يبدو أنه لا يزال هناك طريق واحد وهو الذي يؤدي إلى دمشق
بمقدور توم باراك أن يبدأ الآن بالتفكير في كتابة مذكراته. فكرة أن يكون هو المبعوث الأميركي الذي يتولى ملفين ملتهبين ومتداخلين، كالملفين السوري واللبناني، وفي لحظة تأسيسية في المنطقة تحاكي لحظة ما بعد انهيار السلطنة العثمانية، مغرية جدا لأي دبلوماسي غربي قرأ سيرة لورانس العرب أو سمع عنه.
ولا شك أن أحداث السويداء الأخيرة بكل ما فيها من “خصائص” شرقية ستكون محفزا إضافيا لباراك للمباشرة بكتابة سيرته التي سيكون توليه ملفي لبنان وسوريا أبرز محطاتها، إضافة إلى قصة هجرة والده من زحلة في لبنان إلى أميركا وكيف انطلق من الصفر ليصبح رجل أعمال ثريا مثل بقية أصدقاء ترمب ومبعوثيه.
إنها فعلا فرصة سانحة لباراك لا تتوفر إلا نادرا لدبلوماسي غربي في المنطقة، خصوصا أن طبيعة الأحداث المتلاحقة ولاسيما في سوريا تصلح لحبكة روائية استثنائية. وسيحتاج المبعوث الأميركي عالم أنثربولوجيا متخصصا بعشائر البدو والدروز ومؤرخا للعلاقة التاريخية بينهما، كما سيكون ملزما بالاطلاع على الأرشيف العسكري والاستخباري البريطاني والذي يغطي حقبة طويلة من تدخل الإنكليز في الجنوب السوري والمنطقة. ويمكنه والحال هذه أن يقيم مقارنات ممتعة بين الأسلوب الإنكليزي والأميركي في حياكة الدسائس والمؤامرات كما تسميها الروايات الشائعة.
والأدهى أن الحاضر لا يقل أهمية عن الماضي في كل القضايا السورية ومرادفاتها اللبنانية، بل إن الحاضر فيه الكثير من استعادات الماضي وكأن تجاوزه مهمة مستحيلة في هذه المنطقة
والأدهى أن الحاضر لا يقل أهمية عن الماضي في كل القضايا السورية ومرادفاتها اللبنانية، بل إن الحاضر فيه الكثير من استعادات الماضي وكأن تجاوزه مهمة مستحيلة في هذه المنطقة، وهو ما شهدت عليه أحداث السويداء التي أعادت إنتاج خلافات عشائرية تعود إلى مئتي عام، وهذا كله يقوي حبكة باراك ويزيد روايته تشويقا. أضف إلى ذلك أن الأحداث لا تقتصر على الأبعاد المحلية بكل تفاصيلها السياسية والاجتماعية والتاريخية، بل هي تختزن في دوافعها وسيروراتها كل أنواع التجاذبات والصراعات الدولية والإقليمية، بحيث لا تعدو في النهاية سوى صدى لها كلها، أو أنه لا يمكن قراءة الأحداث بأبعادها المحلية وحسب بكل ما أظهرته هذه المحلية من إجرام وتفاهة.
إلى ذلك يمكن لباراك أن يكون فخورا بأنه كان شاهدا خلال فترة قصيرة جدا على تسارع هائل للأحداث، فلا يكاد يخبو حدث لبناني حتى يبدأ حدث سوري أخطر منه، وكل ذلك بفارق ساعات قليلة، وبذلك يكون قد أثبت قدرات استثنائية على الإلمام بأحداث متسارعة ما يضطره إلى نقل تركيزه من ملف إلى آخر بين عشية وضحاها. هكذا بعد أن كان يركز على ملف سلاح “حزب الله”، انشغل بإطفاء حريق السويداء، ثم عاد إلى لبنان بتكليف مباشر من الرئيس دونالد ترمب، “الذي يولي الملف اللبناني أهمية بالغة ضمن رؤيته لتحقيق استقرار إقليمي شامل”. لكنه أكد في المقابل أن بلاده لا تستطيع أن تجبر إسرائيل على القيام بأي شيء، أي إنه لا يضمن وقف إسرائيل لهجماتها في لبنان إلا في حال تم التوصل إلى اتفاق جديد غير ذلك الذي أنهى الحرب الأخيرة، على أن يشمل تسليم “حزب الله” أي سلاح يمكن أن يهدد إسرائيل، ولو احتفظ بكل ترسانته من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة لاستخدامها في أي اقتتال داخلي مستقبلا!
