Skip to content

السفينة

alsafina.net

Primary Menu
  • الرئيسية
  • الأخبار
  • افتتاحية
  • حوارات
  • أدب وفن
  • مقالات رأي
  • منوعات
  • دراسات وبحوث
  • المجتمع المدني
  • الملف الكوردي
  • الأرشيف
  • Home
  • موسيقى مالر في معرض الهويّات سيرة اغترابٍ احتوت عالماً بأسره …أنس مراد…..المصدر:الجمهورية .نت
  • أدب وفن

موسيقى مالر في معرض الهويّات سيرة اغترابٍ احتوت عالماً بأسره …أنس مراد…..المصدر:الجمهورية .نت

khalil المحرر يونيو 14, 2025

يشغل غوستاف مالر (Gostav Mahler) حيزاً هاماً من نتاج الوعي البشري، ويحتل موقعاً خاصاً في الميراث الموسيقي العالمي، لكن النظر إلى مالر بتحييد بسيط لنتاجه الموسيقي، يُضيء جوانب مهمة للنقاش حول شخصية تتقاطع فيها خيوط إشكالية لا تزال تشغل حيّز النقاش العام، مثل مسألة التمثيل الهوياتي على وجه الخصوص.

طغت صفة الاغتراب على سيرورة مالر الذي أدرك دوره كشخصٍ لامنتمٍ، ونظر إلى هويته نظرة صراع عميق، مما جعل منه شخصية متنصّلة من أي نسيج قومي أو عرقي وإلى حدّ ما ديني، ومنعزلة عن أي انتمائات سياسية أو تحزبية، هذا التنصل والاغتراب حصر غوستاف مالر في منطقة مغايرة، يتطلع منها للوجود البشري، لا بتساؤلات فلسفية توجه ضربة قوية للتصور العقلاني للتجربة الإنسانية وحسب، بل بصراع جدلي أبدي (ewig) لا ينتهي أبداً بين النفس والعالم الخارجي، خاصة في الزمان والمكان الذي جسّد فيهما مالر قامة ثقافية ملفتة، ذات نتاج حداثي، وكما يصفه ريتشارد تاروسكين هو أحد الحداثيين الألمان الأوائل، فيما «الإحساس بالانتماء إلى الغرباء» بقي حاضراً دوماً، وبعيداً عن كتابته لأعمال تحمل التقاليد الجرمانية الصارمة (الفاغنرية)، يصف تاروسكين موسيقى مالر بأنها (Weltanschauungsmusik) موسيقى تعبر عن نظرة عالمية، وفي الواقع هذا ما قاله مالر بأن هدفه هو كتابة «سيمفونية عظيمة لدرجة أن العالم كله ينعكس فيها بالفعل»، ويناقش جون تويوز تعبير مالر هذا عن – موسيقى – رؤيته للعالم، فيرى أنه على يد مالر، كانت الحياة والطبيعة خالية من أي ارتباط قومي أو عرقي أو عنصري، حيث كانت اللحظة التأسيسية لإفراز ثقافة تنطلق من التنوع والاختلاف في الطبيعة البشرية، وتتحدد سماتها بالإنسانية العامة، والحياة الفردية التي تنمو وتتشكل في مجتمعات ثقافية متمايزة.

ما الذي دفع مؤلفاً موسيقياً عظيماً، في ذروة مكانته العالمية، وسلطته كمدير أوبرا البلاط النمساوي وقائد أوركسترا فيينا الفلهارمونية، وكحامل لواء المدرسة السيمفونية الجرمانية العريقة، ليتبنى هذا الفكر الإنسانوي، المتصوف، الخارج عن التحيّز والانتماءات، وترديد صدى المشاعر الإنسانية في أعمال عملاقة تتحدث عن اليأس والموت، والانتصار من خلال القبول والاستسلام؟

كان مالر يُعتبر بالفعل دخيلاً غريباً داخل الثقافة الجرمانية، حيث أنه كان نمساوياً، وكونه نمساوياً في ألمانيا لم يكن أمراً مشرفاً خاصة في العقود التي تلت هزيمة النمساويين المهينة على يد البروسيين في عام 1866، وإذا لم يكن ذلك سيئاً بما فيه الكفاية، فمالر في الواقع لم يكن حتى نمساوياً تماماً، لأنه كان من المقاطعات البوهيمية، وفي حال لم يكن ذلك كافياً، فقد كان يهودياً، وهو أمرٌ من الصعب تجاوزه في فيينا نهاية القرن التاسع عشر.

