أكد توماس باراك، السفير الأميركي لدى تركيا والمبعوث الخاص للرئيس دونالد ترامب إلى سوريا، أن مرحلة التدخلات الغربية في شؤون الشرق الأوسط قد انتهت، مشددًا على ضرورة تبني حلول إقليمية قائمة على الشراكات والاحترام المتبادل لإعادة بناء سوريا والمنطقة.
وقال: “اتفاقية سايكس-بيكو قسّمت سوريا والمنطقة لتحقيق مصالح قوى إمبريالية، وليس من أجل السلام.
أجيالٌ كاملة تحملت وزر ما جرى. لن نسمح بتكراره مرة أخرى، فالمستقبل يعود للحلول الإقليمية المبنية على الشراكات والدبلوماسية القائمة على الاحترام”.
وقّعت بريطانيا وفرنسا في عام 1916 اتفاقية سرّية تُعرف باسم “سايكس بيكو”، نسبة إلى المفاوضين البريطاني مارك سايكس والفرنسي فرانسوا جورج بيكو، بهدف تقاسم مناطق النفوذ في المشرق العربي. فهل ما تخطط له واشنطن اليوم هو دفن آخر ما تبقى من ذلك النظام عبر مشروع أميركي جديد بصيغة “سايكس بيكو” مختلفة وأكثر مرونة؟ وهل تسعى إدارة ترامب إلى إعادة ترتيب أوراق نفوذها في المنطقة في سياق البحث عن استراتيجية جديدة قادرة على التعامل مع التحديات والمتطلبات السياسية والأمنية والاقتصادية، تستدعي تجديد أدواتها الدبلوماسية والاستراتيجية، وتأخذ بعين الاعتبار موازين القوى الحديثة وتوجهات اللاعبين الإقليميين والدوليين؟ وهل يتحدث باراك، ابن زحلة في البقاع اللبناني، باسمه أم نيابة عن ترامب؟ وهل يمتد كلامه إلى حدود “بلفور”، أم أنه “سيكويّ” عند هذا المنعطف الذي أعدّته له بريطانيا قبل أكثر من قرن؟
من اللافت أن تعود الولايات المتحدة اليوم إلى فتح ملف “سايكس بيكو”، وهي الاتفاقية التي لم تكن طرفًا فيها. البداية كانت مع تبنّي أميركا سياسة الانكفاء انطلاقًا من قرار “الحياد” الذي اعتمده الرئيس ويلسون، والذي يتماشى مع مبدأ “حق تقرير المصير” إبّان الحرب العالمية الأولى. لكن قرار باريس ولندن استبعاد واشنطن عن التقاسمات الكبرى كان له تأثير كبير، ما دفع أميركا إلى اعتماد سياسة الانزواء والتريث حتى صيف 1944، مع إنزال النورماندي، تلبيةً لنداء النجدة الأوروبي في مواجهة التوغل الألماني، لتنتقم واشنطن لنفسها بعد كل هذا الانتظار.
رسائل توماس باراك، بما تنقله من نقد ساخر لإرث سايكس بيكو، ليست مجرد مراجعة تاريخية متأخرة، بل محاولة لإعادة صياغة الدور الأميركي في المنطقة على أسس جديدة، تُخالف النموذج الأوروبي القديم. وتعكس التصريحات الأميركية المتلاحقة على لسان الرئيس دونالد ترامب، ووزير خارجيته روبيو، ومبعوثه الخاص إلى سوريا، توماس باراك، حقيقة أن واشنطن تمهّد لمشروع إقليمي أميركي جديد بصيغة مغايرة.
