عقب سقوط النظام السوري السابق، شهدت السياسة الخارجية لسوريا تحولات جذرية وكبيرة، هذه السياسة التي لطالما تميزت في عهد نظام الأسد الأب والابن بالتحالف مع قوى إقليمية مثل إيران و”حزب الله”، وبالتقارب مع روسيا، وبالتوتر مع الغرب وبالعزلة مع دول الخليج وعلى رأسها السعودية. اليوم وفي ظل المتغيرات الإقليمية والدولية لا يُخفى على أحد أن الحكومة السورية الجديدة تحاول إعادة صياغة سياستها الخارجية لتتوافق مع هذه المتغيرات وتسعى للانفتاح على محيطها العربي والإقليمي والدولي.
العلاقات السورية الأوروبية
إعادة العلاقات الديبلوماسية السورية مع الاتحاد الأوروبي هي واحدة من أهم الخطوات التي تعمل عليها الحكومة السورية باعتباره فاعلاً رئيسياً في الملف السوري من خلال مواقفه السياسية والاقتصادية والإنسانية، إضافة إلى تأثيره على الاستقرار الإقليمي وعودة اللاجئين.
وبعد سقوط النظام السوري السابق، شهدت العلاقات السورية الأوروبية تحركات نحو الانفتاح، مدفوعة بمصالح أوروبية في تحقيق الاستقرار في سوريا، بغية تحقيق الاستقرار في المنطقة بأكملها، تهيئة الظروف لعودة اللاجئين وتجنب تدفق المزيد منهم، الحد من انتشار الإرهاب، ضبط الحدود، ومساهمة الشركات الأوروبية في ملف إعادة الإعمار.
وكشفت اللقاءات الأخيرة بين الحكومة السورية والوفود الأوروبية، اهتماماً متزايداً لدى الجانب الأوروبي بمسار العودة الطوعية والآمنة للاجئين السوريين مع التركيز على تخفيف العقوبات وتقديم المساعدات الإنسانية وإعادة الإعمار وتشديد الأوروبيون على ضرورة وجود عملية سياسية شاملة في سوريا، تشمل جميع المكونات كشرط أساسي لتحقيق الاستقرار والعودة المستدامة.
قضية اللاجئين السوريين: الجذور السياسية والامتداد الإقليمي
تعود الجذور السياسية لقضية اللاجئين السوريين إلى عدة عوامل أبرزها، اندلاع الحرب الأهلية في سوريا عام 2011، والذي أدى إلى تشريد الملايين من السوريين داخل البلاد وخارجها، بالإضافة إلى القمع السياسي الذي مارسه نظام الأسد ضد المعارضين له وتوقف الجهود الرامية لحل سلمي للأزمة السورية والانهيار الاقتصادي دفع بالكثيرين إلى الفرار بحثاً عن حياة آمنة ليجدوا أنفسهم لاجئين في دول الجوار ودول أخرى حول العالم.
واستقبلت دول مثل لبنان والأردن وتركيا والعراق العدد الأكبر من اللاجئين السوريين، مما ألقى بظلاله على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في هذه الدول، كما أدت أزمة اللاجئين لتعقيد المشهد السياسي في العديد من البلدان المضيفة، حيث تباينت مواقف حكومات وأحزاب هذه الدول من قضية اللاجئين، مما أثار جدلاً واسعاً حول كيفية التعامل مع هذه الأزمة، وهو ما جعلهم عرضة للتمييز العنصري وللعنف والاعتداء الجسدي أو اللفظي.
اقرأ أيضاً: غراندي: ترسيخ الأمن في سوريا ضرورة من أجل عودة اللاجئين
إحصائيات وأرقام وإجراءات
ووفقاً لأحدث التقارير الصادرة عن المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR)، بلغ عدد اللاجئين السوريين في العالم 6.2 مليون شخص بحلول عام 2025. وبحسب بيانات (UNHCR)، كانت تركيا أكبر دولة مستضيفة للاجئين السوريين حيث استقبلت 2.87 مليون لاجئ، بينما كانت ألمانيا أكبر دولة أوروبية مستضيفة للسوريين حيث بلغ عددهم 1.02 مليون لاجئ. وتأتي السويد في المرتبة الثانية بقائمة الدول الأوروبية المستضيفة للسوريين ثم هولندا والنمسا.
وكانت الأسباب السياسية والاقتصادية هي المحرك الرئيسي للهجرة الجماعية للسوريين إلى أوروبا، حيث فرّ السوريون من العنف والصراع الدائر في بلادهم، بحثاً عن الأمان والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في أوروبا، كما كانت العنصرية والترحيل القسري الذي تعرض له اللاجئون السوريون في دول الجوار مثل تركيا ولبنان سبباً في هجرة العديد منهم نحو أوروبا.
وتباينت السياسات الأوروبية تجاه اللاجئين السوريين بين الاستيعاب والصد، حيث سعت بعض الدول الأوروبية لتوفير الحماية والمأوى، بينما اتجهت دول أخرى نحو تشديد الرقابة على الحدود والحد من تدفق اللاجئين. وبعد سقوط النظام السوري السابق أعلن عدد من دول الاتحاد الأوروبي تعليق جميع إجراءات اللجوء للسوريين. وآخر الإجراءات خرجت من ألمانيا التي علقت طلبات لم شمل أسر اللاجئين السوريين الحاصلين على “الحماية الثانوية” لمدة عامين، كما أعلنت عن استعدادها لترحيل لاجئين سوريين مدانين بجرائم جنائية.