في طفولته في إيغلاو Iglau بمورافيا «في جمهورية التشيك الآن، وكانت على خط دفاع الإمبراطورية النمساوية ضد العدوان البروسي»، نشأ مالر في بيئة اجتماعية كانت تميل إلى تجاهل خلفيته العرقية المحددة، ويرجع ذلك إلى أن عائلة مالر تنتمي إلى مجتمع أقلّوي ألماني صاعد ومُستوعَب داخل إيغلاو، لكن انتقاله إلى فيينا في عام 1875 وضعه في بيئة مختلفة لم يتمكن من الهروب من مواجهتها أبداً، حيث كانت مكونات اجتماعية جديدة – الحرفيون والعمال الحضريون، والسلاف، والاشتراكيون المسيحيون المعادون للسامية – تصعد بسرعة إلى السلطة، وكان المناخ الثقافي لّليبرالية الرأسمالية، الذي سمح ذات يوم لليهود والنمساويين من الطبقة الوسطى بمكانة قوية في المجتمع في طريقه إلى الانهيار. وجد مالر نفسه في مجتمع كان يتحول بسرعة ويحمل له تهديداً مباشراً، خاصة حين بدأت الجماعات القومية «الفصيل الوحدوي الألماني والحزب الاشتراكي المسيحي»، والأوساط الجامعية، وخاصة الكنيسة الكاثوليكية، في توزيع الأدبيات المعادية للسامية وهذا ما كان له تأثير مباشر على حياته الشخصية، والذي سيُحدد خياراته في المستقبل بحيث يبتعد عن شغفه منذ الطفولة بالتأليف الموسيقي، ليتجه إلى قيادة الأوركسترا.

في عام 1897، عاد مالر إلى النمسا من هامبورغ، مستعداً لتولي أهم المناصب الموسيقية المتاحة آنذاك، كمدير لأوبرا فيينا الحكومية وقائد أوركسترا فيينا الفيلهارمونية، حيث أنّه لم يكن من المتخيل أن يشغل شخص يهودي منصباً كهذا، كان عليه التخلي رسمياً عن يهوديته وأن يصبح كاثوليكياً، وهو ما فعله بسهولة ودون أي تردد، هذا وبالإضافة إلى شفاعة يوهانس برامز له كقائد أوركسترا متفوّق على منافسه الآخر ريتشارد شتراوس، استطاع مالر أن يحظى بهذا المنصب، لكن، في العام نفسه أصبح كارل لويغر (رئيس الحزب الاشتراكي المسيحي) عمدةً بعد أن تحالف مع الفصيل المعادي للسامية برئاسة جورج فون شونيرر، وبعد بضع سنوات ستتضح علاقة لويغر وشونيير بهتلر ومدى تأثيرهما بالفوهرر المستقبلي نفسه مع قدومه إلى فيينا؛ وفي هذه الأثناء لم يكن مالر كاثوليكياً مقبولاً، ولم يعد يهودياً أيضاً.

لاحقت الصحافة مالر بلا هوادة، حتى ذهبت إلى حد كتابة أن «المستمعين الحساسين ينزعجون بشدة… (عندما) يأخذ (مالر) كلام أساتذتنا الألمان الأصيلين (فاغنر) إلى فمه ويتصرف كما لو كان واحداً منهم»، أدرك مالر كل هذا، ولم يستطع الهروب منه، ويُزعم أنه علّق قائلاً إنه كان «ثلاث مرات بلا مأوى؛ كمواطن بوهيمي في النمسا، وكنمساوي بين الألمان، وكيهودي في جميع أنحاء العالم». عاملت الأوساط الفنية في فيينا غوستاف مالر تلميذ مدرسة فاغنر التلوينية القومية الجرمانية بمعاداة لعمله الفني، وأقصَته كغريب، مما أدى إلى قبول استقالته من أوبرا فيينا، التي قادها ما بين الأول من مايو عام 1897 و 31 ديسمبر عام 1907.

تكمن المفارقة التي يمكن الاستناد عليها لفهم اتجاه مالر النكوصي من المجتمع، بما فيه من انسحاب، ورفض ومقاومة، في تأثر مالر العميق بشخصية وأفكار ريتشارد فاغنر، وتقاليده وتقنياته الموسيقية، ونظرياته في الفن «مفهوم الفن الشامل»، فاغنر المُتبني لأفكار شوبنهاور ونظرته للموسيقى بما هي «التعبير المباشر عن حقيقة العالم، التي هي إرادة عمياء وغريزية».

