق بسيادة الآرية والنزعة الجرمانية وما شابههما. وهنا أيضاً يلوح بكل جلاء ذلك الترابط الفكري الحميم والعميق الذي انبنت عليه فكرانية الزعيم النازي وملأت كتابه التأسيسي، فأين الفلسفة الحقيقية المدعومة في ذلك كله؟
تمثال نصفي وكتاب يسوعي
بقدر ما يغيب مفكرون من طينة إيمانويل كانط وشوبنهاور وفردريك نيتشه عن كتاب “كفاحي”، أو عن محاوره الرئيسة على أية حال، حتى ولو ذكروا في بعض الأحيان عرضاً أو من دون مناسبة، يلاحظ ريباك غيابهم التام عما تبقى من مكتبة هتلر في مكتبة الكونغرس. وهو غياب لم يطعن به أحد وربما لم يثر أي تساؤلات، وكأنه من نافل القول. ومع ذلك ها هو ريباك يذكرنا بأنه كان ثمة في الحقيقة تمثال نصفي لشوبنهاور، في منتجع برغول حيث كان هتلر يقيم. وكان ثمة إلى جانبه دائماً نسخة من كتاب عنوانه “رجل البلاط” من تأليف باحث إسباني يسوعي هو بالتاسار غراسيان، عرف تاريخياً بأنه كان من كتب شوبنهاور المفضلة، إذ كان يقرأه أو يقرأ صفحات منه يومياً تقريباً.
واللافت هنا كما يفيدنا ريباك أن هتلر لم يخط إشارة على أية صفحة من صفحات هذا الكتاب، وكأنه كان للزينة ولمرافقة تمثال شوبنهاور لا أكثر. وفي مقابل ذلك، من اللافت أن شيئاً من التصنيف المفتعل، وربما على غير معرفة من صاحب العلاقة نفسه – أي هتلر بالطبع – كان يضع في مكان بارز من الكتب الفلسفية، أو المصنفة كذلك، كتاب صانع السيارات الأميركي هنري فورد الذي كان واحداً من الكتب الأكثر حماسة في تعبيره عن اللاسامية وكراهية اليهود. ومن المعروف أن هذا الكتاب الذي وضعه فورد على غرار مؤلفات المؤرخ وعالم الأنسنة الجرماني هانز غونثر تعبيراً عن كراهيته لليهود وللسلافيين، طبع في ملايين النسخ في أميركا لتفرض قراءته على كل العاملين في مصانع فورد للسيارات، فكان من أشهر الكتب في هذا المجال وأكثرها رواجاً إلى حد أنه اعتبر نوعاً من الاستكمال لكتاب “بروتوكولات حكماء صهيون”. ولئن غاب ذكر هذا الكتاب الأخير عن كتاب ريباك، بحيث لا ندري ما إذا كان ثمة نسخة منه موجودة حتى الآن بين ما تبقى من مكتبة هتلر، فإن كتباً من الطراز نفسه موجودة بوفرة بحيث قد تصل إلى نسبة ربع الكتب المحفوظة وعلى رأسها بالطبع مؤلفات المستشرق الجامعي الألماني بول دي لاغارد، الذي كان من “فلاسفة” هتلر المفضلين، ولا سيما بالنسبة إلى تنظيره لمفهوم التوسع الجرماني، وهو اشتهر على أية حال بدعوته إلى طرد اليهود الألمان إلى مدغسقر!