وتعكس هذه الإجراءات وفق محللين، تحولاً جذرياً في سياسات الهجرة الأوروبية تجاه السوريين. ورغم ذلك يثير هذا النهج الأوروبي مخاوف بشأن مصير الآلاف من اللاجئين، خاصة في ظل استمرار التحديات الأمنية والإنسانية في سوريا.
اقرأ أيضاَ: ألمانيا تعتزم التفاوض مع الحكومة السورية لترحيل اللاجئين المدانين بارتكاب جرائم
عقدة اللاجئين: ورقة ضغط أم عبء إنساني يجب حله؟
ومن جانبه، يرى الباحث في العلاقات الدولية، إلياس المر، في حديث لـ”963+”، أنه رغم هشاشة المرحلة الانتقالية في سوريا تمتلك دمشق ورقة اللاجئين كأداة ضغط حقيقية في التفاوض مع أوروبا، إلى جانب ورقة الأمن الحدودي في علاقتها مع تركيا، والتقاطع الجيوسياسي مع مشاريع الطاقة والممرات البرية الإقليمية.
السياسة الخارجية للحكومة الجديدة إذا ما ارتكزت على خطاب تصالحي وشراكات عقلانية، يمكن أن توظف قضية اللاجئين كمحرّك ديبلوماسي لاستعادة الثقة الأوروبية، خصوصاً أن العواصم الغربية تدرك أهمية استقرار سوريا في كبح موجات الهجرة. وقد يشكل الملف أيضاً مدخلاً إلى مفاوضات دولية أوسع بشأن إعادة الإعمار، حيث تتقاطع المصالح الإنسانية مع الأجندات الاقتصادية والاستراتيجية لأطراف دولية عدة، وفق المر.
اقرأ أيضاً: هل تأمنت عودة اللاجئين إلى سوريا؟
كيف تنظر أوروبا لسوريا الجديدة؟
ويضيف أن الدول الأوروبية تنظر بحذر إيجابي إلى الحكومة السورية الجديدة، وتقرأ التغيير كفرصة محتملة لإعادة صياغة العلاقة مع سوريا خارج إرث النظام السابق. ومع ضغط الداخل الأوروبي بشأن أزمة اللاجئين، يُمكن لهذا الملف أن يشكّل البوابة الواقعية الأولى لإعادة التواصل، وفق المر، شرط توفر ضمانات مؤسسية وأمنية لعودة طوعية ومستدامة، بعيداً عن التجاذبات الإيديولوجية.
ويزيد المر قائلاً: ‘‘كل هذه الاحتمالات والفرص والتحديات رهن إثبات المرحلة الانتقالية قدرتها على حسن إدارات الملفات، في ظل التحديات الداخلية، المتمثلة في الوضع الاقتصادي والاجتماعي والأمني الذي لا زال متأرجحاً وسط ظهور أفعال عدائية إجرامية وصولاً الى المستوى الإرهابي، آخرها كان تفجير كنيسة مار الياس بالعاصمة دمشق’’.
فالمؤشرات الإيجابية بحسب الباحث في العلاقات الدولية وحدها تستطيع الدفع في عجلة الملفات قدماً، وتبديد الهواجس، وسط ترقب دولي وحذر إقليمي من سرعة المتغيرات الجيوسياسية في المنطقة، وسوريا واحدة من معالمها المهمة.
جلال أمين محامي استشاري في قضايا الهجرة واللجوء، مقيم في برلين، يوضح في تصريحات لـ”963+”، أن الدول الأوروبية لا تزال حذرة في التعامل مع الحكومة السورية وتراقب من بعيد، ولا يعتقد أمين أن ملف اللاجئين السوريين سيكون مدخلاً لإعادة الانخراط السياسي والاقتصادي مع الحكومة الجديدة. ويتابع قائلاً: “إذا لم تتوفر ضمانات عودة آمنة ولم تتحول سوريا إلى دولة ديموقراطية تضمن حقوق جميع مكوناتها، فلن يكون هناك أي تعاون ما بين الدول الأوروبية والنظام الحالي”.
وبالنسبة لموقع سوريا في التوازنات الإقليمية والدولية، يعتقد أمين أن سوريا لا زالت غير قادرة أن تعطي أي وزن لأنها رهينة القوى التي تتقاسم سوريا مثل تركيا وروسيا والولايات المتحدة وقطر والسعودية. ويردف: “من الصعب أن تضغط سوريا ديموغرافياً على أزمة اللاجئين وغيرها ولا تستطيع أن تبتز أوروبا بحجة اللاجئين، ولا يمكنها أن تربط ملف الإعمار بملف اللاجئين لأن القوانين الأوروبية لا تسمح إعادة اللاجئين بالسهولة التي يتوقعها الغير”.
وفي ظل المتغيرات الحاصلة إقليمياً ودولياً، يجمع المراقبون، أنه من الضروري إعادة تفعيل العلاقات السورية الأوروبية، تراعي فيها سوريا المخاوف الأوروبية وتسارع إلى تقديم خارطة طريق سياسية واضحة لتعزيز الثقة، احترام حقوق الإنسان، التعاون في ملف اللاجئين، وتقديم ضمانات أمنية وقانونية للعائدين، وعلى أوروبا أيضاً تخفيف العقوبات، دعم مشاريع إعادة الإعمار، والمساهمة في آلية مراقبة العودة الطوعية للاجئين.
تصفح أيضاً