تأثر مالر بأفكار فاغنر حول موسيقى الموسيقي والمؤلف، حاله في ذلك حال كل موسيقيي نهاية القرن التاسع عشر، ففي مقالته بعنوان بيتهوفن كتب فاغنر: «يجب أن ينتمي المزاج المُعَبّر عنه في التّصور، إلى فكرة العالم نفسها، حيث يُدركها الفنان ويُجسدها في العمل الفني. وبما أننا افترضنا بشكل قاطع أن فكرة العالم نفسها تتجلى في الموسيقى، فإن الموسيقي المُتصوِّر، هو مُضَمَّن أولاً وقبل كل شيء في هذه الفكرة، وما يُعبِّر عنه الموسيقي في نتاجه ليس رأيه عن العالم، بل العالم بحد ذاته، «العالم الذي يتمثّل فيه الألم والفرح، والعافية والويل». آمن مالر بكل ما كتبه بطله فاغنر، سواء في الموسيقى أو النظريات حول الفن والوجود، بل أنه انغمس بتقمصه لشخصية الفنان الفاغنري إلى حد لم يعد يرَ العالم إلا من خلال تعريف فاغنر له. لكن فاغنر، عرّاب القومية الجرماني كان قد سلّف رفضه المسبق لغوستاف مالر، حيث كان قد نشر دراسة بعنوان اليهود في الموسيقى التي تتمحور حول سطحية وانحطاط اليهود واللغة العبرانية. وهكذا كانت مقتلة مالر في درعه الفاغنرية بوجه منتقديه العنصريين.

نحتت الظروف من مالر، شخصاً إنسانوياً ذا أفكار كونية، متقبلاً لوجوده العابر في هذا الكوكب بقنوت واستسلام. بمنطق آخر يمكن تسمية مالر بفنان ما بعد الاضطراب الهوياتي، إذ لا فرق إذا ماكان اليأس، أو النكران، هو ما دفع به ليترفع بنفسه باحثاً عمّا يمكن أن يحتويه، لكن في ذات الوقت إذا ما نظرنا إلى المناخ الفني في المجتمع الفييني نهاية القرن التاسع عشر، حين كانت فيينا تمثل الفضاء الثقافي الأكثر إثارة في أوروبا، وموطناً لشخصيات مثل فرويد، وغوستاف كليمت، وأوتو فاغنر، وفرانز ليهار، وآرثر شنيتزلر، نجد أنه من الخطورة تجاهل هذا المجتمع الذي خُلِقت ضمنه أعمال مالر العملاقة، والذي ربما لم تكن تجربته الجماعية مختلفة عن تجربة مالر نفسه، فبحلول عام 1900، أطيح بالسياسة الليبرالية من قبَل قوى راديكالية متباينة، وتآكلت الثقة في النظام الاجتماعي، خاصة مع التطلعات السياسية الطموحة للاشتراكيين، والقوميين الألمان مُعاديّ السامية، إضافة إلى الأقليات الممثلة تمثيلاً ناقصاً مثل القوميين السلافيين. تصاعدت الأزمة السياسية بسبب عدم وجود هوية في ظل سلطة حاكمة موحدة، لتترك النمساويين في وضع من الثقة المتضائلة في الإنسانية، ومع اقتراب النظام الاجتماعي والسياسي النمساوي من الانهيار، بدأ المجتمع ما بعد الليبرالي الحديث النشوء، يبحث عن النظام والثقة داخلياً بدلاً من البحث عن نظام اجتماعي وسياسي عقلاني. أدت هذه النُّهُج إلى تمجيد الإنسان كملاذ من العالم الحديث الخارجي، وبالمثل، بدأت مجموعات من الفنانين والكتاب والملحنين في الاستجابة لحالة عدم الاستقرار السياسي والفوضى الاجتماعية من حولهم، بتحويل تركيزهم إلى الداخل، نحو أمان الروح الإنسانية، التي كان يُنظر إليها على أنها تخلق توازناً مع العالم المادي الذي لا يمكن السيطرة عليه، والذي كان يتسارع بشكل ملحوظ باتجاه هاوية كارثية، تجسدت بُعَيدَ ذلك بالحرب العالمية الأولى.

في خضم هذه الأحداث، كان جزء من المجتمع الفني الفييني يجد في مالر بيتهوفن جديداً، سيقود البشرية إلى الخلاص النهائي، حيث خلّد غوستاف كليمت مالر، بصورة الفارس بالدرع الذهبيّة، على إفريز بيتهوفن الشهير خلال معرض الانفصال الفييني الرابع عشر في فيينا عام 1902 (في مبنى حركة الانفصال الفييني المبني عام 1897)، كُرّس المعرض بالكامل للاحتفاء ببيتهوفن وبتلحينه لقصيدة شيلر أنشودة الفرح في سيمفونيته التاسعة، وحُوّلَ داخل مبنى حركة الانفصال إلى معبد لبيتهوفن على يد المهندس المعماري جوزيف هوفمان، حيث أنشأ قاعة «قدس أقداس» في مركز المبنى، والدخول إليها يكون بعد المرور عبر عدة دهاليز لتصل مركز هذا الحرم الداخلي، حيث نُصب تمثال معاصر لبيتهوفن نحته الفنان ماكس كلينجر، متربعاً على منصة مرتفعة.

