يصف الكاتب الفرنسي لوران سيير في رواية “لا كلمات لدي” حياة المراهق جيريمي المصاب بالتوحد (غيتي)
ملخص
رواية “لا كلمات لديّ” للكاتب الفرنسي لوران سيير تسبر بعمق عالم التوحد الحاد من خلال بطلها المراهق جيريمي، الذي يعيش في صمت جسدي لكنه يفيض بالمشاعر والأفكار. تنقل الرواية صراعه الداخلي ورغبته في التواصل رغم إعاقته، كاشفة عن معاناة الأسرة والمجتمع في فهمه. هذا العمل فاز بجائزة “ولادة عمل أدبي 2025”.
“لا كلمات لدي” هو عنوان رواية لوران سيير الصادرة حديثاً في فرنسا عن منشورات “فينيتود” والتي تستكشف بكثير من الدقة موضوع اضطراب طيف التوّحد الحاد وطبيعة تفاعلات المصاب به مع محيطه الخارجي ودور اللغة والكلمات في حياتنا. واضطراب طيف التوّحد هو حالة مرضية تؤثر على نمو الدماغ وتؤدي إلى صعوبات كبيرة في مهارات اللغة والتواصل والتعبير عن المشاعر والتفاعل الاجتماعي، فضلاً عن إظهار سلوكيات تكرارية تترافق مع حساسية عالية.
بطل الرواية
بطلُ هذه الرواية فتىً في السابعة عشرة من عمره يُدعى جيريمي، مسجونٌ في جسدٍ لا يستجيب؛ صامتٌ لم يعرف النطق يوماً، كأنّ الكلمات قد وُئدت في مهده. فبسبب حبل سرّة عنيد، وُلد جيريمي مختلفاً، بـ “دماغ طائرة ورقية”. عجز الأطباء، كما أسرته، عن إدراك ما إذا كان هذا المراهق يفهم العالم من حوله أو يسمع نداءاته. لكن خلف هذا الصمت الثقيل، ثمة عقلٌ يقظ وروحٌ تتململ في قفصها، تتمرّد على القيود وتصرخ في الخفاء. جيريمي يُفكّر، يشعر، ويأبى الاستسلام لخذلان الجسد. يريد أن يبوح بشغفه بأفلام الرسوم المتحرّكة، أن يُحدّث ذويه عن حزنه العميق لأنّ شقيقته الصغرى تخجل من وجوده، أن يُشاركهم فخره بتلك الركلة التي أصابت كرة القدم ذات يوم، وأن يُخبرهم عن تفاصيل حياته بين جدران المنزل وأروقة معهد “سان مارتان”، حيث يتلقى رعاية خاصة بسبب حالته. سئم جيريمي من أن “يكلّمه الناس كما لو كان طفلاً”، لكن إعاقته الذهنية لم تشهد تحسّناً كبيراً. فوالداه وشقيقته وميلاني، المساعدة المرافقة المفضلة لديه، والأطباء كلهم عجزوا عن الدخول إلى عالمه. فهو لا يستطيع التعبير عن نفسه إلا ببعض التمتمات والتأوهات والبصاق. لذلك لا أحد يعرف ما الذي يدور في رأسه. لكن الفتى، يفهم، وهو شديد الحساسية، لا بل إن له عيناً ثاقبة. إنه يغلي في داخله من الغضب لأن من حوله لا يفهمونه. فكلامه الداخلي مختلف، مفعمٌ بالصور، شعريٌ في بعض الأحيان وخارج عن المألوف، يتدفق دوماً بلا انقطاع. جيريمي ثرثار، ولا يوجد شعور إلا ويختبره. حالته تؤثر بطبيعة الحال على حياة أسرته، لكن والديه لا يستسلمان، يتأرجحان بين الأمل واليأس، ورغم بعض الاقتراحات التي يقدمها الطاقم الطبي، والتي يعتبرها جيريمي غير نزيهة، لم يفكرا يوماً بإبعاده ووضعه في مؤسسة داخلية خاصة.
غلاف رواية “لا كلمات لدي” (اندبندنت عربية)
اكتشاف خطير
لكنه يكتشف ذات يوم، أن أخته تقوم بعملٍ مريب، تلتقي سرّاً برجلٍ يرتدي خوذة يعطيها ظروفاً غامضة، فكيف السبيل لتحذير والديه؟
في هذه الرواية، يراهن لوران سيير على إيصال فكر جيريمي المتعرج والمرتبك إلى القارئ. لكنه بكثير من الرقة، ومن دون تكلّف أو تصنّع، يستعرض حياة هذا الفتى وعائلته. فنتعلّق نحن القرّاء على تتالي صفحات الرواية الـ 176 بوالديه اللذين يبدوان ضائعَين، وبأخته المراهقة التائهة قليلاً، وبالأطباء والأخصائيات المخلصات. لكننا نتعلّق قبل كل شيء بجيريمي نفسه وبحيويته المؤثرة ويهزّنا العالم حين نراه بعينيه. فهو لا يستطيع التعبير عمّا يجول في خاطره أو يشعر به، علماً أنه يرى كل شيء ويسمع كل شيء ويشعر بكل شيء وتتزاحم الأفكار والمشاعر في رأسه دون أن يتمكن من مشاركتها مع الآخرين.