اليوم، وبعد مرور ثمانية عقود، يدخل اللاعب الأميركي بثقله من جديد إلى الساحة الإقليمية مع وصول إدارة ترامب إلى البيت الأبيض. رأينا واشنطن تعيد رسم السياسات والمواقف في لبنان أولًا، ثم تنتقل إلى الملف السوري بالتنسيق مع حلفاء وشركاء إقليميين مؤثرين مثل تركيا والسعودية وقطر والإمارات ثانيًا. ثم جاءت القمة الرباعية في الرياض برعاية سعودية، وتصريحات الرئيس الأميركي حول شخصية الرئيس السوري وما ينتظره منه في اتجاه إنجاز المرحلة الانتقالية في سوريا، بعيدًا عن إيران وروسيا. تبع ذلك قرار رفع العقوبات الأميركية عن سوريا، ليتوّج برسائل مبعوثه الشخصي وسفيره الجديد في أنقرة، توماس باراك، حول اتفاقية “سايكس بيكو” وانعكاساتها السلبية على الشرق الأوسط.
بعد 14 عامًا على انطلاق الثورة السورية، وسقوط نظام الأسد، ووصول سلطة سياسية جديدة، لم تجد إدارة ترامب الكثير من الخيارات أمامها سوى الإصغاء لمتطلبات مصالحها، ولِما يقوله ويريده العديد من الحلفاء والشركاء – عدا إسرائيل – بشأن ضرورة اعتماد سياسة أميركية جديدة تأخذ بعين الاعتبار التوازنات المحلية والإقليمية، وإعادة تعريف مقاربتها للملف السوري.
لم يصغِ ترامب لأوروبا أو لإسرائيل في التعامل مع الملفات الإقليمية الساخنة، بل رجّح التعاون مع شركاء وحلفاء آخرين لأميركا في المنطقة. فشل نتنياهو في الحصول على ما يريده من ترامب في سوريا، فاختار اللحاق بما يجري هناك من خلال تفعيل الحوار مع الجانب التركي ومحاولة فتح قنوات تواصل مع الجانب السوري.
يقول ترامب إن أخطاء الماضي لن تتكرر: “جيشنا لن يتولى مهام إنشاء الدول بقوة السلاح، بل الدفاع عن الوطن”. ويقول وزير خارجيته روبيو إن ترامب يريد مسارًا جديدًا في العلاقات الدولية، فيه الكثير من الواقعية. أما باراك فيردد: “لن يكون هناك سايكس بيكو جديد هذه المرة”.
قد لا نرى خريطة تقاسم نفوذ استعماري جديد كما حصل عام 1916، لكن الواقع الميداني يشير إلى توزيع نفوذ وإعداد خرائط لا تُرسم بالمسطرة، بل تتحدد بناءً على تفاهمات وتقاطع مصالح. قد لا يكون ترامب يسعى إلى كتابة مشروع “سايكس بيكو” جديد، لكنه بالتأكيد يحاول محو القديم، والتأسيس لشرق أوسط تُحدّد واشنطن معالمه مع شركاء وحلفاء في الإقليم، بعكس ما فعلته باريس ولندن قبل قرن.
لن تفقد منطقة الشرق الأوسط خصوصيتها الجيوسياسية كساحة للتنافس الشديد على الثروات والجغرافيا والنفوذ بين القوى المحلية والخارجية. لكن التحدي الأكبر الذي ينتظر فريق ترامب يكمن في مدى قدرة هذه الرؤية الجديدة على تجاوز إرث سايكس بيكو فعليًا، دون أن يتحول الأمر إلى مجرد إعادة توزيع مصالح على حساب شعوب ودول المنطقة.
هشاشة الوضع الإقليمي القائم فتحت المجال أمام الولايات المتحدة للتموضع وفق خرائط بديلة. وهناك احتمال كبير بأن لا يكون أمن إسرائيل هو مركز الثقل الأميركي في المنطقة هذه المرة، خصوصًا إذا نجحت إدارة ترامب في إنجاز خطط إعادة رسم خرائط التموضع السياسي والأمني الجديد بالتعاون والتنسيق مع حلفاء وشركاء فاعلين منفتحين على السلام والأمن والتعاون الحقيقي في المنطقة.
بعض الوقت، ونعرف إن كان ترامب وفريق عمله جادَّين في إعادة ترتيب مشروع جديد، أم أنها لعبة “لفٍّ ودوران” بوجهٍ مغاير!