جسّدَ كلينجر بيتهوفن كمنقذ للبشرية، حين زاوج بين التصوير المسيحي والأساطير اليونانية، مما صوَّرَ بيتهوفن إلهاً فعلياً. فيما وسّع كليمت الإشارات المسيحياتية في ثلاث لوحات جدارية تجسد قوة الفن والفنان، وتعبر رمزياً عن سيمفونية بيتهوفن التاسعة، وتحرير الإنسان من الظلام نحو السعادة. يصف شورسكي اللوحات بأنها «أكمل تعبير لكليمت عن مثال الفن على أنه ملاذ من الحياة الحديثة».

على الرغم من كون المعرض ظاهرياً كان تكريماً لبيتهوفن، إلا أن مصدر إلهام كليمت للفارس الوحيد الذي يقود البشرية إلى النصر النهائي كان غوستاف مالر، الذي افتتح المعرض بأداء مختزل للسيمفونية التاسعة لبيتهوفن، تماشياً مع إفريز كليمت، ومتظافراً مع الفنون التطبيقية والزخرفية التي أحاطت بتمثال بيتهوفن، لخلق عمل فني شامل تمجيداً للفن والفنان. على هامش المعرض كان لقاء مالر بالنحات ألفريد رولر الذي استطاع مع مالر أن يُعيدا نفخ روح جديدة، حملت تغييرات ثوريّة في المسرح الأوبرالي، حيث استُبدِلت الرسومات الزخرفية التي كانت دارجة، ليحل محلها استخدام الإضاءة والتصميمات المجسّمة مما أعطى بُعداً أكثر حيوية للمسرح، ومن ثم استطاع الثنائي مالر – رولر إدخال تريستيان وإيزولد (رائعة فاغنر) التاريخ مرة أخرى عام 1903.

على الضّفة الأخرى من حياة مالر، كشخصيّة مركزية في معادلة الفن والثقافة، والتي اختار خلالها وضعية المُتأمل بفلسفة كل ما يدور حوله، مُفضِّلاً العيش في مأوى داخلي آمن مقابل الخارجي الحاد والجارح، وبارتباك محاولاته لاحتواء الضغوط الموجهة لوجوده الهش في السياق الجمعي، وقف مالر متحدياً وصارخاً، بدرعه الذهبية التي استلهمها كليمت على جدارية معبد بيتهوفن، ومسلحاً بكونه آخر قامات المدرسة السيمفونية الألمانية العريقة، والوريث الأخير لجوزيف هايدن وموتسارت، لبيتهوفن ومندلسون وشوبيرت، لفاغنر العتيد. كان فعل مالر المقاوم، متمركزاً في ساحة العمل الفني الموسيقي، كقائد الأوركسترا الأفضل في زمنه بشهادة ألد منافسيه مثل براهمز وشتراوس، وأعدائه مثل كوزيما فاغنر «زوجة ريتشارد فاغنر، وابنة شيخ الموسيقى فرانز ليست»، التي لطالما حاربت مالر المؤلف، لكن لم تستطع إلّا الإشادة بقيادته لأعمال زوجها صعبة الأداء.

أمّا ميدانُ التأليف الموسيقي فقد كان الفضاءَ الذي أطلق فيه مالر كل تنهداته المُلتاعة، وصراخه الغاضب المتألم، وأيضاً كان المدى الذي أعاد فيه إنشاد ألحان الطفولة التي بقيت تلاحقه حتى النهاية، والتي تمتزج فيها الأساليب الموسيقية اليهودية والشرق أوروبية، البوهيمية والهنغارية والرومانية والأوكرانية، تلك الشعوب التي التهمتها حروب الملوك، والأباطرة، والثقافات التي انطفأت فيما بقيت ذاكرة مالر مصرّة لتنصبَ لها شواهد لائقة في موسيقى لا يمكن أن تُمحى من ذاكرة الزمن.