أ.ف.بأ.ف.ب
شخص يحمل لافتة كُتب عليها “لن نترك السلاح” خلال إحياء حزب الله مراسم عاشوراء، في الضاحية الجنوبية لبيروت، في 6 يوليو
ولعل هذه الرؤية الأميركية لتحقيق استقرار إقليمي شامل هي أكثر ما يجب التوقف عنده لفهم الأحداث السورية التي تعكس مجمل المشهد الإقليمي الجديد، انطلاقا من مواقف القوى المنخرطة في النزاع وموازين القوى الجديدة التي أفرزتها الحرب الإقليمية منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
يبدو أنه لا يزال هناك طريق واحد في سوريا وهو الذي يؤدي إلى دمشق، كما قال المبعوث الأميركي، في إشارة إلى الرغبة الأميركية في اندماج “المكونات السورية” جميعا ضمن الدولة الجديدة
والعامل الإسرائيلي هنا ليس عاملا ثانويا أيضا بل هو عامل رئيس بالنظر إلى أن إسرائيل أصبحت فاعلا أساسيا في المشهد السوري خصوصا بعد قصفها مقر قيادة الأركان ومحيط القصر الجمهوري. ثم وفي خضم مواجهات السويداء أعلن عن التوصل لوقف إطلاق النار بين سوريا وإسرائيل في اعتراف على أن إسرائيل طرف في المواجهة التي تدور في الجنوب السوري.
لكن العامل الإسرائيلي في سوريا يبدو إشكاليا أكثر من ساحات أخرى بالنظر إلى الانخراط الأميركي المكثف في “بلاد الشام” والذي يعبر عنه المبعوث باراك في دعم الحكومة المركزية في دمشق، مقابل الرفض الإسرائيلي- غير المعلن رسميا- لأن تكون سوريا دولة مركزية. بيد أن هذا التناقض حول طبيعة الدولة السورية بين واشنطن وتل أبيب يبدو أنه قابل للاحتواء في المدى المنظور، خصوصا أن “المرحلة الانتقالية” في سوريا لن تكون قصيرة في ضوء تفجر التناقضات الداخلية واحدا تلو الآخر، واستمرار الصراع الإقليمي حول سوريا ولاسيما بين تركيا وإسرائيل التي ما فتئت تنظر بحذر شديد إلى دعم أنقرة للرئيس أحمد الشرع.
إلا أنه لا يبدو أن أحداث السويداء قد جعلت واشنطن تعيد النظر في استراتيجيتها تجاه سوريا وهو ما عبر عنه باراك بقوله إنه لا توجد خطة عمل أميركية بديلة عن دعم حكومة الشرع، وإن قال من بيروت أن “الحكومة السورية يجب أن تحاسب بعد السيطرة على كامل الدولة”. وهو تصريح حمال أوجه، إذ أقرن المبعوث الأميركي هذه المحاسبة بسيطرة حكومة دمشق على كامل الدولة، فهل يقصد السيطرة على كامل الجغرافيا السورية أم على جميع القوى العسكرية بما في ذلك تلك الموالية للحكومة؟ لكن من جانب آخر فإن الكونغرس الأميركي يناقش إجراءات لضبط عملية رفع العقوبات عن سوريا، وهو ما يمكن أن يشكل عامل ضغط على الحكومة السورية التي بذلت أقصى جهودها لرفع هذه العقوبات.
أيا يكن من أمر فإنه لا يمكن أن تتغاضى حكومة دمشق عن إطلاق آليات محاسبة جدية لكل الانتهاكات التي تتهم قوى موالية لها بارتكابها، وإلا فإنها ستظل تواجه تآكلا مضطردا في شرعيتها الداخلية وهو ما يضعف في نهاية المطاف مفاعيل الدعم الدولي والإقليمي لها. وعلى الأرجح سيشكل الإعلان عن تقرير لجنة التحقيق في أحداث الساحل والتي وثقت 298 شخصاً “ممن ثبت تورطهم بانتهاكات”، بداية مسار المحاسبة تلك.