لا أمل في الأفق
تبدأ الرواية بتصوير دقيق لا يخلو من الفكاهة أحياناً لحياة جيريمي اليومية، مما أضفى على استكشاف هذا الموضوع المرهق نفسياً جمالية أدبية. فالسرد جميل كتب بأسلوب يفيض حساسية إنسانية عالية، ما جعل الرواية تفوز بجائزة “ولادة عمل أدبي” للعام 2025.
حكايات التوحد الأليمة في كتاب “طفل بلا حكاية”
مرضى التوحد ليسوا “حالة خاصة” في الدراما العربية
واحد من كل 100 طفل مصاب بالتوحد… ونكتشفه في هذا العمر
بالنسبة لجيريمي، لا أمل يلوّح في الأفق، على الأقل كما يرى الأطباء. فالحكم الصادر عن الطبيب لا يعرف التردّد، بل يحمل قسوة اليقين. جيريمي، هذا الفتى الطويل النحيل، يتعثر في جسده كما يتعثر في عالم لا يتقن لغته؛ حركاته ليست طوع إرادته، وكلماته، إن وُجدت، لا تخرج إلى الآخرين إلا مبتورة أو متعثّرة. وأكثر ما يوجعه، ليس ألمه الجسدي، بل صمته الثقيل، عجزه الفادح عن أن يُفصح عمّا في داخله. لكن جيريمي يبوح في “مونولوغ” طويل، مفعم بالصدق، بوجعه الخفي، ويحكي في هذه الرواية المكتوبة بصيغة المتكلم عن سعيه الحثيث لأن يجد لنفسه موطئ قدم في عائلته وفي المركز الذي يرتاده ووسط الآخرين وفي هذا العالم المتشابك الذي لا يفسح الطريق بسهولة لأشخاص مثله.
خارج الأعراف الاجتماعية
في هذه الرواية يخترع لوران سيير لغة نادرة بدقتها تتيح بسحر الوصول إلى أفكار الفتى العاجز عن التعبير عن جوانيته. لعله عاد في ابتكارها إلى كتابات رابليه وفولكنر ورومان غاري وغيرهم. ففي جمل قصيرة ومفردات تتكرر باستمرار وبكلمات فريدة اختيرت بعناية، استطاع هذا الراوئي مشاركتنا، نحن قرّاءه، آلام ومشاعر بطله وأفكاره ولحظات سعادته. وقد نجح في سردها بعد أن استوحى مادتها من ابن أحد أصدقائه ومن الحكايات التي سمعها هنا وثمة، هو الذي كان ناشطاً في شبابه في جمعية تهتم بالأطفال المصابين بمتلازمة داون. لكنه على ما قال في إحدى المقابلات الصحافية تأكد من واقعية ما كتب، بعد لقائه عدداً من أطباء الأعصاب والأطباء النفسيين والمربّين المتخصصين بذوي الاحتياجات الخاصة.
تبيّن الرواية إذاً الجانب غير المتوازن والخارج عن الأعراف الاجتماعية في شخصية المصاب بالتوّحد. ولعلها تنجح في الوقت عينه في إبراز طريقة الفتى العفوية في التعبير عن مشاعره، والتي تترافق في كثير من الأحيان بشيئ من الغموض.
“لا كلمات لدي” رواية آسرة، مفعمة بالمشاعر الإنسانية، تهزّ وجدان القارئ وتفاجئه في آنٍ معاً بتلميحاتها المضحكة وطرافتها وصدقها. في ثناياها خيطٌ رفيعٌ يربط القارئ بالإنسان الكامن خلف الإعاقة، موقظة فيه شعوراً غريباً، نجح الكاتب الذي “تقمص” روحه، في تبيانه. لعلها تُجسّد إحدى أهم أدوار الأدب ووظائفه، عنيت التوعية والتعبير عن الإنسان من خلال إبراز قضاياه وتغيير نظرته إلى بعض المشاكل والأمراض والهنّات التي تعترض وجوده. خلاصة القول “لا كلمات لدي” عملٌ مكتوب بحساسية مفرطة وذكاء حاد، يتناول مسألة المرض النفسي، لاسيما اضطراب طيف التوّحد كما هو، من دون مساحيق أدبية زائدة، ومن دون افتعال مشاعر. إنها عبارة عن تأمّلات مدهشة في معنى الاختلاف وفي كرامة الإنسان حين يصمت العالم من حوله.