يقول فيليب كليبر عن الاقتباس بأنه «وسيلة لتقديم تعليق خفي أو ملاحظة جانبية، ويعتمد على معرفة المستمع بالمصدر المقتبس، وبدونها سيضيع التأثير الكامل للتعليق». يظهر أوضح وأشمل مثال على اقتباس مالر لموسيقى من الفولكلور، في الحركة الثالثة من السيمفونية رقم 1. تبدأ هذه الحركة بواحد من أشهر الأمثلة على ميل مالر إلى الغرائبية بل الى الغروتسكية المقصودة، حيث عرض لحناً جنائزياً على سلّم موسيقي صغير minor (حزين)، مشتق بالأصل من لحن أطفال مألوف على سلّم كبير major (مبهج) معروف بـ الأخ جاك (Frère Jacques)، مما جعل كلماتها وعواطفها غير متناسبة. ستتضح الدلالات التي يريدها مالر عندما نأخذ بعين الاعتبار تسمية مالر – التي غيرها فيما بعد – لهذه الحركة بـ «Todtenmarsch in Callots Manier» مارش جنائزي على طريقة كالوت (رسام فرنسي وفنان هزلي)، والقصة التي يقصدها مالر لكالوت معروفة للأطفال النمساويين حينها باسمِ موكب جنازة الصياد من كتاب قديم لحكايات الأطفال الخرافية، حيث حيوانات الغابة ترافق نعش الحطّاب الميت إلى القبر، مع الأرانب التي تحمل لافتة صغيرة، وفرقة من الموسيقيين البوهيميين في المقدمة، والموكب تصحبه قطط وضفادع وغربان كلها تعزف الموسيقى، بالإضافة إلى الأيائل والثعالب وغيرها من المخلوقات ذات الأربع أرجل والطيور كلها مرسومة في أوضاع هزلية حيث يَعمُ القصة مزاج مرح ساخر.

ما الذي يريده مالر من قلب هيكل السلطة المعتادة في الغابة؟ حيث تقود الحيوانات جسد صيادها نحو قبره؛ الصياد والفريسة، القوي والضعيف، يتبادلون المواقع. مثل هذه الانعكاسات الساخرة يسميها ميخائيل باختين «انقلابات وهمية لهياكل السلطة الاجتماعية، تُحرر مؤقتاً الجماعات المهمشة من الحقيقة السائدة للتسلسل الهرمي الاجتماعي القمعي».

أراد مالر التدليل على اضطهاد الأغلبية الكاثوليكية للأقليات في فيينا، وكذلك في الأراضي الشرقية الخاضعة لسيطرتها، مما يخلق خيالاً انقلابياً يتفوق فيه المضطَهَد ثقافياً على سلطات المجموعة المهيمنة.

منذ طفولته المبكرة، تشرّبَ مالر أنماطاً من الإيقاعات الموسيقية المتنوعة، مثل اللاندلر (رقصة ريفية ألمانية بإيقاع ثلاثي)، في موطنه مورافيا وبوهيميا، والمارشات العسكرية وموسيقى النفخيات من ثكنات الجيش في مسقط رأسه إيغلاو، إضافة إلى الفالس الذي كان شائعاً في فيينا خلال القرن التاسع عشر. وفي جميع سيمفونياته، نسمع صدى هذه الرقصات والمارشات، غالباً في تجاور متناقض ومتعمد مع بعضها البعض. لم يكن مالر أول من استخدم الرقصات والمارشات في سيمفونياته، لكن تمثلت ابتكاراته في الطريقة التي استخدم بها هذه العناصر كإشارة إلى تجاربه الحياتية الخاصة، والطريقة التي انتقل فيما بينها، خالقاً تباينات ومُحدِثاً انقطاعات في الموسيقى كوسيلة للتعبير عن الضيق والسخرية والتناقض، قاصداً الحوارية ما بين المجتمعات التي نشأت وانتشرت فيها هذه الرقصات، فرقصة اللاندلر كانت تُرقص بأحذية عمال المزارع، غالباً في الهواء الطلق أو في الحظائر، بينما كانت رقصة الفالس تُرقص بأحذية أخف في قاعات الرقص الأنيقة ذات الأرضيات الخشبية. لطالما كانت العلاقة متوترة بين فيينا والريف النمساوي، وبحلول نهاية القرن التاسع عشر، تحول التوتر إلى عداء عميق الجذور.