إذن من الواضح أنه لا يزال هناك طريق واحد في سوريا وهو الذي يؤدي إلى دمشق، كما قال المبعوث الأميركي، في إشارة إلى الرغبة الأميركية في اندماج “المكونات السورية” جميعا ضمن الدولة الجديدة.
غني عن القول أنه لا يمكن فهم المشهد السوري في المرحلة المقبلة من دون الأخذ في الاعتبار أوجه الاتفاق والاختلاف بين واشنطن وتل أبيب حول سوريا
بيد أن إسرائيل باتت تفرض، وبعد أحداث السويداء أكثر مما قبلها، أمرا واقعا في الجنوب السوري يجعل تحقيق هذا الاندماج أكثر صعوبة، وفي المقابل فإنه لا يبدو أن الولايات المتحدة تمتلك خريطة طريق واضحة لمعالجة هذه الثغرة أمام تحقيق استراتيجيتها لسوريا موحدة. هذا إذا كانت بالفعل مستعجلة لتنفيذ هذه الاستراتيجية، غير أن الأكيد أنها راغبة في سحب قواتها من سوريا بسلام وتسليم ملف “داعش” لتركيا، وهو ما يجعلها مضطرة للأخذ في الاعتبارات التركية في سوريا، وهو ما يثير تحفظات إسرائيلية.
لكن في المقابل لا يبدو أن تصريح باراك من بيروت بأن أميركا لا تضمن سلوك إسرائيل ينطبق على سوريا، حيث يبدو حتى الآن أن واشنطن ترسم خطوطا حمراء أمام تل أبيب هناك، ولو كان ثمة من يرى أن الشرع أخطأ في تقدير الموقفين الأميركي والإسرائيلي من تحرك قواته في السويداء، إلا أن واشنطن ضغطت على إسرائيل للقبول بانتشار هذه القوات في المحافظة الجنوبية بعد أن كانت قد رفضت ذلك بداية. فإذا كانت إسرائيل قد رسمت بالنار خطوطا حمراء أمام الحكومة السورية، فإن واشنطن في المقابل رسمت من خلال تجديد تأكيدها دعم الرئيس السوري خطوطا حمراء أمام إسرائيل في سوريا، وإن كانت قد “تفهمت” مبررات إسرائيل للتحرك دعما للدروز المعارضين للحكومة السورية، لأسباب داخلية متصلة بموقف الدروز في إسرائيل (وأيضا بحاجة نتنياهو و”الليكود” إلى أصواتهم في أي انتخابات مقبلة).
وغني عن القول أنه لا يمكن فهم المشهد السوري في المرحلة المقبلة من دون الأخذ في الاعتبار أوجه الاتفاق والاختلاف بين واشنطن وتل أبيب حول سوريا، والتي تتجاوز بطبيعة الحال الموقف من الخلاف بين الشرع و”المتمردين الدروز”. فإسرائيل لم تنظر بإيجابية إلى التغيير السوري في 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي، خصوصا أنها رأت فيه فرصة لتركيا لترسيخ حضور اقتصادي وعسكري على حدودها الشمالية.
لكن الولايات المتحدة نجحت في فتح قناة اتصال إسرائيلية تركية حول سوريا في أذربيجان، ومن ثم قناة سورية-إسرائيلية بوساطة عربية. والحال فإن الضغط الأميركي للتوصل لوقف إطلاق النار بين سوريا وإسرائيل خلال أحداث السويداء أوحى بأن طريق المفاوضات بينهما لم يغلق، وتتردد معلومات الآن عن تفعيل القنوات الإسرائيلية-التركية والإسرائيلية-السورية، ولكن بأي شروط لحكومة دمشق التي بات التحدي الإسرائيلي يطرق أبوابها بقوة، والتي كان موقفها عشية أحداث السويداء أقوى بأشواط؟ فكيف ستعوض دمشق موقف الضعف هذا في حال لم تر واشنطن بدا من تعديل ميزان القوى مجددا من خلال الضغط على إسرائيل لتخفيف شروطها وحضورها في الجنوب السوري؟ إلا أن الأكيد أنه بات أمام الحكومة السورية مهمات داخلية (بالأخص) وخارجية شاقة، ولولا الحذر من استعادة عبارات لا يرغب السوريون في سماعها لقلنا أنها تحتاج إلى “حركة تصحيحية”، وهذه مقارنة قد تغري أيضا توماس براك لذكرها في مذكراته!
+ / –
font change
حفظ
شارك