 

وما يلي جدول لاستخدامه للرقصات الشعبية والمارشات العسكرية في سيمفونياته:

السيمفونية: 1 2 3 4 5 6 7 9
الحركة: 1 2 1 3 5 1 2 1
لاندلر × × × × × ×
فالس × × ×
رقصات شعبية أخرى ×
مارشات عسكرية × × × × × × × ×

تبدو موسيقى مالر ألمانية، لكن العناصر التي نُسميها اليوم حداثية، هي ما جعلها غير ألمانية تماماً، كالفروق في طريقة توزيع الآلات، والتحولات السُّلَّمية المتكررة والخارجة عن التقاليد الألمانية، إلى جانب التنويعات التي تُعيق سير الألحان في نفس التدفق الموسيقي، تماشياً وسيمفونيات أي مؤلف ألماني آخر، بالإضافة إلى الانفعال الذي يذهب أقرب إلى الهزل، والعبث الطفولي الساخر، كاسراً المزاج الجاد الذي اعتاده الريبرتوار الألماني. إذا ما حاولنا ربط هذا مع مسلّمة أن الموسيقى التي ادعى الفلاسفة الألمان أنها أسمى الفنون، ضمنياً، قصدوا بها الموسيقى الألمانية، لذلك فإضفاء مالر لتقاليده الخاصة هي محاولة لكسر الأنفة الجرمانية، بأن يعرض نسخته الطفولية والشعبية، لتقاوم القمعية الجرمانية المتشددة.

كان عام 1900 عاماً حاسماً بالنسبة لمالر، كتب بعده تسعة أعمال توفي قبل أن يستمع لثلاثة منها. لم يكن مالر متفائلاً بالقادم على الكوكب، بل كان يُودّع البشرية التي ستزول، ويُمجد الأرض والطبيعة التي ستزدهر بزوالها، كما في أنشودة الأرض (Das Lied von der erde) وبالفعل لم تلبث الحرب العالمية الأولى أن اشتعلت بعد وفاة مالر بثلاث سنوات، بسبب اغتيال وريث عرش الإمبراطورية النمساوية المجرية من قبل شاب قومي صربي، كانت النمسا تحتل بلاده، وتمارس عليها الفوقية الحضارية الجرمانية، حيث قال الشاب الصربي في محاكمته: «أنا لا يهمني ما شكل الدولة، ولكن يجب أن نتحرر من النمسا». غيرت الحرب العالمية الأولى الواقع على سطح الكوكب، وخاصة في أوروبا والشرق الأوسط، وواجه البشر نبوءة زوالهم المالرية وجهاً لوجه لأول مرّة. كانت الدولة العثمانية إحدى الكبسولات الزمنية، التي تختصر الكثير من القوميات والإثنيات والأعراق في خزانتها، وكانت من القوى التي استنزفت الحرب العالمية الأولى آخر ما تبقى من أنفاسها لتنحل في عام 1923، مع مجمل ما لزم أن يتغير ويتفتت في القرن الجديد، بما في ذلك المقامية الموسيقية التي تفككت مع نهاية مدرسة فيينا الكلاسيكية، التي كان مالر آخر روادها، بل وكان من المؤثرين برواد مدرسة فيينا الجديدة بقيادة آرنولد شونبيرغ مبتكر تقنية الإثني عشر نغمة، ومريديه الثوريين أمثال ألبان بيرغ، فيبرن، ستورمان وغيرهم، ويبدو تأثير مالر جلياً في أعمال سترافينسكي، وشوستاكوفيتش، وبريتن وآخرين ممن قدَّموا أعظم إبداعاتهم عندما أصيبوا بعدوى مالر التي لا تزال سارية، ويسميها النقاد التأثيرات المالرية «Mahlerian effects»، حيث يقول ألفريد أينشتاين عن مالر: «تعكس موسيقاه، الممزقة بين النشوة واليأس، التنافر الداخلي للعصر بأمانة – الفترة التي أدت إلى الحرب العالمية (الأولى) وتحتوي في هذا الصدد على حقيقة فنية أكبر بكثير من القشرة الجمالية لريتشارد شتراوس. وسيمفونيته التاسعة بعد وفاته تقف بالفعل على الحدود الفاصلة بين الرومانسية المتأخرة والموسيقى الجديدة المعاصرة».

انحلَّت الدولة العثمانية، مُخلِّفةً هويات ضائعة بتاريخها المنصهر مع تاريخ دولة كهلة ماتت عن عمر الستمئة عام، وكل تلك الهويات تسعى لتجد لنفسها تمثيلاً لائقاً بعد قرون من الاندماج القهري. لم يتح القرن العشرون الوقت الكافي لهذه الأقليات لتعريف وجودها بخطوط عريضة، قبل أن تُحتل من قبل الدول الاستعمارية الكبرى، ومن ثم لتشتعل الحرب العالمية الثانية مضطرة إياها لترك الشعوب لمصير أكثر قتامةً من قبل، فالمُستجد على واقع الشعوب وهوياتها، كان تقسيم جديد يُسمّى وطن، وهو عبارة عن حدود تحصر ما بينها حيزاً جغرافياً وعلى كل من هو ضمن هذه الجغرافيا أن ينصهر بوطنيته.

كان ما بين استقلال سوريا ودخولها في دهليز حكم آل الأسد وحزب البعث أربع وعشرون عاماً، لم تكن كافية لنضج أي تجربة تجعل خليط الهويات السورية في وضع من الوعي الكافي لذات كل منها على حدة، ولا للتفاعل مع المكون الهوياتي الشريك، ومن ثمّ الانصهار سوية ضمن الهويّة السوريّة، فالمكونات المتعددة قومياً من عرب وكرد وشراكس وتركمان وأرمن، إلى جانب التعدد الديني والطائفي من الدين الإسلامي بكل طوائفه، والدين المسيحي بكل طوائفه، فرض عليهم حزب البعث هوية عروبية بحتة، متجاهلاً حاجة كل مجتمع أو مكون لإفراز ذاتيته المختلفة في بيئة تتوفر فيها الحريات الكافية لذلك، وهذا الفرض ولّدَ حسب المفكّر الفرنسي جان ماري بونوا إلحاحاً للتخندُق وراء هوية متمايزة عن الهوية المفروضة، مما ولّدَ صراعات خفيّة قامت السلطات الأمنية باستغلالها لتتجذر أكثر، لا مبالية في التمزق الذي تحدثه ببنية المجتمعات السورية الهشة أساساً، فالفضاء العروبي الصاهر للهويّات، قام على تهشيم الجسور الطبيعية فيما بينها، والمتناسبة تاريخياً وكل منها، فبقيت المكونات السورية على حالها من فقدان التعريف الوطني ضمن الدولة السورية.

قرابة القرن والنصف يفصلنا عن أحداث نهاية القرن التاسع عشر، وما زال السلوك الإقصائي للأقليات وازدراء تمثيلها الهوياتي قائماً، لكن التاريخ الذي مرّ واستمرَ تطورياً على أوروبا، أو على دول العالم الأول كما سماه ألفريد سوفي، أخذَ يعيد نفسه مع دول العالم الثاني والثالث، مرّة بعد الحكم العثماني، ومرّة بعد الاحتلال الأوروبي، و أخرى بعد حكم الدكتاتوريات وويلات الثورات التي قامت لإسقاطها، فأصبح البحث عن الجذور الهوياتية أقرب للتنقيب في طبقات التاريخ المتراكمة. لكن في الوقت الذي يبدو فيه الأمر مستحيلاً يُمكن لأغنية أو لحن بسيط، لقطعة قماش مطرزة، أو لبيت في حي شعبي، أن يكون مواسياً، فلا يجب أن تذهب الأبحاث والتنقيبات بنا لننسى أننا أبناء هوياتنا المطمورة وتاريخنا الحزين، وأننا نُعيد طرح مفردات تلك الهويات بعفوية مطلقة، وهذا ما كان إشكالاً لدى نقاد القرن العشرين والواحد والعشرين عند تناولهم لأعمال فنانين استخدموا التدليل الهوياتي بفاعلية مثل غوستاف مالر، ليكون التساؤل: هل انسلّت الألحان البوهيمية والمورافية واليهودية إلى أعمال المؤلف بعفويّة؟ أم أن نبويّة مالر قصدت زجها في خطاباته الوجودية؟

أمّا في حالة الموسيقى في سورية لن يكون هذا المبحث معقداً إلى هذا الحد، لأننا إلى يومنا هذا لا نزال نستخدم المفردات الموسيقية ذاتها من مقام وإيقاع على الأقل منذ القرن الثاني عشر، فيما يمتد عمر آلاتنا الموسيقية التقليدية المستخدمة ليومنا هذا لعدة آلاف من الأعوام قبل الميلاد، لكن الإشكال الحقيقي يكمن في كتاب مثل الموسيقى التقليدية في سورية، الذي يُحاول فيه الدكتور حسان عبّاس اختصار جزء من الأزمة الهوياتية السورية بين دفتي كتاب، لكن بالنتيجة قدّم مثالاً جيداً عن معركة شدّ البساط الحضاري في سورية، والكارثة الأكبر كانت في الخارطة الإلكترونية للموسيقى السوريّة التي أطلقت على أثر كتاب الدكتور عباس، والتي تَظهر فيها أصابع المنظمات غير الحكومية تتهافت قصب السبق في المساهمة بإنقاذ الموسيقى السورية، والنتيجة كانت رصداً قاصراً مبنياً على القصور في الكتاب وفي تقديم التراث التقليدي السوري عموماً.

 

Continue Reading

Previous: الفنانة الأميركية س. أ. باكمان لـ “المجلة”: لا أفصل بين الفن والشأن العام عن كتابها الأحدث “فن المقاومة” الصادر العربية والإنكليزية ” أسامة إسبر….….المصدر: المجلة
Next: ساطع نورالدين حرب الخليج الثالثة..الخامنئي على خطى صَدّام…المصدر:صفحة الكاتب

قصص ذات الصلة

  • أدب وفن

“المقامر”: تشريح دقيق للذات الإنسانية آمال مختار……..المصدر:ضفة ثالثة

khalil المحرر يونيو 20, 2025
  • أدب وفن

جائزة المرأة للخيال” بدورتها الثلاثين: أصوات تتألق وجدالات تتجدّد سناء عبد العزيز.المصدر:ضفة ثالثة

khalil المحرر يونيو 20, 2025
  • أدب وفن

“ذكرى النور”… رحلة تأملية في التاريخ والذاكرة والآثار المنسية معرض جديد للثنائي خليل جريج وجوانا حاجي توما في متحف سرسق مهى سلطان……المصدر: اندبندنت عربية

khalil المحرر يونيو 20, 2025

Recent Posts

  • ما الذي يجعل منشأة “فوردو” النووية هدفاً بالغ الحساسية؟…المصدر: لبنان الكبير
  • محادثات جنيف.. هل تنجح الترويكا الأوروبية بمنع “السيناريو الاسوأ”؟المصدر:المدن – عرب وعالم
  • إسقاط النظام الإيراني بات وشيكا نستطيع القول أن قرار إسقاط النظام قد اتخذ لكن لم يبدأ العمل بهالمصدر:أسامة المصري – العربي القديم
  • تهافت كل انحياز يوسف بزي….المصدر: موقع المدن
  • “ذا ناشيونال”: غياث دلة طلب دعماً من إيران لإعادة بناء نفوذها في سوريا.المصدر:موقع تلفزيون سوريا

Recent Comments

لا توجد تعليقات للعرض.

Archives

  • يونيو 2025
  • مايو 2025
  • أبريل 2025
  • مارس 2025
  • فبراير 2025
  • يناير 2025
  • ديسمبر 2024
  • نوفمبر 2024
  • أكتوبر 2024
  • سبتمبر 2024
  • أغسطس 2024
  • يوليو 2024
  • يونيو 2024
  • مايو 2024
  • أبريل 2024
  • مارس 2024
  • فبراير 2024
  • يناير 2024
  • ديسمبر 2023
  • نوفمبر 2023
  • أكتوبر 2023

Categories

  • أدب وفن
  • افتتاحية
  • الأخبار
  • المجتمع المدني
  • الملف الكوردي
  • حوارات
  • دراسات وبحوث
  • مقالات رأي
  • منوعات

أحدث المقالات

  • ما الذي يجعل منشأة “فوردو” النووية هدفاً بالغ الحساسية؟…المصدر: لبنان الكبير
  • محادثات جنيف.. هل تنجح الترويكا الأوروبية بمنع “السيناريو الاسوأ”؟المصدر:المدن – عرب وعالم
  • إسقاط النظام الإيراني بات وشيكا نستطيع القول أن قرار إسقاط النظام قد اتخذ لكن لم يبدأ العمل بهالمصدر:أسامة المصري – العربي القديم
  • تهافت كل انحياز يوسف بزي….المصدر: موقع المدن
  • “ذا ناشيونال”: غياث دلة طلب دعماً من إيران لإعادة بناء نفوذها في سوريا.المصدر:موقع تلفزيون سوريا

تصنيفات

أدب وفن افتتاحية الأخبار المجتمع المدني الملف الكوردي حوارات دراسات وبحوث مقالات رأي منوعات

منشورات سابقة

  • الأخبار

ما الذي يجعل منشأة “فوردو” النووية هدفاً بالغ الحساسية؟…المصدر: لبنان الكبير

khalil المحرر يونيو 20, 2025
  • مقالات رأي

محادثات جنيف.. هل تنجح الترويكا الأوروبية بمنع “السيناريو الاسوأ”؟المصدر:المدن – عرب وعالم

khalil المحرر يونيو 20, 2025
  • مقالات رأي

إسقاط النظام الإيراني بات وشيكا نستطيع القول أن قرار إسقاط النظام قد اتخذ لكن لم يبدأ العمل بهالمصدر:أسامة المصري – العربي القديم

khalil المحرر يونيو 20, 2025
  • مقالات رأي

تهافت كل انحياز يوسف بزي….المصدر: موقع المدن

khalil المحرر يونيو 20, 2025

اتصل بنا

  • Facebook
  • Instagram
  • Twitter
  • Youtube
  • Pinterest
  • Linkedin
  • الأرشيف
Copyright © All rights reserved. | MoreNews by AF themes.